بابتسامة عريضة وبدون ربطة عنق حطت طائرة وزير الشؤون الخارجية الروسي سيرغي لافروف الاثنين الماضي بمطار كوناكري المحطة الأولى في زيارته السادسة لإفريقيا خلال سنتين. وعندما حطت طائرته في مطار أحمد سيكوتوري لأول مرة سنة 2013، كان رئيس الدبلوماسية الروسية في زيارة لبلد لا هو بالحليف ولا هو بالمعادي. ومثل جمهورية الكونغووتشاد المحطتين المعلنتين في هذه الرحلة، تلتزم غينيا بموقف محايد إزاء الحرب في أوكرانيا وتقف بعيدا عن صراع النفوذ مع فرنسا في القارة السمراء. وإذا كانت مجريات التاريخ تصب في صالح روسيا ( الاتحاد السوفياتي كان أول دولة تعترف باستقلال غينيا، عندما قال أحمد سيكوتوري "لا" للجنرال دوغول و لمشروع المجموعة الفرنسية الذي يقترحه)، وساعدت اقتصاد غينيا عندما ساءت العلاقات مع باريس.. فإن العلاقة اليوم تنبني بالأساس على مصالح تنبني على مصالح منجمية.
فالبوكسيت المستخرج من مناجم البلاد يمثل 40 في المئة مما تتزود به شركة" روسال" الروسية العملاقة التي تحتل المرتبة الثانية عالميا في انتاج الالمنيوم بعد الصين. وللحفاظ على هذا المكسب تقود موسكو دبلوماسية ودية مع قادة البلاد المتعاقبين. وفي يناير 2019 شجع السفير الروسي السابق ألكسندر بريغازي – وهو اليوم على رأس "روسال/ غينيا"- شجع ألفا كوندي الرئيس وقتها على تعديل الدستور للظفر بولاية ثالثة.
هذا الأخير أطيح به في سبتمبر 2021 من طرف الجيش بزعامة العقيد ممادي دومبويا الذي يقود منذ توليه دبلوماسية متوازية تقضي بعدم ازعاج القوى خارج القارة ولا الجيران في منطقة الساحل. وبعد أن طمأن المستثمرين الروس بأنه لن يتراجع عن تعهدات سلفه، غابت السلطات الغينية الجديدة خلال التصويت على قرارات الأممالمتحدة التي تدين الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
بالموازاة يقيم ممادي دومبويا ، وهو ضابط سابق في اللفيف الأجنبي الفرنسي، علاقات جيدة مع باريس التي تساعده بالخصوص على تأمين حدوده من هجمات الجماعات الجهادية النشيطة في تراب الجارة مالي. وفي الوقت الذي جعل القادة الجدد في باماكو، كما نظراؤهم في بوركينا فاصو والنيجر بدعم من روسيا، جعلوا من رفض التواجد الفرنسي محورا لخطابهم الدبلوماسي، تبدي غينيا اعتدالا واضحا في خطابها. بالمقابل تتغاضى فرنسا عن قضايا حقوق الانسان والحريات الأساسية في الوقت الذي أقدمت سلطات كوناكري على إغلاق أهم الإذاعات وقنوات التلفزيون الخاصة في البلاد وتأجيل اجراء الانتخابات التي كانت مقررة قبل نهاية 2024 إلى أجل غبر مسمى.
نفس الامر بالنسبة للمحطة الثانية المعلنة لجولة السيد لافروف، فجمهورية الكونغو حليف قديم لفرنسا. وهنا أيضا التعاون مع موسكو يعود لنضالات الاستقلال بقيادة حزب العمل الكونغولي الذي ما يزال في السلطة، ولم يتخل عن الماركسية –ا للينينية إلا بعد انهيار التحاد السوفياتي. وكعلامة على هذه العلاقة الودية، سيلتقي لافروف بالرئيس دنيس ساسو نغيسو بمعقله في بلدة "أويو التي تبعد عن العاصمة برازفيل بحوالي 400 كلم شمالا، كما حصل خلال الزيارة الأولى في يوليوز 2022، والتي عبر خلالها لافروف عن اعجابه بالموقف "المتوازن" لمضيفه بخصوص النزاع في أوكرانيا.
