بعد أن كان سعيد (إسم مستعار) يعيش حياة هادئة كباقي أصدقائه، بين أحضان أسرته المكونة من أم تعمل ربة بيت وأب مياوم، وأخوين يبلغان من العمر ثلاثين وعشر سنوات على التوالي، تغيرت حياته مؤخرا بعد أن عرفته أزقة الدارالبيضاء على رفقاء قضوه إلى المحظور.
سعيد شاب وسيم بلغ سن الرشد قبل عامين، يقطن بمنطقة "الحي المحمدي" أحد أشهر الأحياء بالعاصمة الاقتصادية للمغرب، التي ترعرع بين زققها التي تبدو وكأنها مرسومة بريشة فنان، قبل أن يدفن أحلامه في براثن الإدمان.
"إذا لم تكن حذرا بشكل المطلوب ستقع في المحظور" هذه العبارة التي برزت حديثه مع"الايام 24″، وقسمات وجهه تعبر عن الإنكسار والندم ممزوجة بالألم والحسرة، مكملا حديثه " أن البطالة تلعب دورا مهما في تعاطي المخدرات وخاصة "البوفا" لأن جلسة المقهى او المنزل تأثر سلبا على نفسيتي".
لم يخطر على بال سعيد يوما، أنه سينزلق في منعرج التخذير، ويصبح ضحية المجتمع، بعد أن كمشه شبح "البوفا" وجعله يسارع وحده في صمت، هذا المخذر الذي يعد زرع فاسد أنبت جدوره بالولايات المتحدةالأمريكية الذين يسمونه ب"الكراك"، بعدما بات ينخر جسم الشباب ويدمر مستقبلهم، كحال أيمن (اسم مستعار) الشاب ذو القامة الطويلة (24 سنة) أزرق العينين الملقب ب"الروبيو"، ابن مدينة الدارالبيضاء "أنفا" سابقا، يقطن ب"حي أناسي" الذي سبح في بحر الانحراف والتعاطي، حتى وجد نفسه يغرق دون منقذ، أمه الحنونة حسب قوله لبت نداء ربها منذ سنتين ليبقى وحده مع أبيه مقطوع الحبل، وجسر الحنان والأمومة انكسر مع المرحومة "خديجة".
لم يكن أيمن كباقي رفقائه الذي وصفهم ب"المتكاسلين"، كان يتقن هذا الأخير فن الكتابة والقراءة أيضا، كما أن رياضته المفضلة "كرة السلة" مخالف فيها عن زملائه، لكن عقارب ساعته رقصت عكس تيار ماضيه، وكبحت "البوفا" جماحه واسقطته في المحجور.
بداية الانحراف انقلبت حياة سعيد (20 سنة) ذو نزوات رأسا على عقب، بعدما صفعته المؤسسة التعليمية بقرار الطرد الذي وصفه حسب قوله ب"الإعدام" بسبب كثرة الانذارات التي عمرت ملفه المدرسي، رغم أن الشاب كان يجيد في ذلك الوقت التمييز بين الصالح والطالح.
بعد أن أخذ الفاشلون قدوة له، أصبحت جدران الأزقة تعرف خبياه بكثرة توسده لأعمدة البنايات، لم يعد يفكر سعيد الذي غابت عنه شمس السعادة، بعدما كان يعيش ماضي زاهر وأصبح يواجه مستقبل مجهول.
تغييرات جذرية طرأت على حياته وقساوة الوضع جعلته يضع نصب أعينيه الانتقال من الواقع إلى عالم الخيال الذي وصفه ب"التبويقة".
كانت بداية الشاب في ميدان التخذير، بالمواد التي يستهلكها أغلب الشباب، وفتحت السجائر باب الحياة الجديدة التي لم يضعها يوما في الحسبان، كانت السجارة وحدها تذهب عقله ويحس بنشوتها، مع مرور الأيام لم تعد كافية لتغطية حاجياته، لينتقل إلى رحلة البحث عن عقله أين ما كان، ليجد قدمه وسط زمرة المخدرات التي توجد بحد التخمة.
جحيم "البوفا" لم يكفي سماع قصة سعيد من خلال سرده لتفاصيل جدية وعميقة في عالم الادمان، التي كانت مشوقة رغم أنها مؤلمة في الوقت ذاته، حيث انتابني الفضول وأخذت في رحلة البحث معه على الكيفية التي يدبر بها يومه مع عشيقته التي بات مكره في عشقها.
لم يخطر على بال أحد أن جنون الإدمان جعله يقطع حوالي 25 كيلومترا يوميا "لاقتناء مزاجه وميزان عقله" حسب قوله، الطريق إلى منطقة "الدروة" التي تحتضن شتى المخدرات بداية ب"القرقوبي" والاكسطازي" ومرورا ب"الحشيش" و"الكيف" ووصولا الى "البوفا" او "كوكايين الفقراء" لم يكن سهلا نظرا لصعوبة المسلك، طريق محفرة وأشغال هنا وهناك، والشرطة منتشرة في كل مكان، بالإضافة إلى حواجز أمنية التي يشتد بالخوف عند رؤيتها، ويصبح مرتجفا عندما يقترب إليها، وجهه المصفر يبدو شاحبا كالوديان المقفرة، وملامحه قد تخطف الأنظار وتفضح المستور.
