بعد انتخابه أخيرا رئيسا للحركة، وجدنا شحا في المعلومات حول أوس الرمال، فهو من الوجوه القيادية البعيدة عن الأضواء. ولهذا جاء هذا الحوار الحصري مع الرجل الذي رسم بنفسه بورتريها عن نفسه، ليتبين أنه مختلف عن قيادات إسلامية عديدة. فهو رجل من أسرة فاسية عريقة وميسورة الحال، كان مولعا بالموسيقى وعازفا بارعا على آلة القيثارة ومازال حتى الآن عاشقا للدراجة النارية من الحجم الكبير، رغم انتقاد ابن كيران وإخوانه له. فيما يعرف بطبعه الحاد وشخصيته القوية، ونزوعه إلى المحافظة، والتي تظهر بشكل واضح من موقفه من الشراكة الاستراتيجية مع العدالة والتنمية.
انتخبت قبل أيام رئيسا رابعا لحركة التوحيد والإصلاح. لم يكن انتخابك مفاجأة داخل الحركة، لكنك تبقى من قيادات الإسلاميين البارزين الذين لا يفضلون أضواء الإعلام، فمن يكون أوس رمال؟
مرحبا ب«الأيام» وطاقمها. أنا من مواليد فاس يوم 29 غشت 1958 (13 صفر 1378)، تحديدا بحي «الشهداء» الفاصل بين المدينة القديمة و»سيدي بوجيدة»، التحقت كأقراني في بداية مساري الدراسي ب»المسيد» قبل أن يُسَجلني والدي في مدرسة وطنية اسمها « مدرسة علال بن عبد الله» سنة 1962 والمتواجدة بالمدينة القديمة، حيث كانت له – كغيره من أبناء جيله – حساسية مفرطة تجاه المدرسة العصرية. وبعد نيلي الشهادة الابتدائية التحقت بثانوية «مولاي رشيد» التي حصلت فيها على شهادة البكالوريا، ثم غادرت إلى مراكش لمتابعة الدراسة الجامعية بكلية العلوم التي فتحت أبوابها تلك السنة، ونِلت منها شهادة الدراسة الجامعية العامة، قبل أن أضطر للعودة إلى فاس للتسجيل في المدرسة العليا للأساتذة، والتي تخرجت منها أستاذا لمادة «العلوم الطبيعية» (علوم الحياة والأرض كما تسمى اليوم) في التعليم الثانوي، وكان تعييني الأول في الناظور. قضيت بهذه المدينة مدة 13 سنة، وجرى خلالها تعييني مرشدا تربويا للمادة، واستمر الحال على ذلك حتى سنة 1995، عندما اجتزت مباراة التفتيش المباشر للظفر بمنصب وحيد فتحته وزارة التربية الوطنية على الصعيد الوطني، وتبارى عليه عشرات الأساتذة، لكن حالفني النجاح ولله الحمد. لم أكن أرغب في مغادرة الناظور، لذلك حرصت على وضعها كاختيار أول ضمن ال64 نيابة التي كنت مطالبا بترتيبها بعد نجاحي في امتحان التفتيش، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن وعُينت في نيابة تازة، وبعد سنة دراسية واحدة انتقلت إلى نيابة تاونات، والتي بقيت أعمل بها إلى أن تقاعدت قبل ثلاث سنوات، علما أنني ترقيت لاحقا إلى مفتش ممتاز، وعاصرت كل مسارات التعليم المغربي، ويبقى أكثر ما أحمد الله عليه أني أُحلت على التقاعد مع بداية فرض مسار «فَرْنسَة التعليم».
فضلا عن مسارك كأستاذ ومفتش لمادة العلوم الطبيعية، اخترت بدء مسار علمي آخر في شعبة الدراسات الإسلامية، توجته بنيل شهادة الدكتوراه، لماذا هذا الاختيار؟ وهل له علاقة بنزوح الإسلاميين إلى دراسة العلوم الشرعية؟
لا، لم يكن هذا هو السبب، بل الظروف التي ترعرعت فيها، فوالدَاي كانا حَامِلَين لكتاب الله، وكان منزلنا يتحول في رمضان إلى مسجد يستقطب خيرة القراء بمدينة فاس، وساهم ذلك في أن جعلني متعطشا لدراسة العلوم الشرعية. ولأنني اخترت في البداية مسار العلوم الطبيعية التي كنت أعشقها، فقد حرصت بعد استقراري المهني والأسري على تحقيق حلم التسجيل في الدراسات الإسلامية. ولحسن حظي أن شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس لم تكن تشترط للتسجيل بها في تلك الفترة البكالوريا الجديدة، فتابعت الدراسة بانضباط كبير رغم انشغالاتي وتنقلاتي المهنية إلى أن حصلت على شهادة الإجازة سنة 1999. ثم تابعت دراسة السلك الثالث بالرباط، بعدما تعذر تسجيلي في كليتي الآداب بفاس (ظهر المهراز، وسايس)، خاصة أنني كنت في تلك الفترة مسؤول الجهة بالحركة.
