يوم بيوم عزاؤنا واحد نور الدين مفتاح نشر في 21 سبتمبر 2023 الساعة 11 و 03 دقيقة إن بترول المغرب وثروته توجد في هذه الآبار العميقة في الوجدان من الإيمان بالوطن والتلاحم بين المغاربة، وهذا هو مستقبل مملكة يستحق شعبها نُخبا أفضل، ومسؤولين جماعيين وجهويين وحكوميين أنزه وأكفأ. المغاربة شعب جبّار، ومعذرة على هذه الشوڤينية الموضوعية، وهم يستحقون أحسن – كما قال الشعار الانتخابي لحزب أخنوش في الاستحقاقات الأخيرة – ولكن، يستحقون أحسن ممن دبج هذا الشعار للاستهلاك المناسباتي، يستحقون الصدق والمعقول كما جاء في آخر خطاب ملكي. ولو كانت هذه الجدية هي العملة الرائجة لسنوات لما نقلتنا كاميرات العالم كدواوير معزولة شبه بدائية في أحواز مراكش، المدينة المغربية الوحيدة التي تلبس قلادة المدينة «العالميّة». نور الدين مفتاح [email protected]
قبيل منتصف الليل بقليل، تحركت الأرض تحت الأقدام، وترنحت الأسِرَّة، ومالت الجدران، واهتزت الأفئدة، وشخصت الأبصار، ورأيت الناس يفرون من قدر الله إلى قدر الله كما قال الفاروق.
عدنا بعد تلك الثواني الإحدى عشرة إلى حجمنا وتواضعنا وفطرتنا، وتركنا في البيوت كل ما نملك بحثا عن النجاة، فالعمر كله نصرفه على سقف يحمينا، وفي تلك اللحظات الرهيبة كنا نقاتل من أجل أن نتخلص من سقف قد يقتلنا.
عرفنا بعد لحظات أن زلزالا ضرب المملكة، عرفنا قيمة الحياة وسموها على كل ما عداها من الترهات التي نقضي أيامنا في حياكتها، صحا الضمير، وبدأ السؤال عن الأحباب، وتقارب المتباعد، وما هي إلا لحظات حتى صارت الأسرة هي الحي بأكمله، وصار الحي هو المدينة، وصارت المدينة هي البلد. ومع الرعب الطبيعي في هذا الامتحان، بدأت تصل أخبار الفاجعة إلى أن وصلنا إلى بؤرة الهزة الأرضية في قلب إقليمالحوز، حيث تحركت الجبال، ودكت الدواوير، وبدأنا نحصي قتلانا وجرحانا، ونذرف الدموع، ونشم روائح الجنازات، ونكتب يوميات فاجعة القرن في المملكة الجريحة.
الناس الذين كانوا يحملون رعبهم في أغطيتهم إلى شوارع البيضاء والرباط وغيرهما، اكتشفوا بعدها أنهم محظوظون وهم في العراء، وقبل أن ينبلج صبح تلك الليلة البيضاء، عرفنا أن المصاب كان جللا. لقد محيت دواوير بأكملها في أقاليم الحوز وتارودانت وشيشاوة وورززات، وقضت تحت الأنقاض أسر برمتها. هناك ناجون بأعجوبة فقدوا أكثر من 10 أفراد من أسرة واحدة، وهناك عويل رددت أصداءه هذه الجبال، لتصبح منطقة تكاد مساحتها تضاعف مساحة بلد أوربي بمثابة مقبرة جماعية للأمهات والآباء والأطفال والأحلام الصغيرة، ولشموخ البسطاء وكبرياء الفقراء وآلاف الصابرات والصابرين الذين يتولاهم اليوم رب العالمين تحت أجنحة رحمته الواسعة، فاللهم اغفر لهم واجعل مثواهم الجنة وألهم من تبقى من ذويهم صبرا يكاد ينفد، وألهمنا في هذه المملكة السلوان فكلنا مكلومون ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله.
تقاطرت الصور والشهادات والفيديوهات ونداءات الاستغاثة من بؤرة الزلزال في إيغيل وأداسيل وإجوكاك وثلاث نيعقوب وويرغان وأسني وأمزميز ومولاي إبراهيم ودار الجامع وأنوكال وأزكور وأمغراس وتيزي نتاست وتافنكولت وتيبوكي وتالكجونت وسيدي واعزيز وأوناين والمزوضية وأيت حدويوسف وإمي ندونيت وأروهالن وغيرها من الدواوير التي عاشت يوم قيامة بكل معنى الكلمة. وبقدر ما هب الناس من مختلف أرجاء المملكة عفويا وتلقائيا لنجدة المنكوبين في الحوز وشيشاوة وتارودانت وورززات، بقدر ما كان القلب ينزف وهو يراقب تأخر التحركات الحكومية، وغياب ردة الفعل في الساعات الأولى الحرجة، التي لا تترك للمكلومين عبر تراب المملكة أي مجال لتقدير دواعي الصمت الرهيب لحكومتهم أمام هذه الجنازة الخرافية التي تخيم على المملكة.
