شهدت باريس خلال الأسبوع الثاني من شهر أبريل 2025 نشاطا ديبلوماسيا وفكريا وإعلاميا مكثفا لرابطة العالم الإسلامي، اكتسى أهمية بالغة لاعتبارات عديدة سنعرض لها لاحقا في هذا المقال. وترأس هذه الأنشطة فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام للرابطة، رئيس هيئة علماء المسلمين، حيث تباحث مع كل من وزير الداخلية السيد برونو روتايو، ووزير العدل وحافظ الأختام، السيد جيرالد ديرماران، ووزيرة المساواة ومكافحة التمييز، السيدة أورور بيرجيه، ووزير الخارجية جون نويل بارو.
وجرت هذه اللقاءات في إطار زيارة رسمية للأمين العام للرابطة إلى الجمهورية الفرنسية، استجابة لدعوة من أبرز مراكز الفكر والدراسات في فرنسا التي تتميز بسعة الانتشار والتأثير العالمي. وبمناسبة هذه الزيارة، قام الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بالتواصل مع الرأي العام الفرنسي حيث استضافته يومية "لوبينيون" في باريس، بحضور عدد من مسؤولي المراكز البحثية والسياسيين وصنّاع الرأي، وناقشت معه عددا من القضايا ذات الصلة برسالة الرابطة، وإيضاح الموقف الشرعي منها.
كما تحاورت معه حول مجموعة من المصطلحات الفكرية والدينية الأكثر تداولا واستطلاعا ومحط سوءَ فهم للإسلام، إضافة إلى تناول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وفي السياق نفسه أجرت وكالة الأنباء والإذاعة الفرنسية لقاء مع الأمين العام للرابطة بحضور مراسلين دوليين تناول عددا من القضايا الفكرية ومصطلحاتها الدينية الأكثر تداولاً ومثارا للمغالطات وسوء الفهم لدى الرأي العام الفرنسي. ويندرج هذا الحضور الديبلوماسي والفكري والإعلامي لرابطة العالم الإسلامي في فرنسا في إطار تفعيل تحالفاتها القائمة مع عدد من مؤسسات وقيادات أتباع الأديان في الدول الغربية ، وخاصة في فرنسا حيث يوجد أصدقاء للرابطة من أتباع الأديان ومن المثقفين والمفكرين وأيضا من السياسيين.
وقد سبق للرابطة أن كانت وراء توقيع اتفاقية باريس للعائلة الإبراهيمية التي اعتمدها مؤتمر باريس للسلام والتضامن الذي عقدته الرابطة بالتعاون مع( مؤسسة إسلام فرنسا ) في شهر سبتمبر 2018 . ويمكن القول بأن أنشطة الرابطة وأمينها العام فضيلة الشيخ العيسى في العاصمة الفرنسية باريس، تأكيد للعلاقة المتميزة القائمة بين الرابطة والدوائر الرسمية في فرنسا وتعزيز للثقة القائمة بينهما، مما يجعل من الرابطة اليوم مخاطبا موثوقا به، ومنظمة إسلامية عالمية بإمكانها أن تدافع عن حقوق الجاليات المسلمة في فرنسا وتعرف بالرسالة النبيلة والحقيقية للإسلام، بأسلوب دبلوماسي حضاري فاعل ومستدام، يقطع الطريق على المتطرفين عندنا وعندهم ممن يوظفون الدين الإسلامي لأهداف سياسوية وانتخابية.
وللتذكير بأهم محطات التواصل البناء بين رابطة العالم الإسلامي والقيادات السياسية والفكرية في فرنسا، نشير إلى استقبال الأمين العام للرابطة في ديسمبر من عام 2018 في مكتبه بالرياض، وفدا من البرلمان الفرنسي وعدد من المسؤولين في السفارة الفرنسية. كما تلقى اتصالًا هاتفياً، في نونبرمن عام 2020، من وزير الخارجية السابق، جان ايف لودريان، الذي أوضح أن فرنسا تكنُّ الاحترامَ للإسلام، وأن المسلمين الفرنسيين جزءٌ من الجمهورية الفرنسية. والتقى الأمين العام للرابطة وفدًا برلمانيًّا فرنسيًّا، بمدينة الرياض في ديسمبرمن عام 2023. كما استقبل في فبراير من عام 2024 بالرياض وزير الداخلية وأقاليم ما وراء البحار ، السيد جيرالد دارمانان الذي أكد في هذه المناسبة أنَّ فرنسا دولةٌ صديقةٌ للدول الإسلامية، ونوه بجهود الرابطة في تعزيز هذه الصداقة.
