Getty Images النزوح المستمر جراء القتال في ود مدني حول المدينة إلى مدينة أشباح فرت خديجة مع أطفالها الخمسة من القتال العنيف الذي اندلع بين الجيش وقوات الدعم السريع، في مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، إلى ولاية سنار المجاورة بعد رحلة شاقة وقاسية. وقالت لي، عبر الهاتف، إنها خرجت من مركز الإيواء الذي كانت تقطن فيه بعربة تجرها الدواب حتى تمكنت من الوصول إلى محطة المواصلات العامة، "من هناك ركبنا سيارة للأمتعة بعد أن أعطيتُ السائق كل ما تبقى لنا من نقود، وكانت العربة ممتلئة بالناس بينما كنت محشورة أنا وأولادي في إحدى الزوايا". "كان الحال أهون لنا من صوت القنابل والرصاص بالقرب من مركز الإيواء". ومضت خديجة، التي توفي زوجها قبل الحرب بأشهر، تقول: "وصلنا إلى مدينة سنار بعد أكثر من ست ساعات من تحركنا من المحطة مع أن المسافة لا تتجاوز ساعتين في الظروف العادية، رأيت مئات من العائلات تفر من الحرب، معظمهم يسيرون على أقدامهم ويحملون أمتعتهم القليلة على رؤوسهم". على غرار مئات الآلاف من الأشخاص الذين فروا من القتال من مدينة ود مدني، والتي كانت ملجأ لنحو 86 ألف نازح، وصلت خديجة إلى مدينة سنار، لكنها تقول إن الأوضاع الجديدة أسوأ مما كانت عليه سابقا، وتضيف : "فضلت الاستقرار مع أسرتي في إحدى المدارس في أطراف المدينة، لا يوجد أي شيء يساعدنا على الحياة هنا، جلسنا على أرض قاحلة حيث لا يوجد ماء ولا طعام ولا أي شي، الوضع في مركز الإيواء السابق في مدني أفضل حالا، كان هناك أكل ورعاية صحية على الأقل". تعود قصة خديجة إلى سبعة أشهر مضت عندما نزحت من الخرطوم إلى مدينة ود مدني بعد شهر من اندلاع القتال بين القوتين المتحاربتين في العاصمة. وتقول بأسى شديد: "عندما بدأت الحرب في الخرطوم كنت فيها ونزحت إلى مدني، وعندما اشتعلت الحرب في مدني اضطررت للهرب إلى سنار، لا أدري أين ستكون وجهتنا المقبلة مع الأخبار التي تفيد باستمرار القتال، يبدو أنه قد كتب علينا النزوح!". Getty Images مواطنون من ود مدني بعضهم يحمل السلاح يشاركون في مسيرة تعبيراً عن دعمهم للجيش السوداني "مدينة أشباح" كثيرون خرجوا من ود مدني، التي يقدر عدد سكانها بنحو 700 ألف شخص، لكن هناك من قرر البقاء. ومن بين هؤلاء الأستاذ الجامعي عبد الحميد – ليس اسمه الحقيقي - الذي يقطن في حي الدباغة شمالي المدينة، والذي قال إنه لن يخرج من مدينته مهما حدث ولن يعيش كنازح، ويضيف: " أنا ترعرعت في مدني ولن أتركها بالرغم من أن الأوضاع في غاية الخطورة، عشنا لحظات الرعب عند دخول قوات الدعم السريع وإطلاق الرصاص والقنابل ". ويقول إن عناصر قوات الدعم السريع انتشرت في كل مكان تقريباً وأقاموا نقاط تفتيش في الشوارع الرئيسية وحول المقار الحكومية وبدأ بعضهم في نهب الممتلكات العامة والخاصة مثل السيارات والمصوغات الذهبية. "الدعم السريع سيطروا على مقرات الجيش والحكومة وسكنوا في بعض منازل المواطنين الذين فروا، اقتادوا بعضهم بعد أن ضربوهم إلى أماكن مجهولة بزعم انتماءهم لعناصر الرئيس عمر البشير". ويصف عبد الحميد الوضع في المدينة كالآتي: " معظم المحال التجارية في الأسواق مغلقة، المستشفيات والمرافق الصحية خارج الخدمة بعد مغادرة الكوادر الطبية، لا وجود للجيش أو الشرطة، هناك دمار شديد في المباني، فقط انتشار لعناصر الدعم السريع واللصوص، باختصار ود مدني أصبحت مدينة اشباح". بعد تدهور الأوضاع الأمنية في الخرطوم، انتقلت معظم وكالات الأمم العاملة في السودان للعمل في مدينة ود مدني ولكنها – بطبيعة الحال – قررت المغادرة أيضا بعد نشوب القتال فيها. وأوقف مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عملياته بمدينة ود مدني بشكل مؤقت بسبب الوضع الأمني الخطير، بحسب رئيسة قسم الاتصال بالمكتب، صوفي كارلسون. وقالت كارلسون لبي بي سي إن جميع العاملين بمكتب أوتشا، نقلوا إلى ولايات مجاورة لولاية الجزيرة حتى يستقر الوضع. وأضافت أن خدمات المنظمة تتركز الآن على "دعم النازحين من ود مدني لولايات في الجنوب كالقضارف وكسلا وسنار، حيث يتم توفير أدوات النظافة الشخصية والخيام، ولكن المساعدات ذاتها محدودة. ونزح أكثر من 300 ألف شخص من ود مدني منذ بدء القتال فيها منتصف الشهر الجاري بحسب الأممالمتحدة. وما تزال منظمة أطباء بلا حدود تواصل عملها من المدينة بطاقم صغير، إذ يقول مدير الاتصال بالمنظمة، إيهاب زنتاوي، لبي بي سي إن: "هناك تدفقا للجرحى والمصابين على مستشفى ود