هل تشعر أنك كنت ممنوعا من استكمال دراستك العليا بفاس لرئاستك الحركة بالجهة؟
نعم، كانت مجموعة من القرائن تكشف ذلك، لذلك تحولت وجهتي إلى الرباط بعدما بلغني خبر فتح وحدة جديدة للسلك الثالث، وبعد تقديمي لملفي العلمي تم ترتيبي على رأس اللائحة، لأستدعى للمقابلة الشفوية أمام لجنة ترأسها الأستاذ «فاروق حمادة» وكان ضمن أعضائها الأساتذة «أحمد أبو زيد» و»أحمد الريسوني» وآخرون. دامت المقابلة أكثر بكثير من الوقت الذي استغرقته مع باقي المترشحين، وفي الأخير خاطبني الأستاذ حمادة قائلا: «عليك أن تفهم، نخشى ألا تلتزم، وتُضَيع لنا مقعدا، فأنت مفتش ممتاز ومصنف خارج السلم ولا تحتاج ترقية». فكان ردي حاسما: «يمكن أن أتقبل إقصائي لأي سبب إلا هذا الذي ذكرت، أنا ألتزم أمام هؤلاء الأساتذة بالحضور لكل الحصص، ويمكنك فصلي إن سجلت غيابا واحدا». تخيل أني كنت آتي من فاس لحضور الحصص الدراسية وأسبق الطلبة والأساتذة للفصل، ورغم ذلك كنت أتعرض طيلة الموسم الجامعي الأول لاستفزازات الأستاذ فاروق حمادة، لكني بقيت صامدا إلى النهاية، إلى أن دعاني إلى مكتبه في نهاية الموسم ليعتذر مني عن كل ما بدر منه، حيث خاطبني: «اسمح لي، لقد حرصت على استفزازك باستمرار لعلك تنقطع في سنتك الأولى، لا أن تتركنا حتى الأخير، لكني تأكدت أنك قادر على الاستمرار، وأحييك على اجتهادك». في النهاية، نجحت بنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة بتفوق، ودعاني الأستاذ حمادة إلى تسجيل أطروحة في وحدة «الاجتهاد الفقهي والتطورات المعاصرة» كي أجمع بين تكويني في العلوم الطبيعية والشرعية، وهو ما حصل فعلا، حيث حرص على الإشراف على أطروحتي المعنونة ب»وسائل الإثبات والتطورات المعاصرة: البصمة الوراثية وتطبيقاتها في مجال النسب نموذجا» رغم أن الأستاذ محمد الروكي هو الذي كان مقررا أن يشرف عليها في بداية لأمر. ونظرا لانشغالي الكبير بمسؤوليات الحركة وعملي المهني، فقد تأخرت في إنهاء الأطروحة، وكنت في أحيان كثيرة قريبا من تركها، لكن الأستاذ فاروق كان يتصل بي باستمرار ويحثني على عدم الاستسلام، إلى أن نجحت بنيل شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا سنة 2007.
كيف جاء التحاقك بالحركة الإسلامية؟ ومتى حصل ذلك؟
حصل ذلك أواخر سنة 1981، مباشرة بعد عودتي من الدراسة بجامعة القاضي عياض بمراكش، في أواخر فترة الشبيبة الإسلامية، مع مجموعة من الشباب في فيلا الوالد بحي الأطلس، رغم اختلافي عنهم حيث كنت مولعا بالموسيقى ولا أفارق قيثارتي، وأنا عائد للتو من فترة جميلة قضيتها مع الطلبة القاعديين متأثرا باحترامهم لي. وأتذكر أنني كنت أقوم للصلاة عندما يحين موعدها داخل الاجتماعات دون أن يكون لديهم أي اعتراض، ذلك أني كنت حريصا منذ الصغر وبسبب تربية الوالدين على عدم التفريط في الصلاة، وبهذه المناسبة أجدد الرحمات على اثنين من الرفاق الذين عرفتهم واللذين قضيا في الاعتقال. كنت أتعمد أن أقتحم على الشباب الغرفة التي يجتمعون فيها لأرى ما يفعلونه، وكنت أجدهم دائما منهمكين في قراءة القرآن أو الاستماع إلى أحدهم يلقي درسا دينيا، وفي أحيان عديدة، كنت أتجرأ عليهم وأدخل عليهم وفي يدي آلة «الغنبري» التي كانت لا تفارقني منذ مرحلة الثانوي، حيث كنت متأثرا بمجموعتي «ناس الغيوان» و»جيل جيلالة»، وأسست مجموعة شبابية لأداء أغاني الغيوان تحت اسم «الشواهدة» (نسبة إلى حي الشهداء الذي ولدت فيه وعشت فيه مراهقتي)، وشاركنا في إحياء الأنشطة والحفلات المدرسية التي كانت تنظم بسينما «أمبير» وغيرها، ولازلت إلى الآن أحفظ عن ظهر قلب عددا من الأغاني الغيوانية، مثل «سبحان الله صيفنا ولَّى شتوة ورجع فصل الربيع في البلدان خريف..» وغيرها. في ظل هذه المعاملة، لم يصدر عنهم أي شيء سلبي تجاهي، بل كان أحدهم يحرص على التقرب مني في كل مرة بطريقة ذكية، حيث لا يناقش معي ما ألبس ولا ما أعزف، بل كان حريصا على أن يحدثني عن الجنة والنار ويتساءل معي عن أسباب خلق الله للإنسان وغيرها من القضايا، ومع الوقت أحببتها وأحببت مجالسهم والتحقت بهم. وبعد التحاقي بالناظور سنة 1983، بحثت منذ اليوم الأول عن السبيل للانخراط في العمل الإسلامي، لكن لم يكن ينشط بالمدينة سوى جماعات «الهجرة والتكفير» ومن على شاكلتها، لذلك اخترت تأسيس فرع للجماعة الإسلامية التي أنتمي إليها، وكانت البداية بتشكيلي أول مجلس تربوي ضم إخوة قادمين من مشارب إسلامية مختلفة سواء من تنظيم «الطلائع» أو من جماعة «العدل والإحسان» أو من بعض الشباب العائدين من الخارج الذين كانوا قد انتموا هناك ل»الإخوان المسلمين»، واتفقنا على أن يجمعنا المجلس التربوي على أن يبقى لكل واحد حرية اختيار الانتماء للتنظيم الإسلامي الذي يقتنع به، وهكذا أصبح منزلي مفتوحا للجميع، ومع الوقت فتح جيراني منازلهم للمجالس التربوية أيضا، حتى أن أحد الجيران كان يسكن بالحي كان دائما يمازحنا بالقول: «متى سَتُعلِّقُونَ عَلَمَ تنظيم إسلامي بالحي؟». مع الوقت اندثرت بعض هذه التنظيمات، لكن تجمعنا كان مفيدا للغاية، وكان من ثماره التعاون مع المحسنين لبناء مسجد، ومعهد نموذجي لتحفيظ القرآن وتدريس علومه.
