سيدات زحل تشكل مفصلا مهما ومنعطفا في منجزي ونظرتي للحياة والكتابة.. كتابة الرواية تفتح لي مسارا مضيئا في الزمن وتشحنني بقوى خفية. من الملاحظ أن أصالة الابداع وقوته لا ترتبط بعمر معين للإنسان، فربما يقدم إبداعا أصيلا وهو لا يزال في مقتبل العمر، كما حدث ذلك مع أعظم الكتب الشعرية التي شهدها النصف الاول من القرن الماضي، وهي مجموعة عالم الملائكة للشاعر الاسباني الشهير روفائيل البرتي وهو بعمر 23 سنة، فيما كتبت فرنسواز ساغان أجمل رواياتها (صباح الخير أيها الحزن) وهي بعمر 18 عاما، أما همنغوي فقد كتب رائعته (الشيخ والبحر) في عمر متأخر قبل أن يقتل نفسه، في حين صرّح ماركيز بأنه كتب أنضج أعماله بعد الخمسين. هذا الكلام يقودني الى لطفية الدليمي التي قدمت لقرائها مؤخرا أهم وأقوى أعمالها ورواياتها، وهي رواية (سيدات زحل) التي صدرت هذه الايام عن دار فضاءات في عمّان بعد أن خلّفت وراءها عقودا من العذاب والفرح والألم والمعاناة التي تتوزع على خارطة عمر شرس ومتمرد ينطوي على سلسلة من الغرائب والتصادمات العجيبة الشاخصة بين المكابدات والثراء الروحي والمادي في آن، وفي هذا الحوار المجتزأ من حوار طويل ثمة إطلالة على سيدات زحل وكاتبتها والأفكار والمنعطفات الهامة التي أثثت تدوينها، حيث ترى لطفية الدليمي أن كتابة الرواية تسمو بالانسان وروحه إلى مدارات معرفية ثرية وتُحدث فارقا بين ماقبل الكتابة ومابعدها ، فكان سؤالي الأول: * تقول لطفية الدليمي في كلمة لها بمناسبة صدور (سيدات زحل) إن الرواية لا تعلي إلا من شأن الروح الانسانية وحلم الانسان، فهل جاءت هذه الرواية بديلا عن انتكاسات لمشاريع فردية ووطنية وانسانية ؟ - لاشيء بوسعه أن يكون بديلا عن شيء تهاوى،إنما هناك حراك معين ينتجه فعل الكتابة لدى كاتبه في المقام الاول، و تمثل الكتابة لنا نحن الذين اختلطت دماؤنا بالحبر وومضات الحواسيب ومسحوق الحلم - فوزا بأعمار افتراضية مضافة واختبار حيوات وأهواء وتجارب، وهذه الاضافة الاستثنائية تزودنا باجنحة ومفاتيح سحرية لعوالم موازية ، حين نفيق من نوبة الكتابة التي تماثل غيبوبة شهية ونسترد انفاسنا ، وننظر إلى ماحولنا نجد العالم قد تغير بقدر ما في مجال رؤيتنا ، وكسبنا معارف جديدة أضيفت إلى خزيننا، وإذا بشخوص روايتنا يحفون بنا ويوقظوننا وتتخالط احلامهم مع احلامنا ، إنها متعة الكتابة الأبقى من البدائل ، الحقيقة أقول لك إن كتابة الرواية تفتح لي مسارا مضيئا في الزمن وتشحنني بقوى خفية وتضاعف تذوقي للحياة وتعزز روحي وأحلامي فكأنني أخوض تجارب ابطالي وأشاركهم جني نتائجها وخبراتها ، ويخيل إلي أن هذا هو الفوز الفاتن او مانسميه البديل : ان يتكاثر زمنك وتتعزز خبرتك وتجد فارقا بين الماقبل والمابعد.. * وقالت لطفية الدليمي ايضا وهي تخاطب نفسها: (أيتها الناجية من نعمة الموت) فهل وصلت الامور من السوء بحيث يصبح الموت نعمة، وكيف تمكنت الدليمي من قلب المعادلة، أي كيف أعادت المعادلة الى حقيقتها فيما يتعلق بخراب الموت وعظمة الحياة ؟ - في لحظات القنوط القليلة التي تداهمنا - نرى ان الضحايا الراحلين أسعد حالا منّا بخلاصهم من احتمال الموت كل برهة ويخيل إلينا في تلك اللحظات المشوشة أننا الضحايا الحقيقية الباقية على قيد الهلع واحتمالات الهلاك البشعة ، ويبدو لنا الموت ملاذا من كل هذا الألم الفاتك، لكنما بعد برهة تجدنا نتمرد على الفكرة القاتمة ونطرد ظلال الموت ونجري تعديلا على الكلمات ونقلب المعادلة، فالحياة هي التي تستحق ولابد ان نكافح من اجلها بعيدا عن الأدلجة وفخاخ السياسة التي شوهت وتشوه حياتنا بعنفها واستبدادها وجشعها ودمويتها ومع ذلك لست متفائلة ولست متشائمة بل إنني أرى الامور من جوانبها المتعددة وأؤمن بضرورات التغيير في حياتنا على المستويات كلها، أحاول في الرواية ان اكتشف بذرة الامل في ارواح شخوصي وهي تكمن غالبا في شرعة الحب, وفي ملاحقة الحلم، ويبدو لي أن نهاية الرواية المفتوحة عززت فكرة الآمل وحرضت توقعات القارئ وأظنها نهاية متفائلة إلى حد ما ومنطوية على إمكانات التأويل المختلفة فعندما لانثق بالأحداث ثقة كافية لايبقى لدينا سوى توقع الاحتمالات المختلفة، ومن دون البحث الدؤوب عن بذور الامل في حياتنا تجرفنا عاصفة اليأس وننتهي مثل هباءة في الاعصار.. * أنت كاتبة لا تثق بالسياسة - كما عرفتك- ولا بالطروحات الزاعقة وليس لك اعتداد بغير قدرتك على اجتراح الحب وسط الجحيم واستدعاء الحلم في قلب عاصفة الكوابيس، فهل كانت (سيدات زحل) نتاج هذه الرؤية المتفائلة ؟. - السياسة شأن زئبقي ورجراج يشبه الرمال المتحركة ومن الصعب الوثوق به ومعظم الأعمال الابداعية تبحث عن قيم جوهرية في حياة الناس دون مبالاة بترسيمات السياسة والاعيبها، إلى جانب تعامل روايتي مع المتغيرات ونقدها لتلفيقات التاريخ التي كرسها المستبدون، يرد ابطالها على الايديولوجيات التي احرقت الناس في اتون صراعاتها والمطامع السياسية التي حولتنا إلى أرقام موتى ومفقودين ومشردين، ما الذي نملكه غير تفعيل قوة الحلم والتبشير بالمحبة ؟؟ ما الذي تفعله النساء الملاحقات بتدابير فقهاء الكهوف والذكورية العنيفة التي اغتصبت الاجساد والأحلام ؟؟ حتما ستجرب النساء التشبث بالحلم والحب للامساك بالمصير، وقد يخفق بعضهن في خياراتهن والبعض الاخر لا يستسلم للهلاك فيهرب من الجحيم ويجرب جحيمات قد تكون افظع مما سبق، الأهم ان يمضي المرء دون الالتفات الى الوراء ويخترع سبلا للنجاة بقدر ما تسعفه الوسائل، قد لا يكون تفاؤلا بقدر ماهو إعادة الاعتبار لإرادة الأنوثة والحكي النسوي المنعتق من هيمنة الصوت الذكوري الذي ظل يتحكم بخطاب الحكاءات النسويات زمنا طويلا بعيدا عن النزعات النسوية الشائعة، وبقدر ماكان صوت المرأة فاعلا ومهيمنا، كان حضور صوت حامد الاخرس ابو الطيور-رغم خرسه- أشد مضاءً من أصوات بعض النساء والرجال كحازم الذي حطمه الخصاء ولمى التي أختارت نهايتها انتحارا حين خذلتها شروق، وراوية التي تنشد متع الجسد في الطعام والجنس، على انك ستجد مسارات مفاجئة في الجزء