وضع صندوق النقد الدولي مسألة تعويم الدرهم على رأس «الإصلاحات» التي أوصى بها الحكومة إلى جانب مواصلة «إصلاح» نظام التقاعد خلال تجديده لخط الوقاية الصيف الماضي. نفس الإصلاح فرضه صندوق النقد الدولي على مصر عندما ربط خلال الصيف الماضي منح أرض الكنانة قرضا بقيمة 1.2 مليار دولار بتطبيق مجموعة من الإجراءات ضمنها تعويم العملة. وبطبيعة الحال كانت النتيجة كارثية على القاهرة. فالجنيه المصري انهار بشكل مريع رغم كل الجهود التي بذلها البنك المركزي المصري لحماية عملته الوطنية ما أدى إلى ذوبان احتياطي البلاد من العملات كقطعة ثلج. وأصبحت مصر اليوم على شفير أزمة اجتماعية حادة قد تعصف باستقرار البلاد نظرا للمستوى الصاروخي للتضخم وارتفاع الأسعار وعدم قدرة البلد على مواصلة تموين الأسواق بالمواد الأساسية. فهل ينتظر المغرب مصير مماثل في حال اعتماد سياسة تعويم الدرهم؟ قبل أسابيع من تعويم الجنيه كان تشخيص صندوق النقد الدولي واضحا. عجز ميزانية مصر يعادل 13 في المائة من الناتج الداخلي، واحتياطي العملات تراجع 50 في المائة منذ 2011 بسبب انحسار الاستثمارات الخارجية ومداخيل السياحة التي تعتبر أبرز مصدر للعملة الصعبة. والعلاج السحري الذي اقترحه صندوق النقد الدولي هو تعويم العملة، والذي أكد خبراء الصندوق أنه سيجعل الاقتصاد المصري جذابا للاستثمارات والسياحة. لكن الوضع الذي وصلت إليه البلاد بعد تنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي أكثر كارثية مما كان عليه وأكثر تنفيرا للمستثمرين والسياح. بالنسبة للمغرب يرى خبراء صندوق النقد الدولي أن الوضع مختلف تماما. ويقولون إن "الحكومة المغربية" اختارت هذا الطريق عن طواعية، خلافا للحكومة المصرية التي وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ هذا الإجراء مقابل وعد بالحصولة على "جرعة" مالية من صندوق النقد الدولي. ويرى خبراء الصندوق أن المغرب الذي تمكن من استعادة توازناته الماكرو اقتصادية وتخفيض عجز الميزانية والتحكم في التضخم واستعادة عافية احياطياته من العملات الصعبة، يوجد في وضع مثالي لاتخاذ مثل هذا الإجراء. لكن السؤال الكبير هو هل المغرب في منآى عن تكرار السيناريو المصري؟ وما الذي سيحدث في حال تبنى المغرب خيار تعويم العملة؟. نظام الصرف الحالي ينتهج المغرب حاليا نظام الصرف الثابث من خلال ربط قيمة الدرهم بسلة من العملات، ظلت تركيبتها سرا حصريا لبنك المغرب لسنوات طوال قبل أن يقرر كشف بعض معالمها في السنوات الأخيرة. وحسب بنك المغرب فإن هذه السلة تتكون بنحو الثلثين من العملة الأوروبية اليورو، باعتبار الإتحاد الأوروبي الشريك التجاري الرئيسي للمغرب، وبنحو 40 في المائة من الدولار نظرا لكون الدولار هو العملة التي تتم بها صادرات الفوسفاط وواردات النفط إضافة إلى تدبير جزء مهم من المديونية. هذا النظام يعطي نوعا من الاستقرار لقيمة الدرهم ويمكن من تخفيف وقع تقلبات العملات الأخرى، خاصة اليورو والدولار. فسلة العملات المعتمدة تحدد سعرا مرجعيا للدرهم ويسهر بنك المغرب عبر تدخلاته لشراء أو بيع العملات على الحفاظ على سعر الصرف في السوق قريبا من هذا السعر المرجعي، وبذلك فإن بنك المغرب يتولى مهمة الدفاع عن قيمة الدرهم وضمان استقرارها. أما نظام تعويم العملة فإنه يعني أن على بنك