تعتلي المنبر لخطبة الجمعة منذ كنت أستاذا شابا للعلوم الطبيعية في الناظور، كيف جاء ذلك؟
أنا خطيب جمعة منذ حوالي أربعين سنة، ومنذ كان عمري لا يتجاوز 25 ربيعا، لقد كنت أُبتلى بالخطبة في أي مدينة أقصدها، والعجيب أني لم أطلبها يوما، ولم أجتز يوما مباراة لطلب تزكية المجالس العلمية.
(مقاطعا) هذا ما نريد أن نفهمه، كيف جاء اعتلاؤك المنبر وأنت لم تدرس العلوم الشرعية في البداية؟
اعتلائي للمنبر له قصة سأحكيها لك بتفصيل، وهي أحد أسباب تعلقي بالناظور العزيزة، إذ مباشرة بعد وصولي لهذه المدينة بحثت عن «وكالة عقارية» من أجل كراء منزل، لكني اكتشفت متأخرا أن كراء المنازل عملية نادرة في المدينة لعدة عوامل، أهمها عدم ثقة الساكنة المحلية بالوافدين من خارج مدينتهم. بقيت على هذا الحال مدة ليست بالقصيرة، إلى أن التقيت يوما بسيد في المسجد اكتشفت من خلال تبادلنا أطراف الحديث أنه يعرف أحد أبناء عمومتي الذي كان يجيد قواعد قراءة القرآن، وكان ينتقل إلى الناظور لتعليم أبنائها علوم التجويد، فدعاني هذا السيد إلى المبيت عنده في المنزل، ثم أخبرني في اليوم الموالي بشأن عمارة سكنية بها شقق مخصصة للكراء. وبينما تركني عند محل يوجد أسفل العمارة في انتظار قدوم المكلف بالكراء، دخل رجل مسن إلى المحل وسأل صاحبه من أكون، وكان ذلك يوم جمعة، وبعدما عرفه بي، دعاني إلى الذهاب معه، تخيلت أنه يحتاج إلى مساعدتي، قبل أن أصل إلى العمارة حيث يسكن، ويفتح لي شقة سكنية ويدعوني إلى أن أتخذها سكنا. لم أقبل عرضه، وألححت عليه بأداء واجب الكراء لكنه امتنع، وأمام إصراري دعاني إلى تسليم المبلغ الذي أقدر عليه إلى زوجته بداية كل شهر، فكانت في كل مرة لا تقبله منا إلا بعد إلحاح شديد، وسكنت وزوجتي ومولودتي الأولى في هذه الشقة لعام كامل.
هل كنت متزوجا في تلك الفترة؟
نعم، تزوجت وأنا بالكاد طالبٌ، وولدت ابنتي البِكر يوم مناقشتي بحث التخرج من معهد تكوين الأساتذة.
حسنا، لنعد إلى قصة بداية إلقائك خطبة الجمعة..
في تلك الفترة وبعد استقراري في منزل ذلك الرجل الذي لن أنسى جميله، كان الإخوة يقدمونني لإلقاء موعظة في مناسباتهم (عرس، عقيقة أو جنازة) إلى أن قَدِمَ إليّ جماعة من المحسنين كانوا قائمين على مسجد في قرية أركمان، البعيدة بحوالي عشرين كيلومترا عن الناظور، وأتذكر أنهم كانوا يأتون إلي كل جمعة لنقلي بسيارة إلى المسجد وإعادتي إلى منزلي بعد انتهاء الخطبة.
هل استمريت في إلقاء الخطبة حتى بعد عودتك إلى فاس وتحولك إلى قيادي في حركة «التوحيد والإصلاح» في السنوات الأخيرة؟
نعم، لقد ألقيت الخطبة حتى الجمعة الأخيرة (14 أكتوبر) قبل انتخابي رئيسا للحركة، وتوقفت عن الخطبة بدءا من هذه الجمعة (21 أكتوبر)، حيث اتصلت بمسؤول في الأوقاف في ليلة انتخابي (15 أكتوبر) وعبرت له عن حرصي على رفع الحرج واللبس، ثم بلغني بعد ذلك أن الوزارة أيضا من جهتها لا تحبذ الجمع بين الخطابة ورئاسة الحركة.
لكن ألم يكن لدى الأوقاف مشكل في إلقائك خطبة الجمعة وأنت في منصب نائب رئيس الحركة طيلة السنوات الست الماضية؟
لم يكن هناك أي مشكل، بالعكس، ففي اليوم الذي تم تكليفي بمهمة نائب رئيس الحركة في منتصف مرحلة 2014-2018، اتصلت بمسؤول في الوزارة وأخبرته بوضعيتي التنظيمية الجديدة في الحركة، وقلت له إنني لا أريد أن أسبب لكم أدنى حرج في موضوع إلقاء الخطبة، فطلب مني إمهاله إلى الغد للحسم في الموضوع، وفعلا عاود الاتصال بي وقال لي: «خُطَبُكَ معروفة ومنشورة ولم تكن يوما موضوع شكاية سواء من المصلين أو أي جهة أخرى، لذلك لا نجد سببا لتخليك عن الخطبة». وبعد انتخابي نائبا للرئيس للمرة الثانية عاودت الاتصال تأدبا وتلقيت نفس الجواب. وفي هذه المرة، طلبت أن يأخذوا وقتهم الكافي لينظروا في الموضوع لأنني موقن أن انتخابي رئيسا للحركة موضوع مختلف، وفعلا ذلك ما كان، فطلبت منهم تعيين خطيب جديد، وتوقفت من حيني.