الثاني من الرواية الذي شرعت بكتابته. * بعد قراءتي ل (سيدات زحل) شعرت أن لطفية الدليمي أنقذت نفسها وغيرها من موت شبه محقق بهذه الرواية، لاسيما أنك تعرضت للموت فعلا في بلدك وفي (باريس) الملاذ الآمن كما يراه بعضهم مع أنها لم تؤمّن لك لا حياتك ولا أحلامك معا ؟. - تجربة التنقل خلال اعوام ثلاثة بين بلدان وثقافات متعددة وعادات وأناس مختلفين عززت رؤيتي لمكاني ومعرفتي بنفسي وعالمنا المعاصر، ومعرفتي بأنني آتية من هناك من هذا البلد الذي كتبني وكتبته وتشربني وتشربته ألما وعشقا وتاريخا وأملا وبقدر ماكان الإنقاذ وجها من وجوه العذاب وتنويعا على نغمة الوجع لكنه كان الاختيار بين كأسين احلاهما سم وأتت الرواية لتكون ترياق السموم كلها.. اعتبرت بطلتي (حياة البابلي) موضوعة (الحكي) وسيلة لتسكين الخوف وتخدير الألم وكانت كتابتها الكراسات محاولة لإنقاذ الحكايات والذاكرة من الفناء وركزت في كراسات عدة على اهمية الحكي كعلاج مهدّئ وليس كوصفة للخلاص، وجاءت هذه الرواية كترياق لمكابدات وسموم ليس أولها الخسائر وخذلانات البشر ولا آخرها الموت الذي واجهني في باريس بصورة أبشع مما كان يتهددني في بغداد، كتابتها عنصر شفاء أكيد مدّ حياتي بفيض من البهاء والعزم، وما اكتناز لغة السرد الروائي بالجمال الذي اشرت انت اليه في كتابتك عن الرواية إلا العشبة السحرية التي مست زمني وغيرته على نحو باهر ورسخت طريقتي في الحياة: أن امضي قدما كل صباح ولا التفت ورائي بل اصنع لحظتي في أوانها وبنعمة النجاة والأمل الشهي.. * ل (سيدات زحل) مسار سردي ملحمي يخوض في مساحات مكانية وحقب زمانية شاسعة، هل يمكن أن نقول بأن هذه الرواية نقطة فاصلة بين مرحلة سرد ماضية وأخرى قادمة للطفية الدليمي ؟. - من أحد الجوانب، نعم أنها انعطافة جديدة في سردي الروائي، ومن جانب آخر ستجد انها امتداد لإشتغالي في رواياتي المختلفة، ورغم اختلاف هذه الرواية ببنائها ولغتها وموضوعها إلا أنني أجد لها جذورا خفية تمد شعيراتها إلى تربة روايتي ( من يرث الفردوس) التي كانت احداثها ممتدة على امكنة متعددة وازمنة متراكبة، وفيها بعض مناخات ( حديقة حياة ) رغم الاختلاف الكلي بينهما، نعم هذه الرواية تشكل مفصلا مهما ومنعطفا في منجزي ونظرتي للحياة والكتابة.. ================================== أمّنا الكونية باسم فرات كاتب عراقي قرأت رواية (خسوف برهان الكتبي) لكاتبتنا لطفية الدليمي وأنا في نيوزلندا، وكانت الرواية الأولى التي أقرأها لها فمعظم ما قرأته لها كان في المجلات والصحف العراقية، رغم أنني بدأت أقرأ لها قبل مراهقتي. وفي هيروشيما توطد الحوار بيننا عن طريق الماسنجر والرسائل، حواراتنا الكثيرة منذ خمسة أعوام وأعمالها التي قرأتها أعطتني صورة مشرقة عن مبدعة كبيرة ونادرة كما وصفها الناقد الكبير (حاتم الصكر) في إحدى رسائله لي، واثقة من نفسها ومشروعها ، تناقش بهدوء وعمق وكأنها والتوتر في خصام. لمست في تواصلي معها روحاً متصوفة تزهد بكل شيء من أجل الأسمى وتنأى عن