عندما تنظر إلى الطريق كيف مؤمن تتوقع على أن الأمور ستكون أكثر إهتمام في المكان المخصص لترويج "البوفا" ومحاربة تجارها، بل عند وصول إلى المنطقة "الخطيرة" يوحي لك المكان كأنه موطن للمخدرات، الجميع يتاجرون نهارا وجهارا، مكشوفين الوجه، لا يعرفون معنى الخوف، شبه غياب للأمن يطرح أكثر من علامة استفهام، نظرا أن المكان يعج بالمجرمين وتحس وكأنك بحي "مورو دو ديندي" البرازيلي.
والعجيب في الأمر بعد أن اقتربنا عند بائع "البوفا" الذي يستولي على مكان محاط بشبابيك حديدية، في منتهى الطغيان والقوة، ومعه أكثر من عشرة أشخاص مدجاجين بالأسلحة البيضاء ورشاشات "كريموجين" وكلاب متوحشة، يؤمنون المنطقة خوفا من أي هجوم أو مداهمة أمنية، ويؤطرون المدمنين بطريقة أقل ما يقال عنها قمعية وترهيبية باستخدام أساليب الارتياب المتجلية في الضرب والعنف.
هذا البائع أو "الباترون" كما يسمونه في ميدان المخدرات، ذو البنية الجسمانية القوية ينتمي إلى عائلة معروفة في "الدروة"، تنشط في مجال بيع المخدرات دون ذكر اسمها تحفظا على أي خطر، فهو لا يبدل أي مجهود سوى مراقبة الاشخاص الذين يتاجرون في سلعته وضبط زمام الأمور، وتلقي الأموال حيث يوجد في جانبه الأيمن كيسا بلاستيكيا يضع فيه الأوراق المالية، وفي جانبه الايسر يوجد دلو معدني يضع فيه النقود المعدنية، كنت أعتقد في الأول أنه تاجر في البوفا فقط، بل اتضح الأمر في الأخير أنه مروج لجميع المخدرات دون استثناء يذكر.
مقايضة عصرية لم تقتصر المعاملات المالية بين المدمن و"الباترون" فقط على الأموال، بل أصبحت هناك مقايضة عصرية ابتكرها الأطراف، لكي يتم تسهيل ترويج السلعة من جهة، وجلب المتعاطين من جهة أخرى.
وفي رحلة البحث مع سعيد بمنطقة الدورة، تصادفت "الأيام 24" مع أحد مستعملي هذا النوع العصري الحديث في التعامل، أيوب (22 سنة) يقول "ساعتي اليدوية تم تصريفها عند بائع "البوفا"، رغم أن ثمنها الذي يساوي (1200 درهما) يضاعف ثمن المخدر لكن لا خيار لي سوى دفعها مقابل تحسين مزاجي".
ويضيف أيوب "هناك معاملات أخرى تختلف باختلاف البائع، هناك من يقبل استلام الذهب، لكن إذا كنت من الزبناء الأوفياء قد تكون هذه المعاملة في إطار الرهن، حتى تتم تسوية ظروفك المادية".
هذا النوع من المعاملات يسهل نوعا ما تعاطي هذا المخدر، لأن أصعب حلقة في هذه السلسلة هي طريقة جني الاموال، لكن مع المقايضة العصرية، أصبحت الأمور ميسرة رغم تعقيدها.
بيكربونات والأمونياك وفي حديث "الأيام 24″ مع الشاب أيمن الملقب ب"الروبيو" كشف هذا الأخير عدة أمور تخص هذه الآفة الخطيرة، لا يعرفها إلى الغارقون في متاهتها، الذين يركضون في اتجاه المعاكس للمستقبل، يعيشون في مدينة ليلها ليس كنهارها، ليالي عتمة تمر كسرعة البرق، تتناغم مع الواقع من جهة، وتناقض العقيدة من جهة أخرى.
هذا المخذر العجيب حديث الظهور يتم استحضاره بحضور عديد من المعدات، ومن المواد الرسمية الضرورية تواجد بيكربونات أو الأمونياك في رقعة العملية، رفقة قنينة صغيرة فارغة معها غشاء بلاستيكي لقلم الحبر، وقطعة صغيرة من ورق الألومنيوم.
يتم وضع الكمية المطلوبة من الكوكايين فوق الملعقة مع السائل الكيميائي ووضعها فوق نار هادئة حتى تتفاعل المادتين لتصبح صلبة شبيهة بحجرة صغيرة والتي تسمى عند المتعاطين ب"الكريستال"، وبعدها يتم تثبيت ورقة الألومنيوم على فم القنينة ووضع ثقب صغير وسطها لادخال الغشاء البلاستيكي، هذه القنينة التي تشبه ال"نرجيلة" تباع ب10 دراهم في منطقة الدروة وبرشيد.
في المشهد الأخير من التحضير، توضع حجرة الكريستال فوق الألمنيوم مع قليل من التبغ المحروق العادم من السجارة ليتم استعمالها عن طريق الفم.