على ذكر «الغيتار»، هل مازلت حتى اليوم تعزف على هذه الآلة الموسيقية الجميلة؟
بعد التحاقي بالحركة الإسلامية لم يعد لدي الوقت الكافي لممارسة الكثير من الأشياء، ففضلا عن العزف على القيثارة، فقد كنت بارعا في رسم البورتريه بقلم الرصاص الجاف، وإلى الآن يحتفظ أفراد من العائلة بصور البورتريه الخاصة بهم التي رسمتها، لكن للأسف لم أعد أجد الوقت الكافي لفعل ذلك، ومع الوقت فقدت القدرة على العزف، فكما يعرف العازفون، فإن أصابع اليد ينبغي أن تواصل التدرب على فعل ذلك.
هل تخليك عن هذين الأمرين مرتبط باعتقاد ديني؟
لا، فقط مشكل وقت، فعندما انخرطت في الحركة الإسلامية كنا نخصص وقتا لحفظ القرآن وأحاديث الأربعين النووية، بل كنا نحفظ مقدمة كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب رحمه الله كاملة، لذلك لم يكن لدي الوقت لأفعل ما كنت أفعله في السابق، بما في ذلك مشاهدة الأفلام السينمائية والمشاركة في الأندية الثقافية السينمائية التي كنت أحرص على حضور مناقشتها البناءة.
علمنا من مقربين منك أن لك «لسانا ريفيا» رغم أنك فاسي أبا عن جد، وأنك كنت تُلقي خطب الجمعة بالناظور بالريفية، كيف أتقنت هذه اللهجة المحلية؟
نعم. تعلمت الريفية من أخٍ ريفي كنت أرافقه كل صباح، حصل ذلك بعد تأسيسنا للمجلس التربوي وتوزيعنا المهام، وكان هذا الأخ قد تكلف بأن يسعى يوميا إلى المرور إلينا في منازلنا لإيقاظنا ساعة قبل آذان الفجر، لكنه قَبِلَ بشرطٍ، وهو أن أرافقه في هذه المهمة، وهكذا كان يمر علي يوميا لننتقل سويا إلى منازل باقي الشباب، والعجيب أنه كان يتحدث معي بالريفية، ورغم تنبيهه أكثر من مرة، لم يتوقف عن ذلك بمبرر أنه لا يقوى على الحديث بالعربية في الصباح الباكر (يضحك)، وهكذا بصحبته كل صباح وجدت نفسي أتعلم الريفية وأتحدث بها، وقد مكنني ذلك من مخاطبة الناس في المنبر بلسانهم. وفي علاقة بالريفية، فقد حصلت معي طريفة في أحد الأيام، حيث جاء إلي مباشرة بعد انتهاء الخطبة – قائد المنطقة ووالده الذي كان شيخا هرما وكان دائم الحضور للخطبة، وسألني بالريفية «من أي منطقة أنت؟»، لم يكن ممكنا أن أكذب عليه، فأجبته بالريفية: «أنا من فاس»، فضجر وخاطب ابنه: «فلنغادر، هذا الرجل تيخربق علينا»، لكن يبدو أن ابنه شرح له أنني لا أغالطه، فجاء إلي في الأسبوع الموالي معتذرا، لكنه لم يكن يتخيل أن يلتقي فاسيا يتحدث الريفية. الغريب أن كل أفراد عائلتي يتحدثون بلهجة أهل فاس، لكني كنت مختلفا عنهم، حتى قبل أن أسكن الناظور، بل منذ قضيت عامين في الدراسة بمراكش، حيث كان مستحيلا أن يتحدث الفاسي بلكنة فاسية مع المراكشيين، لأنه سيصبح أضحوكة.
أريد أن أعود إلى تجربتك مع الطلبة القاعديين والتي تبدو مثيرة للانتباه..
(مقاطعا) لم تكن تجربة ممتدة في الزمن.
هل كنت متأثرا بالفكر الماركسي في تلك الفترة؟
لا ليس فكرهم، ما أعجبني هو جدهم واحترامهم، ومناشدتهم التغيير وإصلاح المجتمع على طريقتهم آنذاك، وتلك الأسباب التي جعلتني أتأثر بنفسهم الثوري.
أنت معروف في صفوف الإسلاميين باستعمالك لكل التكنولوجيات الجديدة، لماذا؟
كل التّكنولوجيات ربّما فيها مبالغة؛ لكن ما في الأمر هو أنّني عندما كنت في الناظور على مشارف مدينة مليلية المحتلّة، حرصت مع بعض الإخوة على تأسيس عمل إسلامي هناك، ونجحنا في إقامة مجلس تربوي. حينها تعرفت على أحد الشّباب الذين قدموا من برشلونة وفتحوا محلا لبيع الحواسيب، وكانت كلفتها آنذاك جدّ مرتفعة، إلاّ أنّ ذلك الشّابّ سهل علي الحصول على أول حاسوب عن طريق المصارفة، وهكذا بدأ ارتباطي بالتكنولوجيات مبكرا، وكنت من القلائل الذين يعتمدون على الحاسوب في التدريس وغيره، بل إنني اعتمدت عليه في نشاطي بالمؤسسة القرآنية التي أسسناها بحيّنا، ويمكنني أن أجزم أنها كانت المؤسسة القرآنية الوحيدة على الصعيد الوطني التي كانت تنشر لوائح طلبتها وبرامجها مكتوبة بالحاسوب. وهكذا فقد أصبحت مغرما بكل ما هو تقني، وحريصا على استعمال أحدث التكنولوجيات في عملي المهني والحركي، بل حتى في المطبخ، حيث أتوفر على «روبو» مجهّز بحاسوب يُعدّ الوجبات اعتمادا على الوصفة التي تختارها في ظرف ثوانٍ أو دقائق معدودات. هذا الارتباط الجدلي بيني وبين التكنولوجيا كان حديث الإخوان باستمرار، لدرجة أن أحدهم وهو الأخ الفاضل محمد سالم بايشا نظم أبياتا شعرية عني في أحد المخيمات الصيفية، هذا مطلعها: يا قاصدا مخيم أوشتام طريقك إليه من تطوان ببابه فرقة من الإخوان فاسألهمو عن المدير الحاني أوس تراه مُحَمَّل الأسلاك من حاسوب وهاتف نقال
