لا أحد يجادل اليوم في أن المجتمع المغربي، كغيره من المجتمعات العربية، يعيش حالات عديدة من الازدواجية والتناقض الصارخين في تفكيره وسلوكه الاجتماعي، داخل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي ضاغط ومأزوم بالنسبة للسواد الأعظم من الناس، وميسور بالنسبة للقلة القليلة التي استطاعت، سواء بدهائها السياسي أو بذكائها الاجتماعي أو بفضل موجة " الربيع العربي " التي حملت الكثير من المتنفعين إلى مواقع السلطة والنفوذ ( الوزارة والبرلمان )، أن تصبح بقدرة قادر في بحبوحة من العيش، تمثل دور "النضال "، و تلبس زَيّ " الالتزام الديني والأخلاقي والسياسي " هنا ( في الداخل )، بينما تنزعه هناك ( في الخارج )، وكأن الأمر يتعلق فقط بضرورات وظيفة أو دور تمثله هذه الفئة القليلة، والمحظوظة فعلا، في المشهد السياسي والاجتماعي الوطني ؟ والأمثلة على ذلك، في مغرب اليوم، كثيرة ومعروفة، من حالة النائبة البرلمانية المغربية التي تنزع الحجاب هنا، وتُسقطه هناك في الفضاء الباريسي، إلى قصة الوزير المغربي الملتحي الذي يعيش " الالتزام " هنا ويتخلى عنه هناك في بلاد الغال وشوارعها المفعمة بالمتعة والحرية والحياة. إذ يتأكد بالملموس مغزى تلك العيطة المغربية القائلة: " مَنْ الوَادْ لْهِيهْ .. كَاعْ رَاشَقْ لِيهْ .. "، وتُسعفنا الثقافة الشعبية المغربية مرة أخرى ببلاغتها وأقوالها المأثورة التي تشفي الغليل، بالدليل والاستدلال، وأفهم أيضا كمغربي محب للحياة لم يجد إلى مباهجها، بسبب ضيق ذات اليد، فرصة وسبيلا، القوة التعبيرية لهذه العيطة البليغة، أي أن كل من استطاع العبور إلى ما وراء هذا " الواد "، الذي لا يعني هنا سوى البحر، ستكون أمامه كل الفرص متوفرة ليعيش الفرح والحرية والحياة ويستمتع بها كما يشاء، وهكذا أكون أيضا قد وضعتُ عنوان هذا المقال في سياقه الصحيح. ليس العيب هنا، بالنسبة لهؤلاء وغيرهم، في كونهم يمارسون حقهم وحريتهم في أن يعيشوا حياتهم الشخصية كما يريدون، إذ ليس لأحد الحق في مصادرة الحريات الشخصية للآخرين أو أن يُنَصّب نفسه حارسا للأخلاق، لكن العيب يكمن في هذه الازدواجية الصارخة في طريقة التصرف والتواجد بين أزمنة الداخل وأزمنة الخارج على حد سواء، بين ال " هُنا " و ال " هناك "، وإلا ما المانع في أن يحظى كل المغاربة، ذكورا وإناثا، بهذا الامتياز : مشاهدة برلمانيات المغرب المتحجبات بلباس البحر أو باللباس المتحرر، على الأقل، من قمع الجسد وكبح خصائصه الأنثوية ؟ أو الاستمتاع كذلك بمشهد وزير ملتح يمسك يد شريكته بتنورتها القصيرة في الشارع العام ؟ كان ذلك سيضفي الكثير من البهجة والجمالية وتَقَاسُمِ حب الحياة وأشكالها المتحضرة على المشهد اليومي للمواطن المغربي، هو المشهد الذي أصبح يعج حَدّ القرف والتخمة بالكثير من مظاهر البؤس واليأس والمعاناة ومعاداة الحياة كذلك.. لماذا يمارس إسلاميو المغرب هذه الازدواجية في الفكر وفي السلوك ؟ أليسوا هم من حاكموا ذات مرة، وبأقصى التهم والنعوت الفنانة " لطيفة أحرار "، حين ظهرتْ بلباس يشبه لباس البحر في أول تجربة لها في الاشتغال على الشعر وتقديمه على خشبة المسرح، من خلال إخراجها للعمل المسرحي المونودرامي " كفر ناعوم أوتو – صراط "، والذي يقوم على توظيف مقاطع شعرية من ديوان "رصيف القيامة " للشاعر " ياسين عدنان "، إذ اعتبر هؤلاء الإسلاميون، وقْتَها، بأن " أحرار " تعمدتْ تضمين عملها المسرحي إيحاءات جنسية، وأقاموا لها محاكمة عنيفة وصلتْ إلى حد تكفيرها واتهامها بتحريف القرآن الكريم من خلال طريقة صياغتها لبعض حوارات المسرحية ؟ في حين، كانت الضرورة التعبيرية فقط، بالنسبة لمخرجة العمل المسرحي وممثلته في نفس الوقت، تقتضي التخلص من البذلة الرسمية لشخصية رجل، كانت ترتديها في المشاهد الأولى، لتؤدي مشاهد أخرى بما يشبه الملابس الداخلية، لتستخدم فيما بعد هذا اللباس لتوليد مفارقة بصرية صادمة تستحضر فيها النقاب، وكل ذلك ضمن سياق ومقتضيات أدائها اللاحق في المسرحية. لم يفرق الإسلاميون آنذاك بين ضرورات التعبير الفني وأشكاله، وما أسموه حينها ب " التعري " لفنانة لم تكن تقصد أبدا ما ذهب إليه خيال هؤلاء " النّقَدة " الجدد للفن ولتعبيراته الممكنة. هذه أيضا كانت وما تزال مفارقة الازدواجية في الحُكْم وفي التفكير لدى الإسلاميين المغاربة، هي المفارقة التي لا يقبل بها رأي وحُكم الهامش المغربي فيما أعتقد، وهذه رسائله التي تصل أيضا إلى من يعنيهم أو يهمهم الأمر، بنفس القوة البلاغية والدلالية التي يتوخاها كل مزدوجي الفكر والسلوك ومحترفي الخطابات الماكرة والمضللة، تماما كما لو أن الأمر يتعلق بلعبة، كل طرف يحاول أن يشد الغطاء إلى جانبه لكي تبدو عيوب الآخر وحيلته أو عورته ( لا فرق ) بادية للعيان، والشاطر هو الذي يستطيع أن يسجل في مرمى وشباك الآخر أكبر عدد من الأهداف، ليجعله وجها لوجه أمام سذاجته ثم موضوعا للاستقطاب والسخرية والتجريح كذلك. لكن ما لا يدركه هؤلاء الازدواجيون فكرا وثقافة وسلوكا، هو أن المجتمع المغربي، بكل أصنافه وشرائحه، له تاريخ أو باع طويل ( كما يقال ) مع أفعال وتقنيات وأساليب هذه الفئة من المتحزبين الذين يستغلونهم دينيا وسياسيا، ويضخمون بطونهم وأرصدتهم المالية ويلمعون العلامات التجارية لمؤسساتهم الحزبية وإيديولوجياتهم وجمعياتهم وجماعاتهم وزواياهم كذلك، تارة باسم " النقاء " و " نظافة الذمة "، وتارة باسم الدين والسياسة، حينئذ يستعين البسطاء من الناس بلسانهم فقط: هذه الوسيلة البسيطة والفتاكة والمتاحة للجميع في نفس الوقت، إذ لا يكلف استعمالها أي شيء تقريبا، سوى القليل من التأمل والنباهة والانتباه إلى كيفية تركيب اللعبة وقانونها وثغراتها الكثيرة ، وذلك ليجترح نفس المجتمع لنفسه نُكَتَه الخاصة وسخريته السوداء من تجار الدين والسياسة، مضيفين بذلك مساهمتهم الشخصية في هذا المتن الهائل من الأقوال والمأثورات وأشكال التعبير اللغوي الساخر والشعبي التي نجهل دائما مؤلفها الحقيقي، باعتبارها نصا شفاهيا جماعيا أبدعه أو ، بالأحرى، ارتجلَه شعب بأكمله لحاجاته الخاصة، وأطلقه في التداول العام لتتقوى دلالته بالتعليقات والتعديلات والإضافات. هكذا تعيش البلاغات الساخرة في قلب المجتمع والهامش وذاكرته الحية، ويتحول كل المغاربة بهذا المعنى إلى فكاهيين ولسانيين ( ليس بمفهوم " الألسني " أو المتعلق بدراسة علم اللغات في منحاها التركيبي والدلالي ) بل بالشكل الذي يجعلني مثلا، كواحد من هذا الهامش المغربي الشاسع، أضيف بدوري بعض الدلالات الأخرى ( غير المصرح بها وغير المتوقعة أحيانا) لنصوص الآخرين وأقوالهم وشعاراتهم، ثم أقوم بتعديلها وتنقيحها بطريقتي الخاصة، لتبدو أكثر وضوحا وملائمة لحاجتي الخاصة في السخرية ونقد الكثير من الأفعال والسلوكات المزدوجة للطبقة السياسية المغربية.