وفاة إبراهيم رئيسي (63 سنة) في حادث تحطم مروحيته يوم 19 ماي يفتح الباب لفترة غموض سياسي في إيران في ظل فترة حرجة يعيشها الشرق الأوسط مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وحديث متواتر عن خلافة المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامينئي البالغ من العمر 85 سنة. إبراهيم رئيسي توفي بعدما التقى صباح الاحد الماضي نظيره الاذربيجاني إلهام علييف بمناسبة تدشين سد على نهر أراكس على الحدود بين إيران وأذربيجان بعدما تحطمت المروحية التي كانت تقله والوفد المرافق له، وضمنهم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان.
مراسيم دفن الرئيس ومرافقيه بدأت الثلاثاء في مدينة تبريز وستنقل الجثامين بعد ذلك إلى طهران ثم إلى قم قبل دفن الرئيس في مدينة مشهد مسقط رأسه. وفي كلمة نعي أكد رئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني فيي المكانة التي اكتسبها رئيسي في الساحة السياسية الإيرانية على امتداد حياته… فقبل وصوله للرئاسة – وباستثناء فترة قصيرة – تقلد رئيسي عدة مناصب في الجهاز القضائي.. وأصبح خلال السنوات الأخيرة نقطة توافق لدى مختلف التيارات المحافظة في النظام.. أي أن الرئيس المتوفى وإن لم يكن بارزا بقدراته على الحكم في بلد يتخبط في أزمة اقتصادية خانقة ووضع اجتماعي متردي تترجمه احتجاجات الشارع وحتى صناديق الاقتراع، فإنه استطاع خلق شبه اجماع خلفه لكل تيارات السلطة في البلاد. ومع هذا الغياب المفاجئ تكون البلاد في مواجهة تحديين: البحث وانتخاب رئيس جديد في غضون 50 يوما كأجل منصوص عليه في الدستور، والتقدم على طريق تعيين خليفة للمرشد الأعلى والرجل القوي في النظام علي خامنئي بعدما كان اسم إبراهيم رئيسي يروج بقوة لهذا المنصب الحساس.. وتتحدث بعض الأوساط المنتقدة للمرشد الأعلى عن طموحات نجله لخلافة والده في المنصب.
ومن المنتظر أن تجري انتخابات رئاسية قبل 28 يونيو، وفي انتظار ذلك يضطلع بمهام الرئيس النائب الأول للرئيس محمد مخبر البالغ من العمر 68 سنة وهو رجل ظل لا يعرف عنه الكثير في دواليب السلطة في البلاد.
ومنذ انتخابه في يونيو 2021 في انتخابات رئاسية شهدت مقاطعة كبيرة من الناخبين، يوصف رئيسي بأنه كان أوفي رئيس للمرشد الأعلى علي خامنئي ينفذ توجيهاته وأوامره دون تردد… هذا الأخير وبعدما أنزعج من هزيمة مرشحه للرئاسة في انتخابات 2017 أمام حسن روحاني، عمل على عدم تكرار نفس السيناريو ومهد الطريق لإبراهيم رئيسي في انتخابات 2021 من خلال مجلس صيانة الدستور، وهو الهيئة التي تبث في الترشيحات للرئاسة ومن خلاله تم تنحية أي مرشح جدي يمكن أن يقف في طريقه.
مؤسسات الجمهورية الإيرانية التي يسيطر عليها رجال الدين ترتكز على مجلس صيانة الدستور وبالخصوص مجلس الخبراء (مكون من 88 عضوا) لتعيين خليفة المرشد الأعلى. هذا الأخير يعين مدى الحياة ويجمع بين يديه كل السلطات. وقد عمل علي خامنئي طيلة ثلاثة عقود على تنحية منافسيه الجديين الذين بإمكانهم التأثير على خلافته من خلال نفوده على قيادات الحرس الثوري ورجال الدين الاوفياء لتصوره وكان إبراهيم رئيسي من ضمنهم. وتمكن المرشد الأعلى في انتخابات 2021 من إحكام قبضته على دواليب القرار في البلاد وتحييد ما كانت تمثله مؤسسة رئاسة الجمهورية من سلطة مضادة نسبيا. فقبل انتخاب رئيسي كان علي خامنئي على خلاف واضح مع رؤساء الجمهورية الأربعة الذين تولوا في عهده: من الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني الذي توفي سنة 2017 في ظروف غامضة إلى الإصلاحي محمد خاتمي إلى المزاجي محمد أحمدي نجاد أو المعتدل حسن روحاني.