قلت في جواب سابق إنك تزوجت طالبا، فهل قصة زواجك مختلفة عن المألوف لدى الإسلاميين؟
مباشرة بعد التحاقي بالمدرسة العليا للأساتذة بدأت التفكير في الزواج، خاصة أن الالتحاق في ذلك الوقت بهذه المدرسة كان يعني ضمنيا الحصول على وظيفة، فقد كنا نحصل على رقم التأجير بمجرد قبولنا فيها. في تلك الفترة تزوجت من سيدة تنتمي لأسرة فاسية عريقة كانت تجمع أسرتها علاقة خاصة بأسرتي. أنا أسمي زوجتي ب»صاحبتي» رغم أن بعض الإخوة يعيبون علي ذلك (يضحك)، فهي فعلا صاحبتي مصداقا لقوله تعالى: «وصاحبته وبنيه»، وزوجتي صاحبتني أربعين سنة كاملة، وقد جاءت فكرة زواجي منها ذات يوم حين رن جرس فيلا الوالد، وعندما فتحت الباب وجدتها وقد ارتدت الحجاب لأول مرة، حيث لم تكن ترتديه من قبل، وفي تلك اللحظة شعرت بانجذاب تجاهها، فتواصلت مع أخيها الأكبر في ذات اليوم، وطلبت يدها من والدها. مرت الأمور بسلاسة، خاصة بعد أن اتفقنا معا على أن نعقد زواجا بسيطا، مختلفا عن الطريقة التي تزوجت به أخواتها طبقا للتقاليد الفاسية المكلفة، إذ لم تكن لدي الإمكانيات لفعل الكثير، صحيح كنت أنتمي لأسرة ميسورة فالوالد كان ملاكا عقاريا وإخوتي (13 أخ وأخت) كانوا في أفضل حال، لكني كنت حريصا على الاعتماد على نفسي في التكلف بمصاريف الزواج وما يستتبعه، في الوقت الذي انتقلت وصاحبتي للعيش بغرفة في فيلا الوالد. ومن الطرائف التي حصلت معي يوم العرس، أن جاء زوج أختي رحمهما الله – وكان موظفا ساميا، ووضع رهن إشارتي سيارته من نوع «مرسيديس 250» التي كانت تُسَمى «الفونتوم» باعتبارها آخر الصيحات في عالم السيارات لكي أركبها وصاحبتي، لكني اخترت الركوب في سيارة متواضعة لأحد الإخوة، وكانت النتيجة أن غضب زوج أختي لدرجة أن امتنع عن الدخول إلى المنزل، لكني خرجت إليه وحاولت أن أشرح له وجهة نظري، وكان مما قلته له: «لا يهمني أن تقلق، لكن غدا عندما يأتي المخاض زوجتي هل ستأتي بسيارتك هذه لتأخذنا إلى المستشفى؟»، رد: «لا»، قلت له: «لكن السيارة التي ركبتها سأجدها متى احتجتها، لذلك فضلتها رغم تواضعها»، ثم قبلت رأسه معتذرا عن الإحراج الذي تسببت فيه.
هناك صورة نمطية تشكلت حول الإسلاميين، وهي أنهم يعددون، هل يمكن أن تتزوج على «صاحبتك»؟
إذا وجدت مثلها سأعدد منها (يضحك)، أنا من فرط حبي لزوجتي أتمنى أن أجد الثانية والثالثة منها، لكن أعلم أنه لا يوجد مثلها، بكل صدق. هي من النعم التي أكرمني بها الله في حياتي بعد الإيمان والإسلام. لقد صبرت على غيابي أربعين سنة خاصة في بداية العمل الإسلامي عندما لم يكن الهاتف متوفرا، وكنت في أحيان كثيرة أغيب عن المنزل لأيام. صحيح حصلت بيننا أحيانا خلافات، لكن أكون في العموم أنا المخطئ، ولم يسبق أن تعالت أصواتنا أو رفعنا الأيدي على بعضنا البعض، وأنا حريص دائما على العمل بوصية الوالد رحمه الله عندما يحصل خلاف: «بدل الساعة بأخرى!». في هذا المؤتمر، كنت أشعر أنني قريب من الرئاسة، خاصة أن الإخوة رشحوني بقوة في المرحلة السابقة، وأنني المتبقي من جيل القياديين كبار السن، لذلك حدثت نفسي أن لا أحضر، وأن أقفل الهاتف، لأنني أخشى ثقل المسؤولية وأنا الساكن في فاس والذي يعاني من ربو مزمن لا أقوى معه على البقاء في العاصمة الرباط، لكن صاحبتي هي التي لينت قلبي ودعتني أن أترك القدر يفعل ما يريد، ومن جملة ما قالت لي لإقناعي: «ماذا إذا اقتدى بك الناس وهربوا من المسؤولية؟ من سيتحملها إذن؟». وخلال مرحلة التداول في المؤتمر، حرصت على أن أبين للإخوة والأخوات تداعيات انتخابي على أسرتي، ومن بينها استمرار غيابي عن صاحبتي، دون أن تستشار هي في الموضوع، فتفاجأت في اليوم الموالي ببعض الإخوة والأخوات وقد أحضروها من الرباط إلى الجمع العام ببوزنيقة، وفرحوا بها ووقفوا لها إجلالا. لقد أفرحني ذلك كثيرا.
