منذ مائة عام أبدى "فلوبير" "G. FLAUBERT" في رسالة كتبها لعشيقته الملاحظة التالية: "كم نزداد علما إذا اقتصرنا على المعرفة الجيدة والدقيقة لخمسة أو ستة من الكتب ." يجب علينا أثناء القراءة ملاحظة وتذوق الجزئيات، وليس ثمة ما يضاف ليلا في ضوء القمر من أفكار عامة إذا كنا قد التقطنا بحب وشغف الومضات الصغيرة للشمس من الكتاب. فإذا بدأنا من عموميات جاهزة ، فقد بدأنا من المدخل السيء. وسنبتعد من الكتاب قبل البدء في الفهم. وليس هناك أقبح ، ولا أقل لياقة للمؤلف من الشروع في قراءة رواية "مادام بوفاري" "Madame Bovary" مثلا ، مع تبييت الفكرة الجاهزة بأنها انتقاد وفضح للبرجوازية . بل يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن كل أثر إبداعي إنما هو– دائما- إبداع لعالم جديد. وأول مطلب نضطلع به ، هو دراسة هذا العالم عن قرب ، وكأنه "شيء" جديد كل الجدة، لا يملك أدنى رابطة مع العالم الخارجي الذي نعرف. ولا يجوز لنا البحث في روابطه مع الواقع ، ومع الحقول المعرفية الأخرى، إلاّ بعد المقاربة الدقيقة لعالمه الخاص. سؤال آخر! هل يمكننا أن نأمل في الظفر بمعلومات تتعلق بمكان ما، أو بحقبة تاريخية، من رواية نقرأها؟ وهل من ساذج يعتقد أنه في مقدوره تطوير معرفته التاريخية استنادا إلى بعض الروايات الشهيرة التي تكتظ بها رفوف المكتبات والأندية تحت نعت الروايات التاريخية ؟ وفيما يخص الروايات الخالدة، هل يجوز لنا تصديق الصورة التي قدمتها "جان أوستين" "JANE AUSTEN" لإنجلترا، عن ملاك الأراضي، والحدائق، والبالونات، وهي التي لم تعرف سوى الصالون الصغير لقسيس الكنيسة؟ وهل يجوز لنا أن نتخذ من "بليك هاوس ""Bleak House" – تلك الرواية العجيبة التي تجري أحداثها في لندن العجيبة – وثيقة عن المدينة في قرن مضى؟ قطعا لا! الحقيقة أن كل الروايات الكبيرة إنما هي حكايات جنيّات وحسب. إن الزمن والمكان، واللون والمواسم، وحركة العضلات والفكر، كل ذلك بالنسبة للكاتب العبقري لا تشكل معطى من المعارف التي يمكن الحصول عليها من الحقائق العامة. ولكنها سلسلة من الاكتشافات الخاصة التي تعوّد الكتاب الكبار التعبير عنها بطرائقهم الخاصة.و يبقى تنميق الأماكن المألوفة للذين هم أقل دربة ومرتبة.إذ ليس لديهم همّ إبداع العالم، وإنما يكتفون باستغلال النظام الكائن للأشياء جهد المستطاع، بحسب الطرائق التقليدية للرواية.وما ينحته هؤلاء الكتاب من التركيبات الممكنة– وفي حدودها- لون من الإنتاج الطريف- المهذب والزائل- ما دام القراء الأدنى درجة يحبون مصادفة أفكارهم الخاصة تحت طلاءات جذابة. ولكن المؤلف الحق، ذلك الذي يفرض حركته على الكواكب، ذلك الذي يبدع إنسانا نائما ، ثم يقبل على تفعيل قيمة النائم.هذا المؤلف ليس في متناول يده القيم جاهزة، بل يجب عليه ابتداعها بنفسه.وسيكون فن الكتابة فنا تافها إذا لم ير في العالم المحيط مجالا خصبا للخيال.قد تكون مواد هذا العالم واقعية- إذا كانت هناك واقعية– بيد أنها غير موجودة في تصور شامل مدرك ومقبول. وإنما هناك فوضى.. ولهذه الفوضى يقول المؤلف:"تحركي" عندها ، يرتجّ العالم ويدخل في سلسلة من التفاعلات .ولا يتشكل في عناصره الظاهرية وحسب، وإنما في ذراته كذلك. والمؤلف هو أول إنسان يرسم خريطته و يسمي أشياءه..