انشغالات العابرين، شغوفاً بالمعرفة والجمال، كم مرة كنتُ أخبرها بأمور فتنصت كتلميذة وتناقشني، حتى يُخَيّل لي أنها تغرف مني، ولكن الحقيقة أن نبعها الغني المتدفق العميق لايكشف عن نفسه فهي أستاذة لاتزهو بما لديها، ولأنها أستاذة فهي لا توحي لمن يشاركها النقاش إلاّ كونها تلميذة شغوفة بالمعرفة وزاهدة بالظهور، وحين تدلي برأي ترسل عباراتها هادئة ومحببة للقلب تمنحك الإحساس بالندية، فلا تتعامل بفوقية مع الآخرين مهما كانوا يصغرونها سناً، وهذا ما أهلّها لتكون أمنا الكونية..إحدى الخصال النادرة والتي تملكها الكبيرة لطفية الدليمي، فهي الى جانب ثقافتها الواسعة احتضنت العراق بعصوره وحضاراته وثقافاته المتعددة، فلم تتبحر بتاريخ العراق لفترة زمنية واحدة وتجهل فتراته الأخرى، كما يفعل بعض الأدباء، عمق اطلاعها على تاريخ العراق في الأزمنة السحيقة لا يقل عن تبحرها بتاريخه الوسيط والحديث، وأعني التاريخ الثقافيّ تحديدا، فطالما تكررت نقاشاتنا عن حركة أدبية أو مذهبية أو فكرية أو عن أديب غير معروف على نطاق واسع، وكم سددت خطاي وصوبت آرائي وشذبتها بطريقتها التي لا تشعرك بأستذة أوخطاب متعالٍ. لطفية الدليمي: كارثة اطلسية تهجّر ( شبعاد )! ناظم السعود كاتب عراقي لو انني اردت ان انجز مدونة تشابهية بين شخصية معاصرة ، كلطفية الدليمي ، واخرى تتباعد عنها زمنيا باكثر من خمسة الاف عام لما فرطت باسم بعينه واعني به (شبعاد ) التي اجدها بمعنى ما اقرب شخصية تاريخية يمكن مشابهتها بكاتبتنا المعاصرة لطفية الدليمي على ما بينهما من فروقات كبرى في الدور والحياة والوقائع والمصير !، وشبعاد هي الملكة السومرية (الملكة - بو - آبي) كانت اشهر ملكة في عصرها ووصفت بانها سيدة الحلي والزينة ويرى المؤرخون انه لم تحض أي أمرأة سومرية بهذه الشهرة الواسعة ، لقد كانت على ما يبدو تتمتع بذوق رفيع باختيار الأدوات الدقيقة الصنع التي صنعها لها فنانون مهتمون بهذه الصناعة الذهبية والأحجار الثمينة الأخرى ، وحين ماتت هذه الملكة كانت ترتدي من الملابس والاساور وسلاسل من الخرز المصنوع من الذهب والفضة والأحجار الكريمة ما هو غير مسبوق في جميع الحلي والجماليات في العهود التاريخية المدونة مما دفع بالظن انها تتمتع بمركز رفيع وبذوق جمالي اكثر رفعة ، واكثر من هذا تلفت شبعاد هواة التاريخ وقراءة الى جانب عجيب (اذ أهتمت هذه المرأة بجمالها وزينتها بصورة لم تسبقها امرأة في كل العهود في تقديم أشياء أبداعية تضفي على المرأة أكثر جمالاً وأكثر ابهة وتعطيها الصفة الكاملة للقدسية الملكية. أو إعطاء الدرس في الأناقة وأختيار الموضة للعطر التي تعيش فيه هي وكل الفتيات السومريات، وهذا أوج ما وصلت اليه المرأة في العهد السومري في الحضارة والتقدم، وما دامت هي التي أختارت الأواني الذهبية لمائدتها الملكية وأدوات زينتها النادرة فلا يستبعد كونها هي التي أشارت على الصناع المهرة أن يصنعوا لها أكليل الرأس النادر.