المغرب أن يرفع يده عن الدفاع عن قيمة الدرهم أو التدخل من أجل تحديدها، ويترك مهمة تحديد سعر الدرهم لآلية السوق، التي تحدده على أساس توازن العرض والطلب على الدرهم. فمثلا لو أخدنا مكونات الميزان التجاري للمغرب استنادا إلى إحصائيات مكتب الصرف يمكن أن نقيس بشكل إجمالي هذا التوازن. فعلى مستوى الميزان التجاري، صدر المغرب 167 مليار درهم من السلع والبضائع خلال 2014، واستورد 341 مليار درهم من السلع والبضائع. فالمستوردون يتوفرون في البداية على مبالغ بالدرهم، وهم يحتاجون إلى بيع الدرهم مقابل العملة الصعبة التي يحتاجونها لتسديد مشترياتهم من الخارج، وبالتالي فالمستوردون يمثلون عرض الدرهم. أما المصدرون فهم يتوفرون على مبالغ بالعملة الصعبة التي حصلوا عليها مقابل صادراتهم، ويحتاجون لبيع هذه العملات مقابل الدرهم حتى يتمكنوا من أداء ما بذمتهم اتجاه العمال والضرائب والممونين داخل المغرب. وبالتالي فالمصدرين يمثلون الطلب على الدرهم. على هذا المستوى يتجلى بوضوح وجود اختلال كبير، إذ يمثل العرض (الواردات) أكثر من ضعف الطلب (الصادرات). ويبلغ العجز على هذا المستوى نحو 173 مليار درهم من العملة الصعبة. غير أن ميزان الأداءات لا يتكون فحسب من مبادلات السلع والبضائع، هناك أيضا الخدمات. وعلى هذا المستوى نلاحظ أن المغرب صدر خلال نفس السنة 133 مليار درهم من الخدمات، تتصدرها السياحة بنحو 59 مليار درهم متبوعة بخدمات النقل بنحو 26 مليار درهم، فخدمات الاتصالات والمعلومات بنحو 13 مليار درهم. وفي المقابل استورد المغرب خلال نفس السنة 74 مليار من الخدمات. فعلى هذا المستوى يمكن أن نلاحظ أن الطلب على العملة الصعبة لأداء واردات البلاد من الخدمات كان أقل بكثير من كمية العملات المتوفرة نتيجة الصادرات والتي يحتاج المصدرون إلى تحويلها إلى الدرهم. ويصل الفائض إلى نحو 59 مليار درهم، والتي ستخفف من العجز السابق الذي لاحظناه على مستوى الميزان التجاري. إلى جانب ذلك هناك أيضا تحويلات مغاربة العالم، والتي درت على البلاد زهاء 60 مليار درهم بالعملة الصعبة سنة 2014. وتنضاف هذه المبالغ للطلب على الدرهم مقابل العملات نظرا لكون هذه التحويلات موجهة للاستثمار داخل البلاد ولتمويل النفقات الاستهلاكية لأسر المهاجرين. والعنصر ما قبل الأخير الذي يجب أخذه بالاعتبار في ميزان الأداءات هو ميزان الاستثمارات الخارجية، وللإشارة فخلال سنة 2014 بلغت التدفقات الصافية للاستثمار الأجنبي إلى المغرب 57 مليار درهم في حين بلغت استثمارات المغاربة في الخارج 2.4 مليار درهم، أي أن عرض العملات هنا أكبر من الطلب عليها. العنصر الأخير الذي يجب أخذه بالحسبان هو العمليات المتعلقة بالدين الخارجي. فمن جهة هناك تدفقات القروض الخارجية الجديدة التي حصلت عليها البلاد، وهي بالعملة وتتطلب تحويلها إلى الدرهم. ومن جهة ثانية هناك الأقساط والفوائد التي يحين أجل تسديدها، والتي تفرض على الحكومة تحويلها من الدرهم مقابل العملات بهدف إخراجها من البلاد. وخلال سنة 2014 بلغت القروض الجديدة التي سحبتها الحكومة 52 مليار درهم، وبلغت خدمة الدين (تسديد الأصل والفوائد) 22 مليار درهم. في ظل كل هذه العناصر، ومع جمع الفوائض في جانب والعجوزات في الجانب يتضح أن هناك فائضا. كيف سيتطور سعر الدرهم في حال التعويم؟ بالنسبة لخبراء صندوق النقد الدولي فإن قيمة الدرهم حاليا تعتبر «متوازنة»، ويرون أنها تعكس الوضع الاقتصادي للبلاد وتركيبة تعاملاته الخارجية. غير أنهم لا ينكرون أن قيمة الدرهم ستتعرض لتخفيض بسيط في حال اعتماد سعر الصرف المرن. ورغم أن خبراء الصندوق لم ينشروا أي تقدير حول نسبة التخفيض المحتملة لقيمة الدرهم، إلا أنهم أشاروا في تقريرهم برسم مشاورات المادة الرابعة التي اجروها مع المغرب خلال سنة 2015 إلى أن الأبناك المغربية يمكن أن تصمد أمام تخفيض يصل إلى 30 في المائة من قيمة الدرهم نظرا لكون حصة الأسد من نشاطها تتم داخل حدود البلاد. ورغم أن ذلك لا يعني أن الدرهم سينخفض بنسبة 30 في المائة، إلا أنه يمكن اعتباره مؤشرا حول ما يمكن أن يحدث. خلاصة القول أن هناك ترقبا لاحتمال انخفاض قيمة الدرهم في حال الانتقال إلى سعر الصرف المرن ببضع نقاط مائوية. وما يعزز هذا التوقع أن العديد من المحللين يعتبرون أن قيمة الدرهم مرتفعة نسبيا بسبب سياسة مراقبة الصرف والحد من خروج رؤوس الأموال التي ينتهجها المغرب. فماذا يترتب عن هذا الترقب لاحتمال انخفاض قيمة الدرهم؟. مع اقتراب أجل الانتقال إلى سعر الصرف المرن سيتصرف الفاعلون الاقتصاديون وفق ما يمليه هذا الاحتمال. فمثلا مبرمجو الأسفار والشركات السياحية الأجنبية، التي تقوم بشراء الدرهم المغربي مقابل العملة الصعبة بمدة قبل تنظيم رحلاتها السياحية اتقاء لمخاطر الصرف، ستحجم عن القيام بعمليات الشراء في انتظار انخفاض قيمة الدرهم لتستفيد من التخفيض. وبالتالي سيتقلص الطلب على الدرهم خلال الفترة السابقة لإعلان الانتقال إلى السعر المرن، ما يؤدي إلى ارتفاع المعروض وبالتالي انخفاض القيمة. والسياح سيؤجلون سفرهم إلى المغرب في انتظار انخفاض العملة، فإذا كان الدولار اليوم بتسع دراهم وغدا بضعف ذلك فالسائح سينتظر الضعف. نفس الشيء بالنسبة للمستثمرين الأجانب. كما أن المستوردون سيسارعون إلى بيع الدرهم مقابل العملة الصعبة قبل أن يحدث الانخفاض. وسيتجه العديد من الفاعلين إلى تفضيل الاحتفاظ بالعملة الصعبة التي يمكن بيعها بدراهم أكثر بعد حدوث الانخفاض. وفي سياق ذلك ستزدهر السوق السوداء. وبالتالي فمن المحتمل الوقوع في سيناريو تكرار ما حدث في مصر أو على الأقل في وضع قريب منه، لأن المضاربة ستحول بضعة نقاط مائوية المرتقبة لانخفاض الدرهم إلى كرة ثلج .. غير أنه حسب ما يصدر من تصريحات عن والي بنك المغرب فإن موعد تحرير الدرهم لا يزال بعيدا. ففي آخر تصريحاته بمناسبة انعقاد المجلس الإداري للبنك في شهر دجنبر الحالي، أكد عبد اللطيف الجواهري أن خارطة الطريق للتحول إلى سعر الصرف المرن جاهزة، غير أنه أشار إلى أن التحول لن يبدأ قبل نهاية العام الحالي، مضيفا إلى أنه خلال مرحلة أولى لم يحدد مداها سيستمر المغرب في اعتماد مبدأ تحديد قيمة الدرهم على أساس سلة من العملات، مع التوسيع التدريجي خلال هذه الفترة لهامش التذبذب من أجل إتاحة هامش تحرك أكبر للسوق وللعرض والطلب. كما أشار إلى أن تركيبة سلة العملات لن تبقى جامدة، بل إنها ستتعرض للمراجعة دوريا لتساير التحولات. وبالتالي فإن بنك المغرب لا يبدو متعجلا عندما يتعلق الأمر بالتخلي عن صلاحياته الحالية في مجال سياسة الصرف، بل يدعو إلى التزام الحذر والإعداد الجيد قبل دخول مغامرة تعويم الدرهم.