هذه العنبية أكيلة، هذا الكائن المرقط الذي وثب في طريقي يمكن تدجينه، هذه البحيرة بين الأشجار أسميها بحيرة "الحجر الكريم ""Opale"، أو أدعوها فنيا بحيرة "الحساء" "Lavasse" ، هذا الضباب جبل، وهذا الجبل يجب اقتحامه. ويتسلق المؤلف هضبة عذراء، ويصل إلى القمة مجانبا رأسا حجريا تعول فيه الرياح.. من تظنون يصادف هناك ؟ يصادف القارئ لاهثا.. يتعانقان إلى الأبد، إذا قدر للكتاب أن يعيش الأبد. ذات مساء، في مدرسة قصية ريفية، قادتني إليها سلسلة من المحاضرات، اقترحت لعبة صغيرة: من بين عشرة تعريفا للقارئ المثالي كان على الطلبة اختيار أربعة منها، وعند تركيبها تعطينا التعريف الصادق للقارئ الجيد.. لقد فقدت القائمة الأصلية، ولكني أذكر معطيات المشكلة. والاقتراحات العشرة هي كالتالي: على القارئ أن يكون مشاركا في ناد للقراءة. على القارئ أن يتعرف على ذاته في شخصية البطل أو البطلة. على القارئ أن يركز على الجانب الاجتماعي / الاقتصادي. على القارئ أن يفضل رواية تقوم على الحركة والحوار، على العاطلة منها. على القارئ أن يكون قد شاهد القصة فلما قبل قراءة الرواية. يجب على القارئ أن يكون روائيا بالقوة. لابد للقارئ من خيال جامح. لابد للقارئ من ذاكرة قوية. لابد للقارئ من قاموس. لابد للقارئ من حس فني. لقد راهن الطلبة على المعطيات العاطفية، والحركة، والجوانب الاجتماعية/ الاقتصادية / التاريخية..ولكن – مثلما فكرتم في ذلك- فإن القارئ الجيد هو ذاك الذي يمتلك ذاكرة، وخيالا، وقاموسا، وحسا فنيا. أكتفي بذلك دون الحاجة إلى بسط. إنني استعمل لفظ " قارئ" في معناه الشاسع الواسع. ومن العجيب أننا لا نستطيع قراءة كتاب، وإنما نعيد قراءته، لأن القارئ الجيد ، الفعال، المبدع، إنما هو "قارئ معيد" "RE-LECTEUR" وسأقول لكم لماذا ! عندما نقرأ الكتاب أول مرة، فإن عملية تحريك العينين في صبر ومشقة من اليسار إلى اليمين، ومن سطر لآخر، ومن صفحة إلى أخرى.. فإن هذا الفعل الفيزيقي المعقد الذي يفرضه الكتاب، زيادة على ضرورة اكتشاف المكان، والزمان، والأحداث لفظا.. كل ذلك يحول دون القارئ والحكم الفني.وعندما نتأمل لوحة فليس علينا تحريك العينين بطريقة خاصة، حتى وإن كانت اللوحة تقدم لنا- شأن الكتاب- مادة للتأمل والتفكير العميقين. إن عامل الوقت لاتأثير له عند اللقاء الأولي باللوحة.ولكننا في حاجة إليه عندما نقرأ كتابا للتعرف عليه. وليس لنا عضو فيزيقي كالعين إزاء اللوحة، يمكّننا من الإدراك الكلي لمجموع اللوحة، ثم يتفرس– فيما بعد – في الجزئيات.بيد أنه يمكننا في القراءة الثانية والثالثة والرابعة أن نتصرف في الكتاب بنفس الطريقة التي هي لنا إزاء اللوحة.. مهما يكون الكتاب .. تأليف خيال، أو تأليف علم – الحدود بينها لاتزال غير واضحة دائما- فكتاب الخيال يخاطب قبل كل شيء العقل.. العقل ، المخ، قمة النخاع الشوكي، أين تجري الرعشات .. الجهاز الوحيد الذي يصلح للقراءة. بعد هذا يحق لنا التفكير في المسألة ! ومن ثم البحث في الكيفية التي يشتغل بها العقل في اللحظة التي يواجه فيها القارئ الخامل وهج الكتاب. في البدء يختفي عبوسه، وعلى الرغم من كل شيء، يدخل اللعبة.إن جهد الشروع في القراءة ، خاصة إذا كان الكتاب يحظى بالحب عند العامة من الناس، ويراه القارئ الشاب في قرارة ذاته قديما، أو جادا..