وفي هذا النص المجتزأ اتوقف امام امرين اثنين :اولهما السبق التاريخي في العناية بالذوق والجمال في حقبة تاريخية سحيقة ( لاحظوا اننا نطرق مرحلة منتصف الالف الثالث قبل الميلاد !) وثانيهما ان الملكة شبعاد كانت هي التي تشير على الصناع بالافكار والاشكال والنماذج مما يقطع الظن بانها كانت ذات شخصية قيادية مبدعة ولها اراء نافذة في تجسيد الجمال بهيئات وكيفيات ملموسة هذا اضافة الى وظيفتها الدنيوية كملكة سومرية مطاعة الى جنب زوجها الملك ( أباركي ) ، وثمة خصيصة اخرى تمتعت بها شبعاد اضافة الى الخصائص السالفة وتتمثل بالوفاء لمن تحب حتى بعد رحيله بل ما كان يعرف منها هذا الوفاء الا حين رحل الحبيب فكان موقفها الوفي الخالد ، يقول المؤرخون ان الملكة بو - آبي- ( شبعاد ) بدافع حبها لزوجها الملك أباركي اوصت ان تدفن بالقرب منه بعد موتها، ولهذا السبب نشاهد القبرين (789) و(800) متلاصقين..!! العناية الفائقة بالذوق والجمال .. الشخصية القيادية .. الوفاء النادر للحبيب ، هذه السجايا الثلاث التي وجدتها في شخصية شبعاد ساجدها حتما في شخصية معاصرة لنا (الدليمي ) ولكنها قرينة لشخصية التاريخ المستعارة ( شبعاد ) فكاننا ازاء شخصيتين تشابهيتين : الاولى من فجر التاريخ والاخرى نترت من هزيعة ، ولكن ثمة فرقا جوهريا بينهما علي ان اوضحه : فان كانت امراة سومر متولعة بفنون الملابس والموائد والحلي والسلاسل ، بكلمة جامعة كانت مفتونة بجمال البصريات وتكوينات الظاهر ، فان امراة بغداد المعاصرة شغوفة بجمال اخر هو اكثر نحتا وتشخيصا لمسارب الروح وتلاليف الاثر ، شبعاد تمعن في اظهار حلاوة الجسد وتقاطيع الوجه وفتنة المادة ، بينما قرينتها الدليمي تجتهد لكشف ( ولك ان تقول كشط) ما يجور على الجمال من قوى ونظريات وبدع مهيمنة على الروح السحيقة وتداعي كل ما حباها الله والتاريخ من فكر وجدل وحفر وتماه مع الاعماق بغية الكشف بل فضح ما هو غائم وملتبس وغائر في السهو التاريخي بوجهيه المدون والمعاش.وشخصيا ازعم ان كاتب السطور كان على مقربة تكفيه للقول انه مطلع اطلاعا حسنا على عوالم وانشغالات الكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي ابان تسعينيات القرن المنصرم وانه كتب عنها واستبطن اخبارها وتابعها اعلاميا وصحفيا يوم كان الاثنان يقيمان في بغداد قبل ان يمسسهما الفلك العراقي المفرق فسارت هي في اغتراب خارجي وانداح هو في اغتراب داخلي ، اما الحوارات التي عقدها معها ونشر اجزاء منها في الصحافة العراقية والعربية فانها تصلح ان يضمها كتاب جامع ، والقرب المشار اليه هو ما يدفع كاتب السطور للقول ان ما قيل من ( تهجير ) تعرضت له الدليمي بعد عام 2004 لو صح فانه يحسب على مقياس الجغرافيا فقط بينما الحقيقة العيانية تقول ان الهجرة الاولى والاقسى كانت قد سبقت الجغرافيا باكثر من عقدين زمنيين حين عاشت الدليمي غربة روحية واخرى فكرية في الثمانينيات حين وجدت نفسها تتقطع باشكال كثر مع قضايا ووقائع وحيوات لا تمتلك معها أي لغة مشتركة او اتصال متنام وهذا من الطبيعي ان يحدث بين ذات