ماذا عن أبنائك؟ وهل لهم علاقة بالحركة التي ترأسها؟
لدي أربعة أبناء (ولدان وبنتان) كلهم تربوا في المحاضن التربوية للحركة، لكن بمجرد بلوغهم سن الرشد أتركهم ليختاروا مسارهم. بنتاي متزوجتان وتسكنان بين حي الرياضبالرباط وتمارة، بينما ابني الأكبر متزوج وله ثلاثة أبناء ومستقر بفرنسا، فيما يسكن معي آخر العنقود «سي مروان» وهو في بداية الثلاثين من عمره، الحمد لله هو ولد الرضا لكنه مثل شباب اليوم، نتذاكر كثيرا لكني أحترم اختياراته، هو اليوم يحتفظ بشعر طويل ويعزف على الغيتار مثل والده في فترة شبابه (يضحك).
هل تعزف معه اليوم؟
مع الأسف ضيعت الطريقة، وكما تعرف، العازفون تصبح رؤوس أصابهم «صلبة» وأنا اليوم أصبحت خيوط الآلة تؤلمني في أصابعي.
عكس إخوانك، تحتفظ بعلاقة خاصة بالدراجة النارية التي لا تستطيع مفارقتها في سفرك وتنقلك، ما يجعلك مختلفا، لماذا هذا الاختيار؟ وألم يسبب لك ذلك مشكلا مع الإسلاميين؟
منذ صغري كنت ألجأ إلى استعمال أي وسيلة تُربحني وقتا، لذلك جاء اختياري للدراجة النارية كوسيلة تنقل، حتى قبل أن أصل إلى السن القانونية لقيادة الدراجة النارية الكبيرة، وقد بدأت علاقتي بالدراجة النارية منذ كنت تلميذا أتنقل بين المستشفى لزيارة والدتي -رحمها الله- والثّانوية صباح كل يوم، ومنذ تلك الفترة أصبحت تجمعني بالدراجة النارية علاقة حميمية، في وقت كان الإخوان ينظرون إلى الموضوع بشكل مختلف، وكانوا يعتقدون أن «الموتور» لا يصلح إلا للعب والتّسكّع على أبواب الثانويات. إن الأمر مختلف تماما، فالدراجة النارية من العيار الكبير أفضل وسيلة صحية للنقل بالنّسبة إليّ، ولأعطيك فكرة عن نوعية الوسيلة التي أتحدث عنها، فثمنها يتجاوز بكثير ثمن عدد من السيارات. بل يتجاوز سعرها «جديدة» 500 ألف درهم، ووزنها يصل إلى أزيد من نصف طن أكثر من بعض السيارات، ومحركها سداسي شبيه بالسيارة رباعية الدفع؛ ولذلك هي غير صالحة للعب المراهقين وغير متاحة لهم. قبل تقاعدي كنت أنتقل من فاس إلى محل عملي بتاونات وصولا إلى الحسيمة في يوم واحد؛ وأستطيع العودة والمبيت في منزلي وأنا بصحة وعافية، على عكس عندما أُضطرّ إلى استعمال السيارة فإنّي لا أستطيع الرّجوع إلى المنزل من شدّة العياء إلاّ في اليوم الموالي وأضطر إلى المبيت، وهذا ما لا يتفهّمه البعض. وأنا في هذه المسألة أحتكم إلى منطق واضح، بحيث أرى أنه من غير المعقول أن يكون الإنسان وحده ويتحرك بسيارة بأربع عجلات وأربعة أبواب، وزوجتي تتفق معي في هذه المسألة، حيث نسافر معا على متن الدراجة النارية. إلى حدود اليوم، لا أتنقل داخل المدينة حيث أسكن سوى بالدراجة الهوائية لقضاء حوائجي، وأقطع بدراجة السّباق حوالي 40 كيلومترا في كلّ تمرين رياضي، فيما أستعمل الدراجة النارية الكبيرة في سفري وتنقلي خارج المدينة بمعية زوجتي، وقد زرنا أقاليمنا الصحراوية العزيزة كلها على الدراجة النارية، بل أسهمت إلى جانب أصدقاء النّادي الذي أنتمي إليه وأندية أخرى في تنظيم مسيرة نموذجية بالدراجات تحاكي المسيرة الخضراء، بعدما انطلقنا إلى الصحراء ب350 دراجة نارية وسيّارة بمناسبة إحدى ذكريات المسيرة الخضراء.
هل مازلت تواجه الانتقاد من إخوانك بسبب استعمالك للدراجة النارية؟
لن أقول الانتقاد لكنه الخوف، فهم يعبرون لي دائما عن خشيتهم من تعرضي لحادث سير ويعتقدون أن الحوادث تكثر لدى مستعملي الدراجات النارية، ومنهم الأستاذ عبد الإله ابن كيران، الذي لا ينفك كلما التقيته يقول لي: «أنت أحمق!»، وعندما كان رئيسا للحكومة كان يداعبني بقوله: «أنا رئيس الحكومة ولم أستطع حتّى منع أوس من السّفر مع زوجته بالموطور». أعلم أن كل من يتحدث معي في الموضوع يكون خائفا عليّ من تعرضي للحوادث، وإن كانت الحقيقة أنّي شخصيا تعرضت لسبع أو ثمان حوادث بالسيارة، ولم أتعرض لأي حادث ولله الحمد- باستعمال الدراجة النارية.
