تُوفي مساء يوم الأربعاء الماضي الصحافي "عبد الفتاح فاكهاني" في نحو العقد الخامس من العمر، وأجزم أن كل الذين عرفوه عن قُرب، حُزانى لفراق رجل من طراز فريد.. ذلك أن "عبد الفتاح" كرَّس حياته القصيرة، سيما مرحلة الشباب الأولى، للعمل السياسي، حينما كان هذا الأخير يحمل معنى، وعاش مُعظم سني عمره في السجن، مع أفراد مجموعة "إلى الأمام" اليسارية، حيث قضى زهاء سبعة عشرة سنة وراء القضبان، من أصل حكم بالسجن المُؤبد، بسبب قناعاته السياسية. وناله قسط وافر من أسوأ أنواع التعذيب، غير أن أقساها على الإطلاق، كان معنويا، حين اشتد الجدل واحتد، حول المُنطلقات الإيديولوجية اليسارية، بين الرفاق داخل السجن، ليتشتتوا، لكن في اتجاه واحد كان الأغلب، وبالتحديد تحت خيمة المخزن.. حيث اختار الكثيرون منهم، أن يُبدلوا ليس فقط قناعاتهم الإيديولوجية، بل مواقعهم الاجتماعية، بمُقايضة سنوات السجن أو المنفى، في حين فضل قلة منهم، الانسحاب من رُقعة اللُُبس والشبهة، والبقاء على المحجة البيضاء، أي نقاء السيرة مهما كلف الأمر. "عبد الفتاح فاكهاني" كان على رأس قائمة هذه الكوكبة القليلة العدد، إذ فضَّل حينما خرج من السجن، أواخر عقد ثمانينيات القرن الماضي، أن يصل ما انقطع من حبل الحياة اليومية، بالرغم من شساعة القطعة المبتورة، مُعتمدا على إمكانياته الذاتية فحسب. حاول في البداية أن يعمل في تجارة الأدوات الموسيقية، مُهتديا بموهبته في هذا المجال، فتبين له، أن هذه الصناعة لا تُطعم في مجتمع ما زال في حاجة إلى قطعة "حرشة" وكأس شاي، أكثر من النوطة الموسيقية. كادت جميع حِيل إيجاد مكان تحت الشمس تُعدم في يد الرجل، غير أنه في لحظة عصيبة، كان هناك مِن بين أصدقائه، مَن اقترحه للعمل مُحررا في جريدة "العلم".. وفي المقر القديم لهذه الأخيرة بشارع "علال بن عبد الله" بالعاصمة تعرّفتُ إلى "عبد الفتاح" وقضينا معا خمس سنوات كدّ في المنبر المذكور. كان الرجل عائدا من تجربة "حلم وغبار" بتعبير الكاتب "عبد القادر الشاوي" غير أنه ظل محتفظا بكبرياء ناصعة. شخصيا، لم أكن قد اطلعتُ بعد، حينها (أوائل عقد تسعينيات القرن الماضي) على بعض تفاصيل مُعاناة الاعتقال في سجون الحسن الثاني، غير أن الصدفة شاءت أن نتجاور (الفاكهاني وكاتب هذه السطور) السكن في نفس الحي بجماعة "اليوسفية" بالرباط، فكانت لنا جلسات طويلة عديدة، في مقهى "المنظر الجميل" حكى لي خلالها، عن لحظات وأيام وشهور وسنوات التعذيب، مما أمكن الإطلاع على الكثير منه حديثا، من خلال كتابه "البهو" الصادر عن دار نشر "طارق". التقيتُ، بحكم المهنة، بكثيرين ممن عاشوا تجربة سنوات الاعتقال، غير أن تجربة صديقي عبد الفتاح فاكهاني، ظلت في القلب والذهن، كانت لديه فَرادة خاصة في عرض تجربته، باختصار، ودون "مُحسنات" التأثر، يكتفي