مدني التعليمي منذ يوم الجمعة الماضي، وهناك فريق تابع للمنظمة يقدم الدعم الجراحي والطبي لفريق العاملين بالمستشفى لاستيعاب الجرحى". وأضاف زنتاوي أن الاشتباكات العنيفة دفعت المنظمة لنقل عدد من طاقمها لمناطق آمنة نسبياً، بينما بقي فريق في المدينة للاستجابة للحالات الطبية الجديدة. "دفاع عن النفس" Getty Images الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في ود مدني دفعت السكان إلى النزوج عن المدينة وفي صبيحة يوم السبت الماضي، هاجمت - وعلى نحو مفاجئ - قوات الدعم السريع مدينة ود مدني من الناحية الشرقية بواسطة عدة عربات قتالية ذات التسليح الجيد. ووقعت اشتباكات مع قوات الجيش المتمركزة بالقرب من أحد الجسور الرئيسية والذي استخدم فيها الجيش الطيران الحربي والمسيرات. وبعد معارك استمرت يومين تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة علي الجسر والعبور إلى داخل الميناء بعد استيلائها على القاعدة العسكرية للجيش بالقرب من الجسر. رغم التحذيرات التي أطلقتها واشنطن والنداءات من قوى سياسية وجماعات حقوقية لقوات الدعم السريع من مغبة الهجوم على المدينة إلا أنها هاجمتها وتوغلت فيها وسيطرت عليها. وفي هذا الصدد، قال قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو، إن قواته سيطرت على مدينة ود مدني في خطوة استباقية ومحاولة للدفاع عن النفس. وأوضح في بيان أن تهديدات قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان، بتجهيز قوات من مدني للقضاء على الدعم السريع أسهم في تسريع الخطوة. ووصف الانتصار في معركة الجزيرة بالضربة القوية والموجعة لفلول نظام الرئيس المعزول عمر البشير علي حد تعبيره. وفي أول تعليق له على الأحداث في مدينة ود مدني أكد الجيش السوداني أن قيادة المنطقة العسكرية قد انسحب منها وأنه يجري الآن تحقيق في الأسباب والملابسات. وقال في بيان مقتضب إن نتائج التحقيق سترفع إلى جهات الاختصاص فور الانتهاء منها ومن ثم تمليك الحقائق للرأي العام. وكان البرهان قد زار المدينة قبل نحو أسبوعين والتقى بضباط وجنود ومسؤولين محليين، وتوعد خلال مخاطبته للجنود قوات الدعم السريع بالهزيمة بعد أن أكد أن هناك أكثر من أربعين ألف جندي وضابط على استعداد للقتال والتوجه نحو الخرطوم. كما طالب حميدتي السكان في مدينة ود مدني بالعودة إلى مناطقهم بعد أن تعهد بتوفير الأمن. وقال إن قواته شكلت قوة لمحاربة ما وصفتها بالمظاهر السلبية والتعامل مع كل من يهدد حياة الناس، مشيرا إلى أنها ستعمل على إعادة فتح الأسواق والمؤسسات العامة والمستشفيات. ودعت لجان المقاومة والشباب إلى تشكيل لجان مدنية لإدارة الولاية. "موقع استراتيجي" وتعد ولاية الجزيرة من المناطق الاستراتيجية في السودان، إذ تقع في مشروع الجزيرة الذي يعد أكبر مشروع ري زراعي في أفريقيا. كما تقع جغرافيا، جنوبالخرطوم مباشرة وتحدها من الغرب ولاية النيل الأبيض التي تجاور ولايات كردفان الكبرى، ومن الجنوب ولاية سنار ومن الشرق ولاية القضارف في شرق البلاد. وتصنف مدينة ود مدني ثاني أكبر مدن البلاد بعد الخرطوم من حيث التعداد السكاني والنشاط التجاري والاقتصادي كما انتقلت إليها العديد من المؤسسات الاقتصادية والتجارية بعد اندلاع القتال. ويقول الخبير العسكري العميد المتقاعد عبد الله محمد أحمد، أن "سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني من شأنها أن تمنح القوات الفرصة للسيطرة على المناطق المجاورة مثل ولايتي سنار والنيل الأبيض وحتى ولاية القضارف ". وسيطرت قوات الدعم السريع على معظم المناطق في الخرطوم والآن مناطق واسعة في الجزيرة يمكنها من التحرك بحرية والوصول إلى ولايات مجاورة مثل سنار والنيل الأبيض". وتابع الخبير العسكري أن "المواقع العسكرية التي سيطرت عليها والذخائر التي استولت عليها قوات الدعم السريع ستكون بمثابة مناطق للتجنيد والتدريب ومن ثم الانطلاق إلى وجهات جديدة". وإزاء التطورات الميدانية الجديدة، سارعت عدة حكومات محلية مثل القضارف إلى إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول ومنع استخدام الدراجات البخارية، في خطوة تبدو احترازية من هجوم محتمل من قوات الدعم السريع. وتزداد مخاوف كثيرين من انتقال رقعة القتال إلى بقية المناطق الآمنة في البلاد في ظل عدم وجود أي بوادر للحل السلمي ومع رغبة قوات الدعم السريع في تحقيق انتصارات أخرى بعد تمكنها من السيطرة على ود مدني وقبلها معظم المناطق في الخرطوم وإقليم دارفور.