بعد تنصيب " حكومة التناوب التوافقي " في المغرب أو " حكومة اليسار " التي ترأسها آنذاك الأستاذ "عبد الرحمان اليوسفي" في 14 مارس من سنة 1998، كنتُ قد وجهتُ حينها، عبْر جريدة "العَلَم" المغربية، رسالة مفتوحة إلى الأستاذ اليوسفي كوزير أول، أحيي فيها هذا الرجل الاستثنائي في التاريخ السياسي للمغرب، وأهمس من خلالها في أذنه، كمواطن مغربي، بالكثير من التطلعات والانتظارات والهواجس والأحلام التي ظلتْ معلقة أو مؤجلة ولم تتحقق بعد. وكان عنوان رسالتي المفتوحة إلى السيد اليوسفي هو: " بخط يد أخرى "، تيمُّنا أو اقتداء بالعمود الشهير " بخط اليد " الذي كان يكتبه بجريدة " العَلَم "، وعلى مدى سنوات عديدة، الأستاذ الكاتب والقاص المميز " عبد الجبار السحيمي " رحمه الله، هو الذي كان يَشْغَل وقْتَها منصب رئيس تحرير هذه الجريدة المرموقة، والتي كان لها حضورها القوي والمميز أيضا في تاريخ الصحافة المغربية. وبما أني كنتُ وقتَها من المداومين على الكتابة في جريدة " العَلَم "، سواء على مستوى النشر في مُلحقها الثقافي أو في صفحتها الأخيرة، فقد تواطأ معي وبشكل جميل، أو، بالأحرى، تواضع كثيرا معي الأستاذ " السحيمي "، ومنحني مساحة عموده الخاص " بخط اليد "، لأوجّه من خلالها رسالتي إلى اليوسفي، وتلك كانت التفاتة عظيمة ودالة من رجل عظيم وشامخ القامة كالأستاذ " السحيمي "، أن يمنح مساحة عموده الخاص لصوت، ربما كان وقْتَها، ما زال يبحث عن امتدادات أكثر لأفقه الممكن في مَجاهِل الأدب والصحافة الثقافية المغربية على وجه التحديد. من هنا، يكون احترامي الفائق واجبا لأديب وكاتب صحفي عملاق من عيار " عبد الجبار السحيمي "، وتكون منسابة استعادة بعض أسئلتي وهواجسي القديمة التي كنت آنذاك قد طرحتها للوزير الأول " اليوسفي "، شرطا وضرورة أيضا في كتابة هذا المقال. كانت رسالتي المفتوحة موجهة إلى شخصين: الأول صديق عزيز لي " عزوز البوسعيدي "، مثقف وموظف سابق في قطاع التعليم، كان قد ضاق ذرعا بالبلاد، أو ضاقت البلاد ذرعا به ( ما الفرق ؟ )، وتقلصتْ السماء كما الهواء والتراب في عينيه، فقرر الهجرة إلى الخرج من دون ضمانات، تاركا وراءه " الجَمَل بما حَمَل " كما يُقال، فاتحا مصيره على المجهول وبَرْدِ المَنافي. أما الثاني فهو الوزير الأول آنذاك: الأستاذ " عبد الرحمان اليوسفي ". في نفس الرسالة كنت قد طلبتُ من صديقي " عزوز " التخلي عن تجربة المنفى والعودة إلى البلاد، على أساس أن سبب هجرته إلى الخارج لم يعد هناك ما يبرره، وأن آفاق الحلم والإصلاحات الحقيقية قد انفتحتْ في المغرب مع مجيء وزير أول من طينة " اليوسفي ". تلك كانت قناعتي آنذاك، على الأقل، أو حلمي الجميل في ما أعتقد ؟ والآن، والمغرب بين يدَيْ حكومة " سعد الدين العثماني "، هل تَغيّر شيء بالفعل ؟ وهل " هناك جديد تحت الشمس " ؟ شمس المغرب تحديدا، هذا القرص الملتهب الذي يبيع المغرب بالعملة الصعبة دفئَه وضوءَه للقادمين من بلدان الصقيع والضباب، فيما تكتوي جلود فقرائه ومواطنيه البسطاء بأشعته الحارقة. وإذا ما عدنا إلى أسئلة الماضي بخصوص الإصلاحات في المغرب وآفاقه المشتهاة ( نفس الأسئلة التي كنت قد همستُ بها في أذُن " اليوسفي ")، فإن المتتبع لحال المغرب، الآن وقبل الآن، وما تراكم في جوفه من أحداث، قد لا يحتاج إلى الكثير من الجهد كي يدرك ما ظَل يطَبَع جسده السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي من أعطاب، وتعثرات، وصراعات على المواقع، وخلط للأوراق، وارتباكات بالجملة، وتراجعات كذلك. بحيث أصبحت هاته الأعطاب سمة بارزة في الكثير من لحظاته التاريخية الحاسمة التي كان المغرب قد أخطأ فيها الكثير من مواعيده الممكنة مع الكثير من الإصلاحات. إذ ما زالت هاته الأعطاب مكونا أساسيا من تفاصيل المشهد أو المعيش اليومي للمواطن المغربي، هذا المواطن الذي فقد بدوره تماما بوصلة التوجيه، وأصبح، بفعل كمية اللبس المتراكمة في حياته اليومية وانتظار إصلاحات قد تأخرت كثيرا أو قد لا تأتي بالمرة، غير قادر حتى على فهم ما يجري من حوله من جهة، ثم تحديد ملامح أو نتائج هذه " الإصلاحات " التي وُعِدَ بها في العديد من المحطات السابقة من جهة ثانية، انطلاقا مما سمي ب " الاستحقاقات السياسية " التي أعقبتْ " ربيعه العربي "، مرورا ب " دستور 2011 " الذي ما زال بدوره معطلا، وينتظر الكثير من المعارك وإجراءات التنزيل التي تعذر تحقيقها أو لم تَحصُل بعد، بشهادة واعتراف العديد من المحللين والفاعلين السياسيين والإعلاميين المغاربة، بما فيهم بعض أولائك الذين شاركوا في صياغة نفس الدستور " الجديد ". ثمة أزمة حقيقية ومتعددة الوجوه وواضحة المعالم في المشهد المغربي: أزمة في التعليم، أزمة في الصحة، أزمة في التشغيل، وأزمة في جيب المواطن الذي أصبح عاجزا عن مسايرة متطلبات الحياة بفعل ارتفاع تكاليف المعيشة والزيادات المتتالية في الأسعار، أزمة في نضج الطبقة السياسية المغربية، وأزمة في القرار وفي الخطاب الذي تنتجه أو تطرحه النخب السياسية ( الحاكمة منها وغير الحاكمة ). أزمة في الداخل وفي الخارج: انطلاقا من تصريف الشأن العام اليومي للمواطن المغربي، وصولا إلى صورة المغرب في الخارج. هي الصورة التي لم تستطع " الآلة الدبلوماسية المغربية " المعطوبة كذلك، الآن وقبل الآن، تسويقها بشكل جيد لدى الخارج وضمن السياق الدولي. إن مَنْ يحاول أن يصمت عما يقع في المغرب الآن وعن حاله، عن قصد أو بدافع مصالح شخصية، ضيقة وعابرة، ويخفي وجْه هاته الأزمة وأبعادها، أو يعمل على تصريفها أو حتى تصديرها إلى الخارج، إنما يُجانب الصواب ويحاكي ما تفعله " النعامة " حين تبادر إلى إخفاء أو دفن رأسها في الرمال كلما تَهددها الخطر، تاركة باقي جسمها أو " قزِّيبَتها " في العراء، على حد التعبير الدّارِج المغربي. من ثَم، أعود وأقول للشاعر الكبير " عبد الله راجع " الذي مات، أن يغفر لي زلتي في استعارة عنوان ديوانه الجميل " سلاما وليشربوا البحار " ووضعه عنوانا لهذا المقال، ولأستاذي وأحد نماذجي القليلة في الصحافة والأدب " عبد الجبار السحيمي " الذي مات، ولصديقي " عزوز البوسعيدي " الذي ما زال متنقلا بين منافيه الباردة، بأن حال المغرب ما زال كما كان، بل أصبح أسوأ مما كان، لذلك لا فائدة من عودته إلى البلاد حتى يثبُت العكس، وحتى يبرهن " سعْد " بأنه