سعدية مفرح في شهادة شعرية عن تجربتها: تساءلت: لماذا لا أداوي علل الروح بهذا الشيء الذي يسمونه الشعر قدمت الشاعرة سعدية مفرح ورقة عن تجربتها الشعرية ، وذلك في ندوة مجلة العربي التي اختتمت اعمالها مؤخرا في الكويت، وأدار الجلسة الناقد د.جابر عصفور وشارك فيها د.صلاح فضل والشاعر محمد علي شمس الدين والشاعر صلاح دبشة. وسلطت الشاعرة من من خلال ورقتها الضوء على مشوارها الشعري بلغة جديدة مزجت فيها بين واقعية الحدث والمنحى الشعري الذي جاء منسجما مع طبيعة الموضوع بلغته التعبيرية . وقالت الشاعرة مفرح في بداية ورقتها: تنفتح الذاكرة على ذاكرتها الأولى، على وجودها الأول، فنكتشف كم هي حنون رياح الظنون وهي تهب باتجاه ماض لا يريد أن يختفي.... ربما لأنه لم يعد كائنا حقيقيا، وربما لأن غيره لم يستطع أن يحتل تلك المساحة الغامضة المفروشة بتلك الظنون وبتداعياتها المتواترة، وربما لأنه من القسوة ما يجعله يؤثث لوجوده تاريخا جديدا كل لحظة جديدة...ربما. لكنه القلب...، وحده القادر على أن يحل محل الذاكرة دون أن يلغيها.. وهو الشعر...، وحده القادر على تفسيرها بشكل لا يؤذي أحدا..فلا يجرح شجرة ولا يستفز بحرا..ولا يستغيب سماء، وبالتالي لا يؤذي تلك الجغرافيا الذاهلة باتجاه تحققنا في مبتداه ومنتهاه مسيجة بالطفولة والتي يحلو لنا، كلما اغرورقت عيوننا بالدموع المبهمة، أن نسميها الوطن. وتابعت: أما أنا فما زلت أراوح بين الذاكرة والقلب، وفي محيط تلك الأيام التي اختفت تواريخها، وانمحت في خضم الزمن الجديد، رغم أنها الماضي والأيام التي ما زالت تقترح تواريخها المستمرة بحجة أنها الحاضر.... وأضافت: لا أدعي أنني كنت أعرف تلك الوظيفة الجميلة التي يقترحها المجنون للشعر عندما قررت أن أكون شاعرة رغم أنني لم أكن أتجاوز الثانية عشرة من عمري، طفلة صغيرة وحيدة تعيش في أسرة ذكورية بامتياز، فينفرض عليها أن تفتش لنفسها عن دور ذكوري يتلاءم مع الصورة العامة المرسومة بدقة ووعي وتصميم لهذه الأسرة الصغيرة، ومع الصورة الخاصة المرسومة لها بقسوة مذهلة والمفروضة عليها، في ملابسها، وقصة شعرها، وألعابها إن وجدت وفي قراءاتها المبكرة، وفي صداقاتها الطفولية المعدومة إلا قليلا، وفي المساحة الجغرافية التي ينبغي أن تتحرك في حدودها، حيث غرفة واحدة بنافذة وحيدة هي كل تلك الجغرافيا، لكن للطفولة مباهجها السحرية رغم كل شيء، ولم يكن لمباهجي المبكرة عنان إلا القراءة، قراءة كل شيء.. كل ما تقع عليه عيناي المندهشتان من قسوة العالم ووحشته وبرودة شوارعه الترابية التي تؤدي دائما وسريعا إلى جنة بيتنا الصغير أقرأ.. وأقرأ.. وأقرأ.. فيقودني سحر القراءة إلى سحر النص الديني ( القرآن الكريم) ، وبدوره يقودني إلى خير ما يمكن أن أقرأه في حدائق القراءة المفتوحة حيث أشجار الشعر هي الدهشة المتناسلة من بعضها البعض.. فلماذا لا أكون شاعرة إذن؟ لماذا لا أحقق للآخرين دهشة إضافية فيما بدا لي سهلا وأنيقا وغير مكلف في ذات الوقت؟ ولماذا لا أداوي علل الروح بهذا الشيء الذي يسمونه الشعر وكأنهم يشيرون للحياة في واحد من أجمل أسمائها؟. لكن... من أين وكيف يجيء الشعر؟ ثم تساءلت الشاعرة سعدية مفرح في ورقتها: كيف يتوصل هذا الحرون-وتقصد به الشعر- الأليف الى مداخلنا السرية ليقيم فيها الى أبد العلاقة به؟