قرر المغرب بشكل رسمي ابتداء من الاثنين 15 يناير الجاري تفعيل قرار تعويم الدرهم الذي تم تأجيله في أكثر من مرة، وهو ما أثار مجموعة من النقاشات والتحليلات بين التفاؤل والتشاؤم، الكل يترقب والكل أيضا متخوف من سيناريوهات قد تؤثر على قيمة الدرهم وعلى القدرة الشرائية للمواطن المغربي المتضررة أساسا. في هذا الحوار يتحدث عبد الواحد سهيل، الوزير الأسبق للتشغيل والتكوين المهني، والخبير الاقتصادي الذي راكم تجربة مهمة في القطاع البنكي، امتدت لأزيد من 30 سنة في البنك المغربي للتجارة الخارجية، عن نظام الصرف المرن، والمخاطر التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية بعد اعتماده بشكل رسمي، مقدما في الوقت نفسه مجموعة من التجارب المشابهة للمغرب على غرار مصر والجزائر، غير أنه في المقابل يؤكد أن الدرهم المغربي يمكن أن ينجح في ما فشل فيه الجنيه المصري والدينار الجزائري، بفعل التنوع النسبي للاقتصاد الوطني، إضافة إلى وجود نوع من الثقة والاطمئنان على الوضع المغربي لأن ميزان الأداءات متوازن نسبيا، والتضخم في البلاد متحكم فيه نسبيا في العقود الأخيرة، وبنك المغرب في المقابل لديه احتياطي مهم من العملة الصعبة، لكن هذه العناصر كلها يمكن أن تتغير لا قدر الله في المستقبل، يقول عبد الواحد سهيل.
حتى تتضح الصورة أكثر.. ماذا نقصد بصرف مرن للدرهم؟
الدرهم المغربي إلى حدود الأحد الماضي (14 يناير 2018) كان مرتبطا بسلة العملات، وسلة العملات التي نتحدث عنها انخفضت بدورها إلى عملتين فقط، وهما الدولار الأمريكي واليورو الخاص بدول الاتحاد الأوروبي. حينما يتم تحديد سعر صرف الدرهم يدخل فيه وزن اليورو بنسبة 60 في المائة ووزن الدولار بنسبة 40 في المائة، وهذه العملية يقوم بها بنك المغرب بشكل يومي وعلى أساسها يحدد قيمة الدرهم.
وخلافا لما يشاع لم يكن أبدا صرف الدرهم ثابتا، فلو كان ثابتا لما تغير بشكل يومي. فخلال السنوات الماضية كان الدرهم بشكل يومي تابعا لتقلبات العملات التي كان يرتبط بها، وهي اليورو (60 في المائة) والدولار (40 في المائة). وتسعيرة الصرف التي كان يحددها بنك المغرب بشكل يومي كانت تسمح بهامش 6 في الألف (3 في الألف إيجابا و3 في الألف سلبا)، وعندما يحتاج زبناء الأبناك إلى العملة الصعبة يعطون الدرهم إلى بنك المغرب ويقوم الأخير بصرفه بالعملة الصعبة وبالسعر الذي يحدده مسبقا، ولما يحصل زبناء الأبناء على العملة الصعبة في حالة التصدير مثلا يعطون العملة الصعبة لبنك المغرب ليحصلوا على الدرهم.
هذا بخصوص النظام المعمول به سابقا.. لكن ما الذي سيتغير اليوم مع تعويم الدرهم؟
بنك المغرب سيستمر في تحديد السعر المرجعي، وفي كل يوم سيحدد سعرا جديدا للدرهم بالنظر إلى تقلبات السوق الدولية، خاصة اليورو والدولار، في حدود هامش 5 في المائة (2.5 في المائة إيجابا و2.5 في المائة سلبا) عوض هامش 6 في الألف المعمول به سلفا.