مبدعة تمتلك ذهنية حيوية وبين واقع جامد واشياء تتداعى وخارطة تتدافع نحو المحق والافول. ينبغي لي وواجب عليَّ (وقد كنت شاهدا ) ان اشير بعكازي الى ان الحياة العراقية بما تكتنزه او تتوعد به اسهمت بتهجير كل العقول الكبيرة وطردت المواهب الاصيلة وكانت الكوميديا الهجينة باعثا رئيسا على تشكيل غربة نفسية حاقت بمبدعتنا الكبيرة لطفية الدليمي لعقدين قبل ان تتشكل بواعث اخرى كانت وراء التهجير الجغرافي الاخير ، وبكلمة واحدة كانت الكوارث الوطنية وراء تمترس لطفية الدليمي خلف غربة داخلية مضنية بينما دفعت الكارثة الاطلسية الملكة ( شبعاد ) خلف الجغرافيا..!! لطفية الدليمي وموسيقى النشيج عناية جابر - جريدة السفير تكتب لطفية الدليمي، الروائية والقّاصة والباحثة العراقية، جديدها: "سيدات زُحل" (رواية صدرت حديثاً عن "فضاءات للنشر والتوزيع") من جرح عراقي خاص معطوفاً على ذلك العّام المعروف والمؤرق، بلغة تتعّدد فيها مستويات النشيج، مع ذلك لا يفوتنا في أيّ من مستوياته، وفي داخله وخارجه. لمرّة أولى يُقترح النشيج في رواية، مستويات موسيقية تعلو أحياناً، وتهبط بحسب تعدّد المشاهد العراقية وتلّونها الدرامي: المأساة، القهر، الاحتلال الأميركي الاغتصاب، الخصي، الإعدام، وباختصار حفلات الموت اليومي العراقي وعذابات ناسه. النغمة الأرّق والأعذب في لغة الكاتبة هي التي يطوّعها ويرققها الحب والأمل، الحب الذي هو مملكتها ومساحة لعبها وموسومة بالمغناطيسية من طريقة الدليمي في قول الأشياء، حتى أكثرها كابوسية. لغة تلعب دوراً تجميلياً للموت فلا يعود موتاً، بل إغفاءة يُهذبها الأمل ويُنهضها. للطفية الدليمي إصدارات أكثر من أن تُحصى هنا، منها روايات خمس، وقصص ونصوص ذاتية ومسرحية، وترجمات ودراسات، وكلّها على تنوع صنوفها، الجادة منها والرخصة الطرية، مكتوبة بلغة الدليمي الجميلة وتبلغ في "سيدات زُحل" منتهى جمالها. الجمال في لغة الدليمي ليس مجانياً أو تذويقياً، بل مبذول لغاية إسناد الأمل في غمرة فداحة العيش (البغدادي تحديداً كما في أغلب رواية الدليمي) وفداحة مصائر شخصيات الرواية وبطلتها حياة البابلي، ساردة تفاصيل الملحمة العراقية في ظل الاحتلال العراقي، بصفاء المفردات وتألقّها وأناقتها، لتشكلّ خطا متوازيا مع الموت الدائر الآخذ بأفراد عائلتها (عمها الشيخ قيدار، وأبيها عدنان، وامها بهيجة، وأخيها الذي أُعدم، والأخ الآخر شهيد الحرب، الى طليقها المخصي بمبضع السلطة) أيضاً تمتّد في الرواية وتكتمل، دائرة الممهورين الآخرين بويلات الحرب العراقية، فتطال أصدقاء للساردة البابلي، وصديقات في سرد وإن شاعريا، لكنه يرتكز على الواقع، مُطلاً على تاريخ العراق ماضياً وحاضراً، أما المستقبل فتصنعه جمالية اللغة العنيدة وجذرها وبذرتها: الحب والأمل. في "سيدات زحل" ثمة وحدة السرد. لكنها الوحدة المتشظية ومرتبطة مع ذلك بتكنيك ربط الأحداث (الخفي والمعلن) وبموضوعها العام ومتنه بغداد تحت وطأة المحتل الأميركي الغريب، وشياطين الظلام المتربصين