هذا الجهد يكون عادة صعبا أول وهلة، ولكنه يعود– بعد إسدائه- بمكافآت طيبة.فإذا كان المؤلف قد استند إلى خياله الواسع لإنشاء الرواية، فإنه - من الطبيعي- أن يكون على القارئ بذل القدر المناسب من خياله الخاص. بيد أن هناك لونين من الخيال لدى القارئ. ولننظر أيهما يكون استدعاؤه مناسبا للقراءة. هناك لون من الخيال الأدنى ، يستند إلى أحاسيس بسيطة ذات طابع شخصي ( وهذا النمط من القراءة العاطفية يحتوي على عدد من التقسيمات التحتية.) . قد نتأثر عميقا لموقف في الكتاب لأنه يذكرنا بواقعة حدثت لنا ، أو لأحد من معارفنا. أو يفضل بعضهم كتابا لأنه يذكر بلدا، أو منظرا، أو نمطا من الحياة، يجد فيه نوستالجيا ماضيه الخاص.أو يتمثل ذاته في شخصيات القصة– وهو أسوء المواقف التي قد يقوم بها- ولست أحبب هذا النمط الدني من الخيال للقارئ. ما هي إذن الأداة الفضلى التي يستعملها القارئ ؟ إنها الخيال اللاّشخصي والمتعة الفنية. والذي أعتقد أنه يجب تحقيقه، هو إجراء تناغم بين عقل القارئ وعقل المؤلف، والمحافظة على مسافة ما، والتمتع بهذه المسافة. ومن ثم التذوق الكلي، والتذوق الملتذ، والتذوق بواسطة العبرات والقشعريرات للّحمة الحميمية لهذا الأثر أو ذاك. إن الموضوعية الخاصة مستحيلة في هذا الميدان ! وكل ما هو أهل يوجد في مقدار من الذاتية. قد يحصل مثلا أن وجودك على هذه المدرجات هو ملك حلمي الخاص، أو أن أكون كابوسك، ولكن الذي أريد قوله، أنه على القارئ أن يعرف متى يحد من خياله حتى يتمكن من الرؤية الواضحة للعالم المتميز الذي يضعه المؤلف في متناول يده. يجب علينا أن نرى الأشياء ، وأن نسمعها ، وأن نتمثل الديكور والثياب، وعادات شخصيات المؤلف. إن لون عيون "فاني برايس" "Fanny Price" في "Mansfield Park" وأثاث غرفتها الباردة عناصر ضرورية . إن أمزجتنا تختلف، وأستطيع من الآن أن أقول لكم أن أفضل ما يمكن أن يمتلكه القارئ، أو تنميته، هو تركيب من المزاج الفني والمزاج العلمي. وللفنان وحده- في نشوته- أن يكون ذاتيا. ثم يأتي فيما بعد لون من الوقار العلمي يهذّب اندفاع الحدس.فإذا شاء أحدهم أن يندفع في قراءته مجردا من الحماسة والصبر- حماسة الفنان وصبر رجل العلم- فهذا القارئ لا يقدّر إلاّ بمشقة الأدب الرفيع. لم يولد الأدب يوم أن صرخ طفل صغير :" الذئب.. الذئب !" وهو يعدو في سهل "نياندرتالي" "Neanderthal" وفي أعقابه ذئب أغبر. ولكن الأدب ولد يوم أن صرخ الطفل:"الذئب.. الذئب ! "ولم يكن شيء يلاحقه .فإذا قضى هذا الطفل ضحية أكاذيبه المتكررة، فالأمر ثانوي، فالمهم أن بين الذئب في طرف الغابة، والذئب في طرف الصفحة التماع حلقة.. هذه الحلقة ، هذا الموشور، هو الفن الأدبي.إن الأدب إبداع ، والخيال خيال. أن نسمي قصة، قصة واقعية، هو شتم للفن وللحقيقة في ذات الآن.وكل كاتب كبير إنما هو مشعوذ، وكذلك هي الطبيعة المخادعة. إن الطبيعة تخادع دوما! فمن مخادعة التناسل إلى الحركات الدفاعية المعقدة للفراش والطيور، تمتلك الطبيعة أروع جهاز للسحر والشعبذة. ولا يصنع المؤلف سوى اتباع السبيل الذي سطرته الطبيعة. ولنعد قليلا إلى طفلنا المتوحش، وهو يصرخ: "الذئب .. الذئب !" عند طرف الغابة. ويمكننا تلخيص الموقف كالتالي : لقد كان سحر الفن في شبح الذئب الذي اختلقه، في حلمه بالذئب، وبعدها كانت الأكاذيب التي روجها هي القصة الجيدة.