بعرض المعلومة عن المرحلة التي يُسأل عنها، ويجعلك تفهم أنه يعتمد على ذكائك لاستحضار كل إحالات ما يقوله. لا أحد من الذين كانوا يشتغلون في جريدة "العلم" حينها، على عهد إدارة "عبد الكريم غلاب" فاته الانتباه إلى الخصال الشخصية ل "عبد الفتاح فاكهاني".. لم يصطدم أبدا مع أحد، كان يكتفي بالصمت المعبر، حينما يعترضه موقف مُبتذل، ويحرص على جعل التواصل معه سلسا، بدون تعقيدات مجانية، وتسبقه دائما عبارات المودة مع الجميع، مشفوعة بلكنته المراكشية اللذيذة. لم تكن كفاءته المِهنية لتخطئها الأذهان، مما جعل مكانته محورية ضمن هيئة تحرير جريدة "العلم". فالرجل كان يتقن أربع لغات حية هي العربية والفرنسية و والإسبانية والإنجليزية، ويستند إلى ثقافة فكرية وسياسية وأدبية، عميقة، جعلت مقالاته علامات متميزة على صفحات الجريدة المذكورة، مما أكسبها طابع غِنى فريد، كان رئيس تحرير العلم آنذاك "عبد الجبار السحيمي" شافاه الله، يسعى إليه. لم تكن رقعة "العلم" لتستوعب "عبد الفتاح فاكهاني" فكان أن نشب خلاف بينه وبين "عبد الجبار السحيمي" ولم ينتظر "فاكهاني" حتى تعطن رائحة علاقته المتوترة بإدارة الجريدة، حيث وضع رسالة استقالته وذهب إلى حال سبيله، وبالرغم من كل مساعي إصلاح ذات البين، تشبث "فاكهاني" باستقالته، فكما قال لي حينها: "لم يعد لي مكان في هذه الجريدة".. وعبَر الرجل صحراء أخرى لمدة سنة كاملة، قبل أن يقترح عليه صديقنا المشترك "خالد الجامعي" الاتصال بمدير مكتب وكالة "فرانس بريس" السابق بالرباط "إنياس دال" الذي كان يبحث عن صحافي لتعزيز طاقم المكتب، واجتاز "عبد الفتاح فاكهاني" اختبار المنصب بسهولة. غير أن وزير الداخلية السابق إدريس البصري، أغلظ القول ل "إنياس دال" حيث قال له: "سوف تؤدي ثمن توظيفك لهذا اليساري".. وهو ما كان فعلا، حيث اضطُر "دال" لمغادرة مكتب "فرانس بريس" بالرباط. ثمة ملمح آخر من شخصية صديقي "عبد الفتاح فاكهاني" لا يعرفه الكثيرون، ومُؤداه أن بعض رفاقه القُدامى، ممن ركبوا موجة هيئة "الإنصاف والمُصالحة" اتصلوا به بغاية إعداد ملف "تعويض عن الضرر" في إطار ما سُمي ب "طي ملف سنوات الرصاص". فكان رده رفضا باترا: "إنني لم أدخل السجن بغاية الحصول على تعويضات، بل دفاعا عن قناعاتي". لم ألتق صديقي "عبد الفتاح" إلا لماما، بعدما تفرقت بنا السبل، غير أنني كُنتُ أستمتع خلالها حقا، باستعادة ذكرياتنا المشتركة، في "العلم" سيما حينما كان يُطلق ضحكته "المراكشية" المُجلجلة، عندما نستعيد أحد المواقف المُفارِقة، التي عايشناها معا. سنفتقدك كثيرا صديقي العزيز، وسيغور أكثر في القلب والذهن، أنه برحيلك، خسرنا واحدا من آخر الرجال المُحترمين، لقد تركت يا "عبد الفتاح" رقعة أخرى للتفاهة التي كُنتَ تكرهها من الأعماق. مصطفى حيران