فالرئيس المتوفي لم يحاول التدخل شؤون الحرس الثوري أو ينتقد تدخلهم القوي في الشؤون الخارجية للدولة. وفي أفق انتخابات 28 يونيو يترقب المتتبعون بصمات المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في إقصاء أية شخصية مرشحة قد تعاكس توجهاته المتشددة والخط الذي رسمه للبلاد ولاسيما الثوابت التي خطها للسياسة الخارجية للبلاد من قبيل الدعم الإيراني لأذرعها الإقليمية أو مواصلة برنامجها النووي. ويبقى الأهم هو التحكم في صراع النفوذ بين أجنحة النظام والولاءات داخل الدوائر المحافظة والأخذ في الحسبان رغبات وطموحات قادة الحرس الثوري الذين ستكون لهم الكلمة الفصل في الأخير. وحسب المحللين فالصراعات بين الأجنحة هي في الحقيقة صراعات بين التيار الديني الذي يمثله علي خامنئي والتيار الأيديولوجي / العسكري في ظاهره لكنه في الحقيقة أقل راديكالية ويبحث على تقوية مصالحه الاقتصادية ويمثله بعض قادة الحرس الثوري وبعض المسؤولين السياسيين كرئيس البرلمان محمد باقر غاليباف…
ويستشف من تصريح رئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني فيي أن التيارين نجحا في الاتفاق سنة 2021 على اسم إبراهيم رئيسي وبدلا جهدا كبيرا في جعله على الصورة التي كان عليها فهو كان على رأس المؤسسة القوية والغنية المكلفة بتدبير مزار الإمام الشيعي الثامن سنة 2016، ورئيسا للجهاز القضائي سنة 2019 ، ثم المرشح الوحيد للرئاسة سنة 2021 بعد تنحية كل منافسيه حتى من كانوا قريبين من النظام. فهل ستنجح أجنحة النظام في العثور على شخصية مماثلة؟ ففي عهده تمكنت إيران من تقوية وتعميق علاقاتها مع الصين وروسيا وصعدت من مواجهتها مع الغرب وإسرائيل.. مجالان تميز فيهما رئيسي ووزير خارجيته عبد اللهيان. ووفاتهما لن تغير الكثير من سياسة إيران الخارجية أو تؤثر على القرارات الاستراتيجية للدولة التي تبقى من المجالات الخاصة للمرشد الأعلى أما ما يتعلق بالسياسة الإقليمية فتبقى القرارات النهائية بيد الحرس الثوري. وحسب مصادر إعلامية مطلعة فإن المفاوضات مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الدول الاوربية المتدخلة في مفاوضات البحث عن اتفاق يؤطر الأنشطة الايرانية لتخصيب اليورانيوم مقابل رفع العقوبات الدولية، التي يفترض عقدها في جنيف يوم 22ماي، قد تم تعليقها. وكان يقودها علي باقري قاني نائب وزير الخارجية المكلف بالشؤون السياسية وأبرز المفاوضين والذي أصبح يضطلع بمنصب وزير الشؤون الخارجية بالنيابة.
وكانت صحيفة وول ستريت جورنال الامريكية قد ذكرت أن مفاوضات مع الولاياتالمتحدة كانت قد جرت في سلطنة عمان منتصف ماي. وهو ما رأى فيه المراقبون مؤشرا على تململ في المفاوضات، غير أن أي اتفاق لن يكون ممكنا قبل معرفة نتائج الانتخابات الامريكية في نونبر المقبل وقبلها الرئيس الذي سيخلف إبراهيم رئيسي في إيران. وفي انتظار تشكيل حكومة جديدة، سيكون الإيرانيون مدعوين مجددا لصناديق الاقتراع. وكانت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في مارس الماضي قد تميزت بنسبة امتناع عن التصويت هي الأعلى في تاريخ الجمهورية الإيرانية ( 59 في المئة مقابل 51 في المئة في انتخابات الرئاسة لسنة 2021)، واذا ما استمر هذا المنحى فإن المشاركة في الاقتراع الرئاسي المقبل ستكون ضعيفة جدا.
فقد عاشت إيران منذ سبتمبر 2022 وعلى مدى أشهر على وقع احتجاجات في الشارع تحت شعار المرأة- الحرية- الحياة.. ورغم التآكل الواضح في شرعية النظام فإنه ما يزال يحظى بدعم ومساندة قاعدة مجتمعية محافظة تبقى مصالحها الاقتصادية رهينة باستمرار النظام، والتي يعمل المرشد الأعلى كل ما يمكن لإرضائها. وهو ما يفسر الحملة العنيفة والقاسية التي استهدفت في الأسابيع الأخيرة النساء غير المحجبات، والتي ذكرت بوفاة الشابة أميني في مخافر الشرطة و كانت وراء الاحتجاجات الأخيرة. والأكيد أن هذه القواعد المحافظة ستبقى معبأة وراء المرشح المفضل من المرشد الأعلى حتى تضمن فوزه بالرئاسة.