المسألة الثانية هي انتهاء احتكار التعامل بعملة بنك المغرب، فالبنك المركزي سيتدخل في حالة ما إذا احتاجت الأبناك إلى العملة الصعبة فقط مقابل الدرهم، لكن الأبناك في ما بينها بإمكانها إنشاء سوق، وبإمكان البنك الذي يتوفر على فائض أن يبيع العملة للبنك الذي له خصاص أو عجز، وبالتالي فسنكون أمام سوق للعملة فيه تدخل مجموعة من الأطراف.
هل كنا مجبرين على اعتماد هذا النوع من الصرف للدرهم؟
منذ أن اختار المغرب إنشاء عملته الوطنية "الدرهم"، بعدما كان مرتبطا بالفرنك الفرنسي إلى حدود سنة 1959، حدد لها سعرا ليس بالارتباط فقط بالفرنك الفرنسي ولكن ارتباطا بكل العملات التي كانت متداولة آنذاك والقالبة للتحويل. وقرار الصرف الذي نتحدث عنه هو قرار سيادي، لكنه مرتبط بالوضع الاقتصادي لكل بلد والاختلالات الموجودة في ميزان الأداء أو في الميزان التجاري. فالقرار سيادي، لكن عملية التعويم تدخل في نطاق -كما فسرتها السلطات المغربية- السماح بنوع من المضاربة داخل هامش معين، لكن هذه المضاربة سترتبط بالوضع المالي للبلاد.
المغرب فتح هامش المضاربة مؤقتا في حدود 5 في المائة، وهناك من الدول من وسعت هذا الهامش بشكل أكبر، والمغرب بدوره يمكنه أن يرفع من هذا الهامش، فالسلع الأجنبية التي يشتريها المغرب بالعملة الصعبة ستدخل إلى سوق مغربي غير محتكر، وهذا هو الجديد في هذه العملية. والمغرب اتخذ هذا الإجراء بعد طلب من صندوق النقد الدولي، حيث طلب من المغرب أن تكون له نفس الآليات التي تتوفر لدى البلدان التي يتعامل معها، وهي البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وهناك دول أخرى اضطرت لاعتماد هذا النظام المرن في صرف عملاتها، على غرار مصر، ونعرف ما حدث في هذا البلد العربي، فما حدث للجنيه المصري من انهيار مرتبط أساسا بالوضع السياسي والأمني أكثر من ارتباطه بقرار تعويم الجنيه المصري. وبالتالي فاختيار المغرب هو اختيار سيادي لكنه يدخل في النسق الليبرالي الذي يسير فيه المغرب.
هذا النظام من المؤكد أن له انعكاسات.. هل المغرب يتوفر على ضمانات بعد الدخول بشكل رسمي لنظام الصرف المرن؟
المغرب الآن يعتبر أن وضعه الاقتصادي نسبيا يجعل من هذه "المخاطرة" مرعية العواقب، فهناك نوع من الثقة والاطمئنان على الوضع المغربي لأن ميزان الأداءات نسبيا متوازن، والتضخم في البلاد متحكم فيه نسبيا في العقود الأخيرة، وبنك المغرب في المقابل لديه احتياطي مهم من العملة الصعبة، لكن هذه العناصر كلها يمكن أن تتغير.
كيف يمكن أن تتغير؟
اليوم هناك اطمئنان لكن الشروط الموضوعية لهذا الاطمئنان يمكن أن تتغير، وتعويم الدرهم يبقى نوعا من المجازفة، وأسباب الاطمئنان يمكن أن تنتفي في المستقبل، ولهذا وصفت العملية ب "المجازفة".