ألا يمكن أن يكون عدم تحمسه لانتخابك راجعا إلى طبعك الحاد وامتلاكك شخصية قوية، في حين ربما كان يفضل أن يكون على رأس الحركة شخص يتسم بالهدوء، خاصة أنه صرح مباشرة بعد الهزيمة المدوية للحزب في انتخابات 8 شتنبر بضرورة مراجعة الشراكة الاستراتيجية مع حركتكم الدعوية؟
أنا عدت إلى الفيديو الذي تحدث فيه ابن كيران عمّا ذكرت، ووجدت أن كلامه جاء في سياق جواب على سؤال طُرِحَ عليه في أحد اللّقاءات يهمّ توقيع اتفاقية شراكة تربوية مع الحركة، ومما قاله ابن كيران وهو من مؤسسي الحركة: «لا تتحدثوا معي عن الشراكة التربوية، الحركة تدير شغلها والحزب يدير شغله»، لذلك فهو اعترض على وجود شراكة تربوية بين الحزب والحركة، وهذا الأمر مفهوم لأن الحركة لا تُرَبِّي الحزب ولم تفكّر يوما في ذلك. لكن في ما يتعلق ب»الشراكة الاستراتيجية»، فهذا موضوع مختلف، علما أنها كانت أصلا شراكة من جهة الحركة، ومجلس شورى الحركة هو الذي اعتمدها، استحضارا لكون الحركة كانت مُنطلق تأسيس العدالة والتنمية بشكله الحالي، إذ بعد عدم الحصول على ترخيص الحزب الذي أردنا تأسيسه تحت اسم «حزب التجديد الوطني» لجأنا إلى الممارسة السّياسية من خلال حزب الدّكتور عبد الكريم الخطيب، رحمه الله. ومادام قرار الشراكة الاستراتيجية اتخذ في مجلس الشورى، فإن مراجعته أو نسخه لا يمكن أن يكون إلاّ في مجلس الشورى أو الجمع العام الوطني.
بعيدا عن ابن كيران، ما هو تصورك أنتَ لموضوع الشراكة الاستراتيجية؟
أي كلام في الموضوع هو سابق لأوانه، هناك آراء مختلفة في الموضوع، وأعتبر أن من توفيق الله عز وجل لنا أن استطعنا أن نُصَبِّرَ أنفسنا وألّا نستقبل من أمرنا ما يمكن استدباره، والمواقف التي تؤخذ كردة فعل غالبا ما تكون غير معقولة، لذلك نحن ندعو إلى التمهل في اتخاذ أي قرار بهذا الشأن.
لكن هل لديك رغبة أو نية لمراجعة الشراكة الاستراتيجية مع الحزب؟
لدينا مساطر تنظيمية لا نقدسها لكن لا أحد يفكر في خرقها، وهي التي يجب أن نتبعها في هذه المسائل، وقد تعلمنا من هذه المساطر التي أنتجناها بأنفسنا أن الأمور تُقضَى في هيئاتها، ولأن قرار الشراكة الاستراتيجية اتخذ في مجلس الشورى فإنه لا يمكن نقضه أو مراجعته إلا في مجلس الشورى أو الجمع العام الوطني، والقرار في النّهاية ليس قرار الرئيس وحده، بل قرار جماعي ينضج في الهيئات المعنية ووفق المساطر المعمول بها عندنا. وعليه، فإذا توصلنا بطلبات لمناقشة هذا الموضوع في مجلس الشورى فسنذهب بنفس النية، وسنستمع لمختلف الطروحات كاملة ونتخذ حينها القرار بالطّريقة الشّورية الدّيمقراطية المعهودة عندنا، ويتم إبلاغ الرّأي العامّ بذلك
أنت أول رجل تعليم يترأس الحركة.
(مقاطعا) ليس صحيحا، أنا ثاني رجل تعليم بعد الدكتور أحمد الرّيسوني الذي ترأس الحركة عند تأسيسها.
كما أنك أيضا أكبر رئيس للحركة سنّا؟
أما هذا فصحيح. لم يسبق للحركة أن انتخبت رئيسا في هذا السن نهائيا، فأحمد الريسوني انتخب وعمره 43 سنة ومحمّد الحمداوي في 46 سنة، وعبد الرحيم شيخي في 48 سنة. أما أنا فعمري اليوم بالتاريخ الهجري 66 سنة وبالميلادي 64 سنة.
أليس ذلك دليلا على شيخوخة الحركة وعجزها عن إيجاد الخلف؟
الحركة تعيش بالفعل بوادر شيخوخة، وكل الحركات الإسلامية والتنظيمات الحزبية اليوم حول العالم تشتكي من تراجع في نسبة الإقبال عليها من طرف الشباب، وهذه الفئة العمرية نعذرها لأنها تتعرض لصدمات فكرية عنيفة وخطيرة. وفي ظل شيخوخة التنظيمات الموجودة، نحاول أن نمنح الفرصة للشباب، لذلك اخترت أن يكون نائبي الأول شاب وهو الأستاذ «رشيد العدوني»، ولدي قناعة راسخة بأنني وضعت الرجل المناسب في المكان المناسب، بل تعجبت أنني لم أجده ضمن لائحة المرشحين لرئاسة الحركة إلى جانب محمد لبراهمي والآخرين.
يلاحظ أن الزخم في عمل الحركة تراجع خلال فترة رئاسة شريككم العدالة والتنمية للحكومة، وتجلى ذلك في خفوت صوتكم في القضايا التي دأبت الحركة على الترافع من أجلها.
(مقاطعا) أعطني مثالا…
موضوع اتفاقية سيداو كمثال، حيث تأخرت الحركة في إصدار موقفها من تصديق حكومة ابن كيران على البروتوكول الاختياري الملحق بها، وما راج في تلك الفترة أن قيادات الحزب التي كانت تمتلك عضوية في المكتب التنفيذي (يتيم والخلفي) أثرت في رأيكم، ألا ترون أنكم في حاجة إلى فض الشراكة الاستراتيجية مع الحزب والتي استنفدت أغراضها؟ «سيداو» بالخصوص كان يحوم حولها غموض كبير، وقد نوقشت خلال مدة طويلة، وقدمنا موقفنا منها في مختلف مراحل مناقشتها والتصديق عليها، لكن عند المصادقة على البروتوكول الملحق بها أصدرنا بياننا المؤرّخ ب 11 يوليوز 2015 وكان صريحا في رفض خطوة رفع التّحفّظات. لكن جوابا على مسألة خفوت صوت الحركة إبان ترؤس الحزب للحكومة، لا أعتقد أن ذلك دقيقٌ، فالجميع يتذكر موقفنا من فرنسة التعليم ومن قانون تقنين استعمال الكيف ومن كارثة التطبيع، بل إننا اتخذنا موقفا صارما من التطبيع ونحن نعلم حجم الإحراج الذي سيسببه لنا حتّى مع حزبنا، لكننا لم نتردد في اتخاذ هذا الموقف المبدئي. أمر آخر له علاقة بموضوع صورة الحزب والحركة، ونعتبره طبيعيا، وهو أن العمل الحزبي يظهر أكثر من الحركي، وذلك بالنظر إلى طبيعة العمل الحزبي الذي فيه احتكاك يومي وحضور في الإعلام وغيره، لكن ما يهمنا كحركة هو أن ننجز مشروعنا المتمثل في إعداد أطر صالحة يمكنها الانخراط في الإصلاح من أي هيئة كانت. وفي تقديري فإننا لم نفرط في شيء، واستطعنا مواكبة الأحداث خصوصا التي لا نعتبرها «قشرة موز»، لأنه توجد قضايا نقصد تجاهلها، إذ بعد مناقشتها يتبين لنا أنها وُلِدَت ميتة وأن إصدار موقف منها هو الذي سيمنحها الحياة، ومثل هذه الأمور نتركها للزمن.