بالحياة. بسلاسة تامة تتنقّل الدليمي بقارئها في أزمنة عراقية مُستدعاة من غورها وأزمنة حاضرة ما زالت في مشاهد يختلط فيها الواقع بالخيال، وفي سرداب بيت بغدادي، منه سردت حياة البابلي أهوال ناس ما زالت صورهم وروائح أجسادهم عالقة في الذاكرة، وفي الكتابة. لطفية الدليمي في مغامرة روائية إبداعية جديدة باقر جاسم محمد كاتب عراقي رواية (سيدات زحل) للمبدعة الكبيرة لطفية الدليمي الصادرة حديثا عن دار فضاءات في عمان هي سفر للألم واستكشاف فضاء التجربة الوسيع في أبعاده النفسية و الذاتية الاجتماعية الموضوعية.وفي هذا العمل الروائي الكبير، تستثمر الكاتبة خبرتها السردية الراسخة في مدار عمرها الفني المديد لتجسد رؤيا امرأة من هذا العصر، تعيش عذاباته و أهواله فتمر من خلال أفق التجربة الإنسانية من أحزان الرجال إلى أحزان النساء في الظرف العراقي الراهن الذي تشكل بعد التغيير. ذلك الظرف القاهر الذي أظهر هشاشة القشرة الأخلاقية التي تغلف أفعالنا و أقوالنا، و كيف أن النفس الإنسانية الرقيقة التي تمثلها حياة البابلي، بطلة الرواية، تعاني القهر و الاستلاب على شتى المستويات. لكنها تظل محافظة على تكوينها الذاتي من التدمير، و على صيانة حلمها من التلوث في طقس الرداءة و الابتذال. و في سياق هذه الراوية هناك انتقالات واسعة بين الواقع و الذاكرة و المخيلة، و بين التاريخ القديم لبغداد و حاضرها المروع. و لعل حديث الكاتبة عن تاريخ إنشاء بغداد و رسم خططها بوساطة الرماد ثم إشعال دائرة هائلة من القطن حتى يتمكن المنصور العباسي من رؤية عاصمته المستقبلية يمثل بعدا ً إليغوريا ً يشير إلى أن بغداد هي عنقاء المدن التي تنهض من رمادها بعد كل جائحة أو دمار. وعلى مستوى التقنية الروائية كان هناك استثمار واسع لتقنية السرد الذاتي من خلال ضمير الراوي المشارك الذي تمثله حياة البابلي، و هناك أيضا ً استثمار لتنويعات لهذه التقنية من خلال وجود شخصيات نسائية أخرى تتحدث في النص بوصفها راوية مشاركة مثل راوية و شروق ولمى، كما أن الكاتبة قدمت نصها الروائي في أداء كلامي (لغة) فيه شيء من لسان الصوفية، و شيء من دقة الوصف و الإخبار، و برأيي أن الأداء الكلامي عند لطفية الدليمي يمثل أحد مدارج التألق الإبداعي التي ينبغي أن نفرد لها دراسة مستقلة. وتدور الحبكة المركبة للرواية حول بحث حياة البابلي عن عمها قيدار البابلي، ذلك العم الذي يمكن أن يوحي اسمه بالقدر لأن اسمه مشتق منه، و لأن الرواية تضعه في مصاف القدر الذي يمثل الوصول إليه بعد عناء البحث خاتمة للرواية. إن الكتابة عن تجربة المرأة في هذا الظرف العراقي الخطير، و التوكيد على خصوصية التجربة النسوية و إنجاز كل ذلك في عمل روائي يرقى إلى مستوى الرؤيا الكونية لهو فعل إبداعي لا تقدر عليه إلا كاتبة كبيرة في تجربتها الفنية و الحياتية. و لقد حققت رواية (سيدات زحل) هذا الشروط و قدمت إنموذجا ً نعتقد أنه إنجاز روائي إبداعي عراقي صميم سيأخذ مكانته التي يستحقها في الدرس النقدي العراقي.