أفضَل من " عبد الرحمن "، إذ بين مرحلة هذا الرجل وذاك، تم تصريف الكثير من الأمور ومن الأفعال، اللغوية منها وغير اللغوية، حتى ما هو ممنوع من الصرف، وأنه بعد " عبد الرحمن "، جاء " إدريس "، وجاء " عبّاس "، وجاء " عبد الإله " الذي بدأت معه حكومة " أولياء الله الصالحين "، وهو الذي أسس في المغرب نظرية " التماسيح والثعابين "، وأدْخَل البلاد في وضع " الحال " وطقس " الحال "، ليس بتعريفه في القاعدة أو في الظاهرة اللغوية، باعتباره " وصفا لمنصوب يبين هيئة ما قبله من فاعل أو مفعول به أو منهما معا، أو من غيرهما عند وقوع الفعل "، بل من حيث التصاقه أو قرينته بمفهوم " الجذبة " والدخول في حالات " الانخطاف " و " الغيبوبة الروحية " وطرق " الكشف " وصيغ توصيف الواقع وتدبيره بفروض الرمز وأدواته، وما يعنيه أيضا هذا المفهوم، سواء داخل الحقل الصوفي، أو داخل الدلالة الثقافية أو الأنثروبولوجية للثقافة الشعبية المغربية والعربية بشكل عام. أعود وأقول لصديقي المهاجر قسرا بأن الماضي أو المسافة بين " عبد الرحمن " و " سعْد " لا تهم، والحاضر لا يهم، والمستقبل لا يهم، بل ما يهُم هو الهَمّ. وأنني كمواطن مغربي، بعد كشوفات " عبد الإله " ومن تلاه من " الأولياء " و " التابعين "، أشعُر بأن " الفأر بدأ يلعب في عَبّي " كما يقول الأشِقّاء المصريون في بلاغاتهم الشعبية الرائعة، مما يجعل الهجرة، بالنسبة لي، خيارا واردا، بل مرجّحا أكثر من ذي قبل على وجه التحديد، وأنني وجدتُ في " الظاهرة الغيوانية " المغربية، التي مازالت تعبيراتها و" كشوفاتها " الإبداعية والرمزية قائمة ومحفورة في وجدان المغاربة وذاكرتهم الجمعية، الكثير من التطابقات والتوصيفات البليغة لحال المغرب وحالته، وما يقع كذلك في مشهده الراهن، والمطبوع كعادته بالكثير من الانتظارات والخيبات المتراكمة، وأحلام قد لا تتحقق في الأمد القريب. إذ يكفي، للتعبير عن حال المغرب اليوم، أن أستحضر فقط، وضمن نفس السياق، ما قاله الشاعر الزجال والمنشد المغربي " محمد الدرهم " ذات قصيدة مفجوعة بحال المغرب وأوضاعه وشبابه الذي شاخت أوصاله وأحلامه، وضيّع أيضا زهرة عمره في العطالة والبطالة، نفس الشباب الذي ما زال يصحو كل يوم على خيبات جديدة و " فراغ ذات اليد "، ليواجه كل يوم أيضا " ذات الوعود " وذات الهراوات أمام بناية البرلمان. يقول " محمد الدرهم " في " لحظة حال إبداعي " أو في قصيدته الرائعة " يا من عانى ولا زال معانا يعاني " : " … يا رفيقي فالحالْ / يا بْحالي فالحالة / هاذْ الحالْ اللي طالْ / ما طلعتْ منّو طايلة .. / تْعالى عشيري تفاقدْ الحالْ / تعالى تشوفْ هاذْ المهزلة / ولاّتْ بايْنة ما بْقى ما يتْقالْ / وما بقاشْ لكلامْ يْحلّ مْسالَة / الخيلْ واقْفة رابْطاها لحبالْ / والبغالْ كا تبوردْ مختالة / ياويلي شبابْ الأمّة عطّالْ / يا ويلي علاشْ الأمّة عوّالة / خيرْ الأمّة نهْبوهْ الجُهّالْ / بْلا مْزايدة باعوهْ الدّلاّ لة … ".
( *) – " سلاما وليشربوا البحار " هو عنوان أحد دواوين الشاعر الراحل " عبد الله راجع " – صدر عن سلسلة " الثقافة الجديدة " ( مطبعة الأندلس ) بالمغرب سنة 1981.