هل مازلتم مقتنعين بضرورة دعم الحزب؟
إلى حدود الساعة لا يوجد قرار غير ذلك، لكن هل الدعم الذي تلقاه الحزب من الحركة في الانتخابات الأخيرة كان بنفس الشكل الذي تم به في الانتخابات السابقة؟ لا أعتقد ذلك رغم أن موقفنا كان واضحا…
عذرا على المقاطعة، هل تَرَاجُعُ دعم الحركة للحزب في انتخابات 8 شتنبر يعود إلى توجيه رسمي من قيادة الحركة أم تحكمت فيه رغبة الأعضاء وتثاقلهم في دعم العدالة والتنمية؟
أبدا، لم يصدر أي توجيه بعدم دعم الحزب، لكننا شعرنا بهذا الأمر، وسي عبد الرحيم شيخي رئيس الحركة آنذاك لم يعط الحق لنفسه بمتابعة الإخوان وإحراجهم. لقد وجهنا الأعضاء بدعم مرشحي الحزب، لكن لم يستجب إلى ذلك من الأعضاء إلا اللمم، وشعرنا أن عددا منهم لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، لكننا تفهّمنا الأمر ولم نفرض على أحد شيئا.
تعيش الحركة الإسلامية منذ 2013 تراجعا مهولا لأسباب خارجية وذاتية تختلف من منطقة إلى أخرى، لكن يروج اليوم حديث عن سعي هذه الحركات في إطار التنظيم العالمي للإخوان المسلمين إلى «صحوة» جديدة، هل أنتم منخرطون في هذه الدينامية؟
لا أحتاج للتذكير بأن حركتنا بمختلف روافدها لم يكن لديها في أي يوم من الأيام ارتباط بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ولا بغيره من التّنظيمات الخارجية، فأنا مثلا منذ تأسيس الجماعة الإسلامية سنة 1983، لو ثبتت لدي في ذلك الوقت علاقة لجماعتنا بأي تنظيم خارجي لكنت أول المغادرين. الإخوان المسلمون مدرسة تربوية رائدة عمرها أزيد من قرن، وقد استفدنا من أدبياتها، لكن نؤمن منذ تأسيس الحركة الإسلامية بخصوصية بلدنا الذي منح للحركة الإسلامية الحق في الوجود والعمل في إطار القوانين والشرعية، لن أخفيك أننا اجتزنا مراحل عصيبة عديدة جمعنا حقائبنا وكنا ننتظر فيها الابتلاء، لكن بلدنا والحمد لله لا يستجيب لدواعي استئصال أبنائه البررة الذين يعلم صدق نواياهم وغيرتهم على بلدهم، ويترك دائما ممرا لانسياب مياه الحركة الإسلامية، كما يقال. لا يمكن لأحد اليوم أن يقارن المغرب بمصر أو الجزائر أو تونس أو ليبيا أو سوريا، لأننا على يقين وقناعة بأن النظام المغربي يتعامل برشدٍ، قد يختلف مع الإسلاميين في عدّة وجهات نظر؛ لكنه مقتنع أنهم أبناء بررة للمغرب، ويبحثون عن مصلحة المغرب ويدوسون على مصالحهم ويصبرون على قرارات صعبة من أجل بلدهم، حتّى لا يكونوا فتنة لبلدهم وأهل بلدهم.
أفهم من كلامكم أنكم لن تنخرطوا في هذه الدينامية؟
لن يخطر ذلك أبدا ببالنا. قد نسهم في النقاش ونقدم رأينا من بعيد، لكن لا نؤمن أبدا بشيء اسمه تنظيم دولي عنده تصور جديد للعالم.
لكن محمد الحمداوي رئيس الحركة الأسبق منخرط في هذه الدينامية؟
سي محمد الحمداوي إذا كان منخرطا، فإن ذلك استمرار لعلاقاته السابقة بمنتدى الوسطية العالمي وعدد من المنتديات الفكرية غير التّنظيمية، وحضوره غالبا ما يكون اختيارا شخصيا وليس تمثيلا رسميا للحركة.
إذن هو يمثل نفسه؟
نعم، في عديد من المناسبات واللّقاءات؛ فقد مؤخرا شارك في أحد اللّقاءات لم يكن الرئيس السّابق ولا أنا على علم به، بطبيعة الحال لم يستأذنا، لأنه يعرف أنه يفعل ذلك بشكل شخصي، ولاحقا عرفت أنه كان مشاركا في ملتقى حول «الصحوة» أو شيء من هذا القبيل.
هذا هو الملتقى الذي أسأل عنه…
الحمداوي يحضر بشكل شخصي في عدّة أعمال ويتحمل مسؤوليته، والمؤكّد أنّ مشاركاته تكون من موقع التّصويب والتّرشيد، وهذا مشهود له به حتّى من طرف الهيئات التي تحرص على إشراكه في المنتديات التي تُعنى بقضايا الحركة الإسلامية عبر العالم.