وأنا أقلب دفتر الذكريات، وأراجع صفحات سنوات مرت كان فيها الناس متحمسون، حالمون، منخرطون في النقاش العمومي، وملتحقون بالأحزاب السياسية، أو على الأقل متعاطفون، وأقارن تلك الأيام بأيام الله هاته، التي اعتزل فيها السياسة من اعتزل، وصام عن الكلام والرأي فيها من صام. وجدت وكأن الناس كرهوا السياسة والسياسيين والأحزاب.. كأنهم كرهوهم من أعماق قلوبهم.. فصاروا يشعرون تجاههم بنفور حاد.. كأنهم شيء له علاقة بالخسارة والخذلان وفقط…
لم تعد أخبار التنظيمات الحزبية وخرجات القادة الحزبيين تعني للناس كما كانت من ذي قبل.. لقد صارت أمرا لا يهمهم…
أصدقاء وصديقات كثُر، أصبح يتملكهم هذا المزاج.. كلما فتحت لهم حديثا عن شيء ما يشعرون فورا بالحماسة للانخراط فيه.. وإذا حدثتهم عن السياسة والأحزاب السياسية، تخور قواهم وتنطفئ حماستهم ويتذمرون.. فتشعر كما لو أنك شتمتهم.. وكأنك حدثتهم بحديث خارج التاريخ.. أو استغبيت عقولهم ثم كشفوك!
"حدثنا عن أي شيء.. ما عدا أمور الأحزاب والتحزب!".. تقول لي امرأة جميلة، "أُكتب لنا عن أي شيء لا علاقة له بالسياسة والسياسيين!"..
حتى أولئك الذين كانوا لا يتوقفون عن متابعة الشأن السياسي والإدلاء بآرائهم ومواقفهم بشأنها.. كثير منهم صمت.. تراجع.. ملّ.. وبات يبحث عن اهتمامات أخرى تملأ الفراغ النفسي الذي خلفه هذا المزاج العام "الخاسر" وجو اللاثقة عنده…
الكل أصبح يبدو للناس متشابها.. منسوخا.. سقطت أقنعة البعض.. وأقنعة آخرين ربما لم تسقط.. لكنها فقدت الكثير من بريقها وصارت ممسوخة.. أصبح الكلام غير الكلام.. وفقدت المواقف رونقها وصارت بلا معنى.. بينما الناس جائعون للمعنى.. للأمل.. للثقة…
لقد أصبحوا مصابين بلعنة الخواء.. تبدلت أفكارهم بعدما فقدوا الأمل في كل شيء.. بينما السياسيون يعودون القهقرى لنقطة البداية، ليعيدوا المساهمة في رسم ذات النهاية، بالأدوات ذاتها، التي أنتجت لنا هذا الواقع المؤسف.. بينما بعضهم مثله كمثل مطرب لديه أغنية واحدة مازال يغنيها في كل المهرجانات.. ولا أحد يقول له: "بدَّل الديسك.!".
لا أعتقد أن أحدا من شباب اليوم، من الذين يسكنون "التيك توك" ووسائط أخرى، يفكر في خوض غمار تجربة حزبية أو نقابية.. في حضور مهرجان خطابي لزعيم حزبي أو إثارة نقاش الانتقال الديمقراطي وتكريس خياره..
أتساءل عن عدد الشباب (ولما لا نقول المغاربة عموما!) الذين يعرفون أسماء الوزراء والوزيرات ورؤساء المؤسسات الدستورية والفرق البرلمانية وعدد الأحزاب، عدد مقاعدها، زعمائها، تاريخها وتاريخ مؤسسيها؟ سأغامر وأجيب نفسي بنفسي قائلا، إن العدد هزيل جدا ومخيف!
صحيح أن ما وصلنا إليه اليوم، تتحمل مسؤوليته الأحزاب السياسية ونخبتها، التي أخطأت موعدها مع التاريخ في محطات مفصلية سابقة، اختارت فيها الانتصار لحساباتها الضيقة على حساب الوطن والديمقراطية وآمال الناس، فضيعت على نفسها وعلى المغاربة قطع مسافة أخرى على طريق تكريس ديمقراطية حقيقية وحتمية.
لكن لا ينبغي إغفال أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة منطقية لنهج سياسة التغييب والإقصاء والتشويه التي تعرض ويتعرض لها المنتخبون ورجال السياسة. ففي الوقت الذي كان يجب العمل على تقوية مؤسسات الدولة، بما في ذلك تقوية دور الأحزاب في النهوض بالحياة السياسية، وتكريس الاختيار الديمقراطي عبر احترام إرادة المواطن المغربي في الانتخابات، فُتحت الأبواب والأبواق لتسفيه كل صوت يتغيّا تحقيق ما سبق، وأُشرعت أبواب أخرى أمام أصحاب "المال السهل" لدخول عالم السياسة وتدبير الشأن العام، بما يخدم مصلحة الطامعين في الهيمنة على اقتصاد البلد، والاستفادة من الوضع القائم على الريع والفساد السياسيين، من خلال تحويل المؤسسات المنتخبة إلى مؤسسات صورية لا حاجة إليها، وتصويرها في شكل ديكور مُؤثِّث للمشهد السياسي ليس إلا.
استمرار الحال على ما هو عليه، ينذر بالخطر، هذا ما علمنا إياه التاريخ، فما وراء الفراغ سوى الهاوية، وما وراء ضعف مؤسسات الوساطة وأخرى نص على إحداثها الدستور يفترض فيها الدفاع عن حقوق المغاربة بجميع فئاتهم، سوى الخراب.
يكفي النظر إلى ظاهرة التنسيقيات التي أخذت من النقابات التقليدية قوة التأثير وزمام المبادرة، وإلى الانسحاب الذاتي للنخب المثقفة من المشهد وإمساكها عن الخوض في شؤون الوطن والمواطنين، وإلى توالي المتابعات والأحكام الصادرة في حق منتخبين من أصحاب "الشكارة" بتهم فساد وإفساد، وإلى الملفات الحقوقية العالقة، لنتفق على ضرورة قرع ناقوس الخطر المحدق ببلد يصارع على جميع الأصعدة حفاظا على أمنه وحماية لسيادته ومراكمة لإنجازاته التي لا تخطئها العين.. بلد يتربص به متربصون في ظل تحولات دولية وإقليمية مخيفة ومتسارعة.