وعلى المستوى الإعلامي، صرح الأمين العام للرابطة للصحيفة الفرنسية (لوجورنال دو ديمانش) في نوفبر 2020 ، أنه يتوجب على مسلمي فرنسا احترام قوانين الجمهورية الفرنسية وقيمها أو مغادرة البلاد.وأكد أن الرابطة تدعو دائما مسلمي فرنسا إلى احترام الدستور والقوانين والقيم الخاصة بالجمهورية الفرنسية .وفي تعليقه على تصريحات الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون في أكتوبر من عام 2020 حول الإسلام واتهامه للمسلمين في فرنسا بالانعزالية والانفصالية ، أوضح الشيخ العيسى في البرنامج التلفزي ( في الآفاق ) في قناة MBC الفضائية ،أن هناك مسلمون أو محسوبون زورا وكذبا على الإسلام أساؤوا إلى سمعة الإسلام من خلال تشددهم وتطرفهم وعنفهم وإرهابهم، مؤكدا أنهم لا يمثلون الإسلام مطلقا وأن البلاد الإسلامية اكتوت بعنفهم أكثر من غيرها. وبخصوص الانعزالية والانفصالية التي وردت في تصريحات الرئيس الفرنسي ، أوضح أن المقصود هم أولائك المتطرفون والإرهابيون الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمعات الإسلامية ، وأكد أن أمثالهم موجودون في كل الأديان بشهادة التاريخ الإنساني وتسببوا في حروب مهولة.
لقد سبقت الإشارة في مقدمة هذا المقال إلى أن زيارة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي لفرنسا تكتسي أهمية بالغة لاعتبارات عديدة ، منها ما يتعلق بتعزيز التعاون والثقة بين الرابطة والدوائر الرسمية والإعلامية الفرنسية في المجالات ذات الاهتمام المشترك، وفي طليعتها تعزير الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب خدمة للأمن والسلم العالميين والتصدي للجماعات المتطرفة ومحاربة أفكارها المتشددة والحد من مخاطرها . ومنها ما يخص فرنسا التي ظل موضوع "الإسلام الراديكالي" منذ فترة طويلة، يمثل قلقا مستداما وخوفا مزمنا لدى قادتها السياسيين منذ فرنسوا ميتران و جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا أولاند ، ايمانويل ماكرون حاليا. لقد سعوا جميعهم إلى مراقبة المساجد وتوجيه الخطاب الديني بما يتلاءم مع قيم الجمهورية.
لقد كان لأحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن بالولايات المتحدةالأمريكية تداعيات خطيرة على المسلمين في فرنسا حيث استفحلت ظاهرة الحقد والكراهية والاستفزاز ضدهم كأفراد، وضد مؤسساتهم الدينية (المساجد، المقابر) وكذلك التضييق على نشاطهم الثقافي والاجتماعي والدعوي. ومنذ تلك الأحداث دخل الفرنسيون ، حكاما ومجتمعا مدنيا وإعلاما ، مرحلة جديدة في التعاطي مع الإسلام والمسلمين حيث سيطرت العقلية الأمنية داخل الدولة الفرنسية في تعاملها مع المسلمين، فأصبحت المساجد والخطب ولقاءات المسلمين وجمعياتهم خاضعة لرقابة شديدة من طرف وزارة الداخلية ورجال المخابرات. وفي هذا السياق أقدمت الحكومة الفرنسية في ديسمبر 2002 على إنشاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وبذلك انطلقت مرحلة جديدة في تاريخ الجاليات والأقليات المسلمة في فرنسا إذ أصبح ينظر إليهم على أنهم (مسلمو فرنسا) وليس (المسلمون في فرنسا).
إن فرنسا تعد من الدول الأوروبية التي تتجسد فيها تناقضات العقل الأوروبي إزاء الإسلام، وتتبلور فيها بجلاء التفاعلات والارتباطات القوية والمستمرة لسيرورة الرؤية الغربية للإسلام ومختلف مراحل بناء الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين .فالرؤية الفرنسية للإسلام ترتبط ارتباطا وثيقا بإشكالية الحوار الإسلامي في الغرب التي تتصل بإشكالية كبرى هي إشكالية المغايرة أو الآخرية (نسبة إلى الآخر). فالمغايرة مفهوم حاضر في كل الثقافات وقائم على أساس ثنائية الاختلاف بين الآنا والآخر. وعلى هذا الأساس فإن الرؤية الفرنسية للإسلام هي محصلة تراكمات تاريخية غذتها ولازالت مجموعة من المواقف القبلية الجاهزة والقوالب المشوهة.
