هي أقرب من حرب دبلوماسية وتنافس مشتعل أخد من الطابع العسكري والاقتصادي الشق الوافر من حظوة راسمي وجه العالم اليوم، المتغير والمثقل بالهواجس السياسية والمكاسب الاقتصادية، إذ تحولت منطقة المغرب العربي وعموم القارة الإفريقية إلى مناطق تشعل فتيل الصراع الخفي بين القوى الكبرى من روسياوالصين من جهة، وفرنسا والولايات المتحدةالأمريكية وحلفائهما من جهة أخرى. وآخر فصول الصراع أو الحرب الدبلوماسية، ما يتعلق بالجولة الثانية التي أجراها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى القارة الإفريقية في أقل من شهر، الممهدة للقمة الإفريقية الروسية في المنتظر عقدها في يونيو المقبل، لكنها في الوقت نفسه تسعى لكسر الحصار الدبلوماسي الذي تحاول الدول الغربية تطويقها به، وكبح نفوذها بالقارة.
لافروف زار ماليوموريتانيا والسودان في فبراير الجاري، وفي الشهر الذي قبله قادته جولته الإفريقية الأولى في 2023، إلى جنوب إفريقيا وإسواتيني وأنغولا وإريتريا، كما كانت له زيارة إلى الجزائر في ماي الماضي، وإلى مصر والكونغو وأوغندا وإثيوبيا في يونيو الماضي.
إحدى تمظهرات الدخول الروسي القوي في منطقة المغرب العربي، هي اتفاقها على بناء قاعدة عسكرية في الجزائر، أو فرض نفسها كلاعب مهم في القضية الليبية، أو علاقتها الاقتصادية مع المغرب، والتي ترجمت في دخول شركة روسية على خط تمويل خط أنبوب الغاز المغربي النيجري.
تعتبر زيارة لافروف إلى موريتانيا تاريخية لأنها الأولى لوزير خارجية روسي إلى البلاد. فنواكشط التي تعاظمت مكانتها الاستراتيجية في المنطقة وفي مجموعة الساحل خمسة، وباعتبارها ملاحظ في ملف الصحراء المغربية. وتولي موسكو أهمية لموريتانيا على اعتبار السهم التصاعدي للدولة الموريتانية مع اكتشاف الغاز الطبيعي بكميات هامة، واستعدادها لتصبح دولة مصدرة للغاز لأول مرة في تاريخها. ناهيك عن موقعها الاستراتيجي على المحيط الأطلسي غير بعيد عن مناطق تابعة للنفوذ الإسباني، ووجودها كنقطة وصل بين منطقتي المغرب العربي وغرب إفريقيا. وعلى هذا الأساس من مصلحة روسيا كسب موريتانيا إلى صفها رغم علاقتها القوية بفرنسا وحلف الناتو، أو على الأقل عدم تهديد تواجدها العسكري في الساحل، عبر السماح بإنشاء قواعد عسكرية قرب حدودها مع مالي. وعلى عكس الصين، فإن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسياوموريتانيا محدودة جدا، وتكاد تقتصر على قوارب روسية لصيد السمك في سواحل موريتانيا الغنية. لذلك دعا لافروف خلال زيارته لنواكشوط للبحث عن مجالات أخرى لتطوير التعاون بين البلدين "سواء كان في البنية التحتية، أو إنتاج البضائع على الأراضي الموريتانية، أو استخراج الثروات الباطنية". ولمح إلى احتمال عقد لقاء بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والموريتاني محمد ولد الغزواني، على هامش انعقاد القمة الإفريقية الروسية الصيف المقبل بمدينة سان بطرسبرغ. لافروف، حاول لفت انتباه المسؤولين الموريتانيين إلى إمكانية حصول بلادهم على منتجات الطاقة والزراعية والحبوب، لكنه ربط ذلك برفع العقوبات الغربية عن صادرات بلاده خاصة بعد حرمانها من الاستفادة من نظام سويفت للتحويلات المالية، ومشاكل تأمين السفن التي تنقل صادرات الحبوب والديزل وغيرها.
وقال: "سنعمل باستمرار لتحفيز الأمانة العامة للأمم المتحدة لمنع العوائق غير الشرعية التي فرضها الغرب أمام مسارات اللوجستية والسلاسل المالية لإيصال المواد الغذائية إلى الأسواق العالمية".