ومن المتوقع أن تكون قضايا التعاون العسكري وأيضا ملفات تهم التعاون في مجالات التربية والطاقة حاضرة في محادثات المسؤول الروسي، وأيضا الازمة الليبية لا سيما وأن الرئيس ساسو نغيسو يرأس منذ 2014 اللجنة العليا للاتحاد الافريقي حول الازمة الليبية، وتلعب موسكو دورا رئيسيا فيها من خلال دعمها القوي للماريشال خليفة حفتر الرجل القوي في الشرق الليبي. هذا الموضوع وأيضا الحرب في السودان مواضيع ستكون بلا شك حاضرة خلال مباحثات المسؤول الروسي في تشاد المحطة الثالثة في هذه الجولة التي سيلتقي خلالها بالرئيس محمد إدريس ديبي المنتخب حديثا (ماي)على رأس جمهورية تشاد لمدة خمس سنوات أخرى عقب اقتراع مشكوك في شفافيته.
وقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل واسع تواجد ماكسيم شوغالي، وهو خبير روسي في حملات النفوذ السياسي ومقرب من مجموعة فاغنر، في نجامينا يوم الاقتراع الرئاسي رفقة الحركة المساندة للرئيس ديبي. بالمقابل لم يحضر اليكسندر فومين نائب وزير الدفاع الروسي حفل تنصيب الرئيس ديبي يوم 23 ماي الماضي كما أعان من قبل.
والملاحظ أن روسيا تتقدم بحذر في هذا البلد آخر معقل للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل المنطقة التي خرجت منها القوات الفرنسية في كل من مالي وبوركينا فاصو ثم النيجر. وهي الدول التي بدأت تقاربا سريعا ونشيطا مع روسيا. وباريس التي ما تزال تحتفظ بتواجد عسكري لحوالي ألف جندي فرنسي في تشاد، تابعت بانتباه خاص الاستقبال الذي حضي به محمد إدريس ديبي من طرف الرئيس الروسي في موسكو يناير الماضي.
سلطات نجامينا تعرف كيف تستفيد من موقعها الجيو-ستراتيجي في محيط من الأزمات ( ليبيا، السودان، جمهورية إفريقيا الوسطى، النيجر) ولا تتردد في التهديد بالتحول نحو روسيا للحصول على تنازلات من شركاءها الغربيين. فالعلاقة لم تعد حصرية ونجامينا نوعت شراكاتها الأمنية خاصة مع الإمارات العربية المتحدة وتركيا وحتى المجر.. لا سيما وأن الرئيس ديبي يعرف أن علاقته المتميزة مع باريس التي ورثها عن والده لم يعد لها نفس الزخم لدى جزء مهم من مواطني إفريقيا بشكل عام والمواطنين التشاديين بشكل خاص.
وروسيا تتابع الوضع باهتمام ولن تتردد في استغلال أي هفوة أو خطوة غير محسوبة من المنافسين. فخلال مراسيم تشييع ديبي الاب (أبريل 2021)، رأى المتتبعون في تواجد الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى جانب الابن ( الرئيس الحالي) إشارة تزكية لخلافة عائلية.. كما أن زيارة جان ماري بوكيل المبعوث الشخصي للرئيس ماكرون وإعلان" إعجابه" بالمسار الانتقالي في تشاد، بعد أيام قليلة على اغتيال المعارض يحيى ديلو جيرو على يد الجيش في هجوم على مقر حزبه، زاد من غموض العلاقة. وخلال حفل تنصيب الرئيس الجديد لوحظ أن باريس كانت أكثر حذرا ومثلها الوزير المنتدب المكلف بالتجارة الخارجية فرانك ريستر.. وهي إشارات متناقضة تثير امتعاضا واضحا في نجامينا.