ومن بين المكونات التي تستند إليها الرؤية الفرنسية للإسلام مضامين الخطاب الإعلامي حول الإسلام والمسلمين الذي يعتبر المسلمين في فرنسا تهديدا حقيقيا لعلمانية المجتمع الفرنسي. لذلك تصاعدت حملة وسائل الإعلام الفرنسية ضدَّ الإسلام والمسلمين، حتى إن معاداة الإسلام تحوَّلت إلى تجارةٍ رابحةٍ في الصحافة الفرنسية التي وضعت على عاتق المسلمين الأزمة الاقتصادية برمّتها والبطالة واختلال الأمن والإرهاب، وأصبح الناخبون الفرنسيون في مواقع عدة يصوِّتون لأكثر المرشحين عدوانيةً ضد الإسلام . إن المجلات الفرنسية التي تخصص أعداداً تدور محاورها حول الإسلام، ترتفع معدَّلات مبيعاتها 15 بالمئة. لذلك باتت المجلات التي تعاني من الركود تلجأ إلى توظيف محاور تحريضية معادية للإسلام لكي تحل أزمتها الاقتصادية. وفي مثل هذه الأجواء، ازدهرت تجارة معاداة الإسلام، وصدرت مئات المجلات الأسبوعية والشهرية بأعداد خاصة تدور محاورها حول "الإرهاب الإسلامي"، أو "القرآن والعنف"، أو "الإسلام والسيف".
في بحث جامعي أنجزناه حول صور الشخصية المسلمة في الصحافة الفرنسية من خلال تحليل مضمون المواد الإعلامية المنشورة في الصحافة الفرنسية حول الإسلام والمسلمين، توصلنا إلى ما يلي: – التركيز المقصود على نوع معين من المواضيع التي تحيل القارئ إلى تمثلات ذهنية وتثير لديه مشاعر وأحاسيس ذات توجه سلبي أصلا مثل: اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي، التعصب الديني، الحجاب، الحركات الإسلامية، الأصولية والتطرف والإرهاب، الخوف من الإسلام، أموال المسلمين في فرنسا، صراع الحضارات خطر الانتشار الإسلامي في أوربا. – ترويج صورة سلبية وسيئة ومشوهة عن الإسلام والمسلمين، مما أدى إلى اتساع فجوة سوء الفهم والتفاهم بين المجتمع الفرنسي والجاليات المسلمة، كما أن ذلك أسبغ الشرعية على مطالب التيارات السياسية اليمينية المتطرفة الداعية إلى طرد كل المسلمين والعرب من فرنسا. – الاعتماد على مصادر يصطلح على تسميتها ب"خبراء الإسلام" أو "المثقفون الإعلاميون" وهي مصادر غير متخصصة في الشؤون الدينية والحضارية والتاريخية ذات الصلة بالإسلام والمسلمين. إنهم مجموعة من المحللين تتهافت عليهم القنوات التلفزية والصحف والمجلات في فرنسا لأنهم يحسنون الضرب على وتر مشاعر وأحاسيس المشاهد والقارئ. – مساهمة الصور السلبية حول المسلمين في انتشار العنصرية وكراهية الأجانب في فرنسا، الشيء الذي يؤثر سلبا على الاندماج الاجتماعي والمهني للجاليات والأقليات المسلمة وعلى المسار التربوي والتعليمي لأبنائهم. – تجريم المسلمين وإضفاء البعد الاثني على الانحراف والإجرام ، وذلك بتفسير ارتفاع الأعمال الإجرامية في المجتمع الفرنسي بأسباب ذات الصلة بالهجرة وربطها بالوجود الإسلامي المتنامي في فرنسا. – تناقض الخطاب السياسي في فرنسا أثناء التعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين حيث يتعايش الخطاب المعتز بانتشار قيم العدالة وحقوق الإنسان واحترام المواطنة والتنوع الثقافي، مع سياسة الإقصاء والعنصرية في حق المسلمين في فرنسا. – الربط بين الإسلام دينا وحضارة وبين بعض الممارسات المتطرفة والحركات الإسلامية المتشددة، وتناول الإسلام بأبعاده العقدية والشعائرية والاجتماعية بأسلوب درامي اختصاري وتجاهل التعريف بالقيم والمبادئ والمثل العليا السامية للدين الإسلامي، ودور الحضارة الإسلامية في النهضة الأوروبية. في ضوء هذه المعطيات نؤكد مرة ثانية على أهمية أنشطة الأمين العام لرابطة العام الإسلامي في فرنسا ودور علاقاته المتميزة مع المسؤولين السياسيين وقيادات المجتمع المدني الثقافي والديني في تصحيح الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين في الإعلام الفرنسي . ومما لاشك فيه أن مواصلة جهود الرابطة في هذا السياق في إطار خطة عمل مؤسساتية ومندمجة ومستدامة وطويلة الأمد من شأنه أن يحدث تغييرا في الرؤية الفرنسية للإسلام .