لافروف يحمل ملفات من الكرملين إلى افريقيا
وحمل لافروف في جولته الأخيرة عدة إغراءات للدول الإفريقية، أولها دعمها عسكريا ولوجستيا في مواجهة التهديدات الإرهابية، خاصة في وسط وغرب القارة. والأمر الثاني متعلق بالأمن الغذائي، حيث تقدم موسكو نفسها كسلة غذاء إفريقيا، بالنظر إلى قدراتها التصديرية الكبيرة للحبوب وأيضا للأسمدة، لكن العقوبات الغربية تعيق تعاونها مع البلدان الإفريقية في هذا المجال. وتعرض روسيا أيضا على الدول الإفريقية التعاون في مجالات اقتصادية مختلفة بما فيها استخراج المعادن والثروات التي تختزنها أراضيهم، فضلا عن التعاون في مجال المنح الجامعية والتبادل الثقافي، باعتباره جزءا من القوة الناعمة لها في القارة. لكن موسكو لا تخفي رغبتها في طرد النفوذ الفرنسي المتداعي من وسط وغرب إفريقيا، مستغلة عداء شعوب المنطقة التاريخي لباريس بسبب ماضيها الاستعماري. ففي اجتماع حزبي بموسكو مطلع فبراير، اتهم لافروف فرنسا بالتصرف "بعصبية" مع تراجع "نفوذها الاستعماري الجديد"، ووعد بمواصلة "دعم الزملاء الأفارقة في مطالبهم العادلة" بالتخلص من النفوذ الفرنسي. روسيا تسعى لاستعادة دورها وسط وغرب القارة الإفريقية تحت شعار "مكافحة الاستعمار الجديد" في ظل تراجع نفوذ فرنسا في المنطقة لإخفاقها في مكافحة الإرهاب بالمنطقة، والتجربة الفرنسية لم تقدم لا تطورا ولا ازدهارا لشعوب القارة.
مالي.. نقطة ارتكاز في الساحل هذه المرة الأولى التي يزور فيها وزير خارجية روسي العاصمة باماكو، ما يعكس الأهمية التي أصبحت تكتسيها مالي بالنسبة لموسكو في سعيها لتوسيع نفوذها بمنطقتي الساحل وغرب إفريقيا على حساب فرنسا. ومن باماكو وعد لافروف بتقديم المساعدة لدول الساحل وغرب إفريقيا لمكافحة الإرهاب، وأيضا لمواجهة ما أسماه "النهج الاستعماري الجديد" لفرنسا والغرب. وقال: "سنقدم لهم مساعدتنا للتغلب على هذه الصعوبات. وهذا يشمل غينيا وبوركينا فاسو وتشاد وبصفة عامة منطقة الساحل، وحتى الدول المطلة على خليج غينيا". والدول المذكورة تقع معظمها ضمن مستعمرات سابقة لفرنسا، ما يعني أن روسيا ستصعد حربها غير المباشرة على باريس من خلال الاستجابة لطلبات الأفارقة بتزويدهم بأسلحة ثقيلة ومتطورة لمجابهة الجماعات المسلحة والمتمردة. وتعتبر مالي نموذجا لدول الساحل التي استفادت من طائرات هجومية وطائرات تدريب عسكرية ومروحيات ناهيك عن أسلحة وذخائر مختلفة، وتوفير مدربين ومستشارين عسكريين. بل وتتهم الدول الغربية باماكو بالاستعانة بمئات من عناصر شركة "فاغنر" الروسية لقتال الجماعات المسلحة وسط وشمال البلاد، ما سرع في انسحاب قوات برخان الفرنسية. وتتجه بوركينا فاسو لتكرار نفس سيناريو مالي، بعد طلبها من القوات الفرنسية الانسحاب من أراضيها في غضون شهر، أي قبل انتهاء فبراير الجاري. والملفت أن لافروف تحدث عن دعم تشاد في مواجهة الإرهاب و"النهج الاستعماري الجديد"، بينما يعتبر نظام محمد ديبي، الذي يقود نجامينا، من أكثر حلفاء باريس في المنطقة بعد النيجر، وعلاقته بموسكو متوترة منذ عهد ديبي الأب. بينما خرجت عدة مظاهرات في تشاد تندد بالتواجد الفرنسي في بلادهم وترفع الأعلام الروسية، في مشهد تكرر في أكثر من عاصمة إفريقية بالساحل وخاصة في مالي وبوركينا فاسو، قبل وبعد الانقلابات التي وقعت منذ 2020. هذا يؤشر على أن المنطقة ستواجه مزيدا من الحروب الصامتة بين روسياوفرنسا، وربما تكون تشاد الهدف المقبل في ظل أوضاعها المضطربة وسعيها للبحث عن حليف جديد مع تراجع النفوذ الفرنسي واقتراب روسيا من حدودها سواء من الشمال عبر ليبيا او من الجنوب عبر جمهورية إفريقيا الوسطى.