وحتى وإن كان هذا وقت الحق في الحزن ولملمة الجراح والمساهمة بما يخفف بدل المساءلة، فإن ما قامت به الحكومة كان وصمة عار على جبينها، بحيث لم يصل أي مسؤول حكومي إلى أي من المناطق المتضررة، ولم يُعزّ رئيس الحكومة في الضحايا إلا بعد أن قدم التعزية لنا نصف زعماء الكرة الأرضية، ولم يخرج الناطق الرسمي للحكومة ليتحدث إلا بعد يومين كاملين على كارثة لم يعرف مثلها المغرب منذ قرن. هذه كانت فاجعة أخرى وقد استمرت لأنه عندما تكلم هؤلاء الذين أصابهم الخرس، وددنا لو ظلوا صامتين، فكلماتهم كانت أبرد من جثامين ضحايا هذا الوطن الجريح، ولك الله يا بلدي.
في هذا الخضم، كانت القوات المسلحة الملكية والوقاية المدنية والسلطات العمومية تسابق الزمن وتحديات الطبيعة لإغاثة الناس، بعد اجتماع عاجل عقد برئاسة جلالة الملك. وفهمنا بعدها أن هؤلاء المواطنين كانوا منكوبين قبل الزلزال، معزولين قبل أن تتساقط الصخور وتغلق الطرق. وتبين أن هناك صعوبات كثيرة للوصول إلى كل الدواوير لإنقاذ من لا يزال حيا تحت الأنقاض، ولإسعاف الجرحى ولدفن الموتى ولتزويد الأحياء العالقين بالخيام والمؤونة. وبعد حين تحركت العجلة وبدأنا نحصي خسائرنا التي ستتطلب سنوات لتعويضها وجبر ضرر الطبيعة القاسي.
لقد كتب صحافي إيطالي يدعى بيرزيني عن مغرب 1906، وقال جملة مفزعة ظلت تستفزني، وكنت أتصيد الفرصة للرد عليها، حيث قال: «إن المغاربة ليسوا خطيرين إلا على بني جلدتهم»! وبالأمس مع ملحمة الطفل ريّان من دوار إغران في جماعة تمروت بشفشاون، وأول أمس مع جائحة كورونا واليوم مع زلزال الحوز، يمكن أن نقول بكل افتخار: «إن المغاربة ليسوا خطيرين مع بني جلدتهم في الامتحانات الكبرى إلا في التضامن والإيثار».
لقد أعطى المغاربة قاطبة برهانا متجددا على معدن لامع في حشاشة القلب، إذ تدفق الحب من فؤاد ذهبي وغصت مراكز تحاقن الدم بالمتبرعين عفويا، وانطلق التضامن العيني والمادي كالسهم قبل حتى أن تعلن الحكومة عن فتح الحساب 126 لجمع التبرعات، وتبين أن ما يبدو من انتكاسة قيمية، وما يظهر على أنه أصبح طابعا اجتماعيا من لامبالاة وأنانية واحتفاء بالتفاهة عند المغاربة لن يعدو أن يكون إلا سحابة عابرة.
إن بترول المغرب وثروته توجد في هذه الآبار العميقة في الوجدان من الإيمان بالوطن والتلاحم بين المغاربة، وهذا هو مستقبل مملكة يستحق شعبها نُخبا أفضل، ومسؤولين جماعيين وجهويين وحكوميين أنزه وأكفأ. المغاربة شعب جبّار، ومعذرة على هذه الشوڤينية الموضوعية، وهم يستحقون أحسن – كما قال الشعار الانتخابي لحزب أخنوش في الاستحقاقات الأخيرة – ولكن، يستحقون أحسن ممن دبج هذا الشعار للاستهلاك المناسباتي، يستحقون الصدق والمعقول كما جاء في آخر خطاب ملكي. ولو كانت هذه الجدية هي العملة الرائجة لسنوات لما نقلتنا كاميرات العالم كدواوير معزولة شبه بدائية في أحواز مراكش، المدينة المغربية الوحيدة التي تلبس قلادة المدينة «العالميّة».
الفاجعة كبرى، وحرارة التضامن أكبر، ودروس «تمغربيت» تثلج الصدر، فتحية للمغاربة الأبرار، وتحية لفرق الشجعان للإنقاذ من كل القوات، وعزاؤنا واحد في كل هذا الفقد الجلل، فكل اسم يذكر في كل مدشر قضى هو أخ فقدناه وليس رقما فقط في خانة القتلى أو الجرحى، واللهم إنا لا نسألك رد القدر ولكن نسألك اللطف فيه.