ما الذي يجعلنا نتربص بلغته حالمين بهتك الأسرار الموحية بها والراصدة لها والداعية إليها؟من أين يجيء الشعر إن لم يختزل في شهقاته السرية بعضا من شهقاتنا الأولى وخطواتنا الأولى ورغباتنا الاولى؟ كيف له أن يصل إلينا ونصل إليه إن لم تدل عليه تلك الأصابع السحرية بوصلةً للمزيد من الحياة وللمزيد من الموت؟ كيف يمكن عبور البرزخ المؤدي الى جنة الشعر إن لم ننكوِ بنارهِ على هامش من ألق وقلق وخيارات وبيانات ومواهب وانحسارات واندهاشات لها لذة الألم وألم اللذة وأشياء أخرى لا تسمى؟كيف للشعراء أن يقيموا علاقاتهم السرية مع القصيدة من دون بئر أولى يمكنهم أن يمتحوا منها ارتواءاتهم غير المتوقعة وانذاهالاتهم غير الأكيدة وقوفاً طللياً على حافة البئر القديمة؟كيف للبئر القديمة أن تنتشي بمياهها الجديدة؟كيف للمياه أن تسيل خيوطاً ممتدةً ما بين الشك واليقين مجللةً بالمفاجأة ومكللة بغار الجماهير الصاخبة؟كيف لشاعر أن يقول شعرا جميلا؟كيف لقصيدة أن تجيء هكذا ...بقلق..بفرح..بوجع ..بعنف ..باطمئنان؟ كيف لها أن تعلن موتها النهائي بتحققها النهائي في قصيدة حية قادرة عبر موتها، حيث تموت الأشياء بالسكون، على متابعة الحياة ،حيث يبقى الشعر عندما يموت الشاعر؟ وتجيب : نعود للسؤال الأول إذن: من أين وكيف يجيء الشعر؟ وتتابع: لأنني فشلت دائما في الإجابة على هذا السؤال الذي عذبتني سهولته المراوغة بقدر ما أهانت صعوبته المراوغة أيضا قدرتي التي كنت أتوهمها على معرفة ذاتي بشكل معقول إلى حد ما، فقد استبدلت هذا الفشل بذلك الخوف،وصارت الأمور أقل إحباطا، فالشعر الذي اخترت أن أتعاطاه قراءة وتلقيا وانتاجا نصيا، نجح تماما في تخليصي من عقدي الشخصية التي كنت أتوقع أن اختفي تحت لفائفها القديمة. وقالت : لأن الشعر بخاصيته الاستفزازية يضيف للمرأة بخاصيتها الاستفزازية بدورها في مجتمع يغص بذكوريته خواص استفزازية إضافية فإنه يقدم لها من حيث لا تدري أحيانا أول أدوات أو شروط الجودة والأصالة لممارسة الإبداع الشعري أو أي إبداع، فالمرأة التي تختار الشعر رهانا لحياتها يفترض إنها منذ البدء تعرف صعوبة الاختيار ولذته وتصير بالتالي مستعدة لإنجاز تجربتها الشعرية الحرة حتى وإن تم ذلك في مجتمع ذكوري قامع ورافض ومحارب لحميمية المرأة، ما دامت قد استطاعت عبور البرزخ السري الدقيق المؤدي إلى جنة الشعر وناره. وعن الشكل الفني الذي بدأت به مشوارها في كتابة نمط القصيدة تقول الشاعرة سعدية مفرح: بدأتها عمودية تناوش القصيدة العامية بسمتها النبطي التقليدي تحديدا قبل أن تبتكر حداثتها الخاصة في أشكال شعبية لم أهيئها للنشر أبدا ، وظلت صورا متداولة بين الأصدقاء على بعض منابر القول في أمسيات شعرية جلها بين أروقة الجامعة ... وأضافت :لم أكد أنوي تركيب مجموعتي الشعرية الأولى حتى وجدتها كلها في إطار تفعيلي يستفيد من كل المحيط التفعيلي بشكل شائك وأحيانا مشوه ، ولكنه الشكل الذي ترسخ في كتابين آخرين ربما قبل أن يتلاشى أو يغيب فأجد في قصيدة النثر اختياري وقراري ولحظتي الشعرية الأكثر رهافة، وبها أعيد اكتشاف طاقتي على القول الشعري ، ومن خلال تماهي نصي مع نماذجها الأكثر عفوية أقترب من قاع القصيدة وأنا أتطلع إلى قمة مستحيلة..وعلى الرغم من أن قصيدتي الأخيرة تفعيلية تزعجني بموسيقاها الصاخبة ، إلا أنها ما زالت تجري على هامش من ذهول النثر الجميل..