خلقت المخيلة الشعرية العربية عبر تاريخها ومحطات تطورها المتعددة صورا للعالم بكل تفاصيله، وكما يقول الفيلسوف الالماني هايدغر فإن الشعراء هم الذين يمنحون الاشياء أسماءها. أعطت المخيلة الشعرية اسماً الى الحبيبة والى الوطن والى القضية والى أشيائنا الشخصية. ومهما اختلفت مفاهيم الاشياء ومسمياتها عبر التاريخ من قصيدة الجاهليين الى قصيدة الشعراء في منتصف القرن الماضي الذين ثاروا على قيود القصيدة القديمة، وصولا الى شعراء قصيدة النثر الذين يدفعون بالقصيدة الى آفاق شعرية اكثر رحابة، فإن هدف الشاعر هو ان يمنح الاشياء اسماء جديدة، ربما تخصه في البداية لكنها تصبح أعلاما تُعرَف بها الاشياء لاحقاً، تبعا لفنية هذا الشاعر وعمقه وحساسية رؤيته. الشاعر الفلسطيني ماجد أبو غوش (من مواليد 1959) في ديوانه العاشر، "أسميكِ حلماً وأنتظر ليلي"، الصادر حديثاً عن "دار النهضة العربية" يعلن صراحة أنه "سيسمي الأشياء بأسمائها". ولأنه فلسطيني، فهو يحمل على كتفيه عبء المأساة الفلسطينة بكل تاريخها وتفاصيلها، ويحاول ان يكتب شعريا تفاصيل هذه المأساة التي تتسع لتشمل مدنا عربية أخرى اكتوت بنيران الاحتلال الاسرائيلي أو راعيه الاميركي، من مثل بيروت وبغداد وقانا وغزة. لكن الشاعر يتفادى الغوص في الواقع الذي يكتب من خلاله وعنه. في مفتتح الديوان يستعير مقطعا من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لأمل دنقل ليأخذنا إلى منطقة الاشياء، التي ستحتفظ بأسمائها من دون تغيير، ربما خوفاً من النسيان أو الضياع وسط زخم شظايا الواقع التي تجرف كل شيء. هكذا لا نجد ايّ التفات الى تفاصيل الواقع الجديدة التي تكتسب كل لحظة ثوبا مغايرا، في حين تبقى في قصائد أبو غوش ثابتة. ثمة امرأة في أولى القصائد تجرّ قدميها بما تبقّى من أطفالها تجاه ما تبقّى من البيت والبحر والقلب. تذهب لتروي شجرة ياسمين، من أجل أن تظلل أسماء الشهداء. القاتل واحد في المدن العربية، على ما يعلن أبو غوش في إحدى قصائده، "في قانا كما في بيروت في غزة كما في بغداد كان القاتل واحداً. made in USA"، إلا ان "الذي رفعني على الصليب كان أخي والذي دفعني الى البئر كان أخي". عندما يصف الشاعر "القاتل"، فهو يصف ماكينة للقتل مجردة من أي شيء. فليس لهذا القاتل أب أورثه لون العينين، أو ام يذكر طعم حليبها، أو ابن ينتظر عودته كل مساء، وهو لا يعرف متعة السير عاري القدمين، ولا شفاه النساء. جلّ ما يعرفه هو ممارسة القتل، والتلذذ برائحة الدماء. هو قاتل فقط. في رصافة بغداد يتساءل الشاعر: "هل مر حصان ابي الطيب من هنا؟" وفي ليل بغداد يمضي الشاعر "صوب الشعر، وصوب الحب"، و"في الشام خيل وورد وامرأة تغني خذني إلى النهر". .................................... محمد فرج جريدة النهار اللبنانية