في معرض حديثنا تطرقت إلى النموذج المصري، حيث تهاوى سعر صرف الجنيه المصري بعد تعويمه بشكل كبير.. ما هي أسباب ذلك؟ وهل سيتجه الدرهم المغربي إلى السيناريو نفسه؟
إذا عرف المغرب لا قدر الله مشاكل بخصوص تراجع السياحة أو انخفاض سعر الفوسفاط أو ارتفاع ثمن المواد البترولية أو ارتفاع ثمن المواد التي نستوردها من الخارج، هذه عوامل كلها يمكن أن تنعكس بشكل سلبي على التوازنات الخارجية للبلاد، وآنذاك سيكون لدينا مشكل شح العملة الصعبة، ويجب أن نبحث عنها، فتعويم الدرهم هو مجرد أداة، والأداة في غياب المحيط الذي تشتغل فيه لا يمكن أن تؤدي دورها، فالذي يؤدي الدور هو الاقتصاد ومناخ الأعمال وقوة الاقتصاد واستطاعته جلب العملة في ظروف حسنة، فهذه التوازنات هي التي تجعل سعر الصرف مستقرا، وهذه التوازنات للأسف لم تقع في مصر، نظرا لتراجع السياحة لاعتبارات أمنية، إضافة إلى الوضع الاقتصادي للبلاد الذي لم يكن بدوره مستقرا بعدما عرفت مصر مجموعة من القلاقل، اضطرت معها لتخفيض عملتها حتى تحصل على قروض من المؤسسات الدولية.
هناك نموذج آخر قريب منا، وهو نموذج الجزائر التي اعتمدت بدورها نظاما لتعويم عملتها.. ما هي قراءتك لما حدث في الجزائر بعد تعويم الدينار الجزائري؟
بخصوص الدينار الجزائري يتم التحكم فيه بشكل إداري، والدينار الجزائري خلال السنوات العشر الأخيرة انهار بشكل فظيع جدا، فقيمة الدينار الجزائري سنة 1990 بالمقارنة مع الدرهم المغربي لا علاقة لها بقيمة العملة المغربية اليوم، التي صمدت نتيجة التنوع النسبي لاقتصاد البلاد، رغم الانكماش الذي عاشه المغرب والفترة القاسية التي صاحبت برنامج التقويم الهيكلي الذي تأثر المغرب منه كثيرا في مرحلة التسعينيات.
ونحن نتحدث عن تقلبات العملات.. يبدو أن هذه التقلبات عرفتها أيضا مجموعة من العملات كالجنيه الإسترليني الذي انخفض من 16 درهما إلى 12 درهما، والدولار الأمريكي الذي انخفض من 10 دراهم إلى ما دون 9 دراهم في مجموعة من المراحل؟؟
العملات المتداولة دوليا تخضع لوضع بلدانها، فحينما اتفق الأوروبيون على اليورو وضعوا له قواعد صارمة بخصوص توازنات ميزانيتهم، الشيء الذي جعل من اليورو عملة نسبيا قوية، والآن في أوروبا هناك كثير من الأصوات ترتفع على أساس أن لليورو قيمة كبيرة، مما ينقص من تنافسية أوروبا، لأن قيمة العملات يتم تحديدها حتى تخول لها التنافس عالميا، فهي في الأخير تخضع لقانون العرض والطلب.
بصفتك خبيرا اقتصاديا.. وإذا أردنا أن نقوم بقراءة استشرافية للمستقبل، كيف تنظر إلى الدرهم المغربي في غضون ال 5 أو العشر سنوات القادمة؟
(ضاحكا).. الخبراء حائرون في توقع ما سيحدث خلال الثلاثة أو الستة أشهر المقبلة، وأنت الآن تتحدث لي عن العشر سنوات المقبلة... ما أتمناه هو أن يكون المغرب بخير ويكون اقتصاده متوازنا، وأن تكون للبلاد كل مقومات الاستقرار والتطور، وتحرير الدرهم لابد أن يكون له تأثير على بلادنا، نتيجة وجود عدد من السلع التي يستوردها المغرب بالعملة الصعبة، فإذا انخفضت قيمة الدرهم فإن ذلك يعني أن تلك السلع سيصير ثمنها أكبر، مما سيؤثر لا محالة على الفئات الفقيرة من الشعب بشكل كبير.