وعندما قضى فريسة بين أنياب الذئب، اكتسبت القصة قيمة المثل الذي يروى مساء حول نيران المخيم.بيد أن الساحر الصغير كان مبدعه. وفي إمكاننا أن ننظر إلى المؤلف من زوايا ثلاث مختلفات: قد نعتبره حكواتيا، مربيا، مشعبذا. وفي مقدور الكاتب الكبير أن يؤلف بينها جميعا ( حكواتيا+ مربيا + مشعبذا) ولكن المشعبذ يهيمن على الأخرى، وذلك الذي يجعله كاتبا كبيرا. عندما نلتفت إلى الحكواتي فإننا نبحث عن التسلية، أي أننا نبحث عن إثارة عقلية من اللون البسيط جدا، أو المشاركة العاطفية، أو متعة السياحة في أماكن قصية في الزمان والمكان. ويبحث نمط آخر من العقول المختلفة قليلا- وليس بالضرورة الأرقى- في المؤلف عن المربي، الداعي، الأخلاقي، النبي، بحسب النظام التصاعدي. وقد لا ننتظر من المربي درس الأخلاق بل المعرفة المباشرة والإشارات البسيطة. وقد عرفت-وللأسف – أناسا لا يقرؤون الروائيين الفرنسيين أو الروس، إلاّ بغية التقاط المعلومات عن أساليب العيش في باريس المرحة، أو عن روسيا الحزينة. أخيرا وقبل كل شيء، فإن الكاتب الكبير يكون دوما ساحرا كبيرا. وفي هذا المستوى وحده نلامس الوجه الجذاب للمسألة. عندها نحاول المسك بسحره الخاص، ودراسة أسلوبه، وصوره، ومعمارية رواياته وأشعاره. تسعى الأوجه الثلاثة للمؤلف الكبير (سحر + نص+ تعليم) إلى التمازج والاتحاد في انطباع مشع واحد ووحيد. بل يمكن أن يتجلى سحر الفن في هيكلية النص، في نخاع الفكر. هناك آثار خالدة للفكر الدقيق، الصافي، المبنين، تهز في ارتعاشات إحساسنا الفني بنفس الدرجة التي تحدثها رواية مثل "Mansfield Park" أو أي دفق للصور الجميلة عند "ديكنز" "DICKENS" . يبدو لي أن أفضل معيار لتقويم الرواية– أخيرا- هو أن نكتشف فيها ، في تلاحم شديد، دقة الشاعر، وحدس رجل العلم. وإذا أراد القارئ العبقري أن يسبح في سحر الكتاب، فلا يقرأ بقلبه ولا بعقله، ولكن بنخاعه الشوكي: هنا تتم ترجمة الرعشة الموحية . حتى وإن تطلب ذلك الحفاظ على شيء من المسافة، وشيء من الانفصال. عندها نشاهد- من خلال متعة عاطفية، وأخرى فكرية- الفنان وهو يبني قصره الورقي، ونشاهد القصر الورقي يتحول إلى قصر من زجاج وفولاذ براقين. ================================== * القارئ الجيد ..الكاتب الجيد. بقلم : فلاديمير نابوكوف. فصل من كتاب: الأدب 1.( القراء الجيدون والكتاب الجيدون). نشر فايار.1983 بالنسبة للترجمة الفرنسية. ترجمة :هيلين باسكييه. VLADIMIR NABOKOV. LITTERATURES1. ترجمة وتعريب: أ.د. حبيب مونسي. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. جامعة سيدي بلعباس.22000 / الجزائر. ================================== ولد فلاديمير نابوكوف عام 1899 في سان بيترسبورغ من عائلة أرستقراطية . نفي عام 1919 . عاش أولا في كامبريدج، أين أنهى دراسته، ثم ألمانيا وفرنسا، وغادرها عام 1940 ليستقر بالولايات المتحدةالأمريكية. درس مدة عشرين عاما في "WELLESLEY COLLEGE 1941/1948" وفي "CORNELL UNIVERSITY 1948/1958" وبعد النجاح العريض لروايته"LOLITA" عاد إلى سويسرا في MONTREUX أين وافته المنية عام 1977.