تعتبر صلاة التراويح من العلامات المميزة لرمضان، وتحظى بقدسية اختلط فيها الدين بالعادة. ونظرا لحجم الجدل الذي رافق إلغاء تراويح رمضان هذا العام للمرة الثانية على التوالي بسبب جائحة كورونا، نعود إلى تقليب صفحات التاريخ لمعرفة نشأتها وسيرورتها، واستقراء آراء فقهاء وباحثين حول أهم طقس ديني يشد الأنظار إليه في شهر الصيام.
لم يكن «عدنان. ن» يتصور أن رمضان لهذا العام سيكون الثاني على التوالي الذي سيحرم فيه من أداء صلاة التراويح بمسجد الحسن الثاني بالبيضاء، حيث تشنف آذانه القراءة العطرة للمقرئ عمر القزابري، لذلك يخوض منذ السابع من أبريل تاريخ إعلان قرار حظر التنقل الليلي في رمضان، مرافعات قوية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، لإقناع أصدقائه بأن الحكومة تشن حربا على الدين بمنعها لأهم شعيرة دينية في رمضان، صلاة التراويح.
يُصر «عدنان» على رأيه بأن الدولة فتحت المواجهة مع مساجد الله، حتى عندما يواجه من طرف منتقديه بأن بيوت الله مفتوحة أمام المصلين الذين يمكنهم أداء الصلوات المفروضة خارج أوقات حظر التنقل الليلي، فهو مقتنع أشد الاقتناع أنه «لا صيام بدون تراويح».
ليس «عدنان» الوحيد صاحب هذا الموقف، فكثيرون يبادلونه نفس القناعة، بمن فيهم قيادات في حركات إسلامية يفترض أنهم على بينة مما يجري في الواقع، مثل محمد بولوز القيادي بحركة التوحيد والإصلاح الذي شارك منشورا على شكل «رسالة» موجهة إلى العاهل المغربي محمد السادس بوصفه أمير المؤمنين، داعيا من خلالها جمهور «الغاضبين من منع التراويح» إلى «المطالبة بممارسة الشعائر الدينية التي باتت مهددة مع قرار المنع».
بين صلاة النبي وعمر واليوم !
تعتبر صلاة التراويح أهم طقس ديني في رمضان بعد الصيام، وتحظى بقدسية لدى المغاربة وعموم المسلمين، حتى أنها تستقطب أكبر عدد من المصلين أكثر من غيرها من الصلوات، كما يظهر من حالة المساجد التي كانت تمتلئ عن آخرها في السنوات الماضية، ويلجأ المصلون في عدد منها إلى افتراش الأرض في الشوارع والأزقة المجاورة.
ومما لا يختلف عليه اثنان، أن الصلوات الخمس المفروضة لا تعرف نفس الإقبال في التراويح، حتى أن فئة من المصلين تواظب على صلاة التراويح في المسجد دون غيرها من الصلوات، بما فيها صلاة العشاء، وهو ما لم يخفه «أيوب. د» الذي أكد أنه قد يصلي العشاء في المنزل لكنه لن يتخلف عن صلاة التراويح، فالأهم بالنسبة إليه ألا يحرم من أجرها.
هذه المفارقة التي عبر عنها «أيوب» تدفع للتساؤل عما يجعل المغاربة يقدسون التراويح أكثر من الصلوات الخمس، علما أن الأولى «نافلة» والثانية «فرض» بل وتعتبر عماد الدين.
تكشف عملية بحث سريعة في كتب التاريخ عن مفاجأة حول أصل نشأة صلاة التراويح في الإسلام، لا يعرفها كثير من المغاربة، وهي أن التراويح فضلا عن كونها «نافلة» وليست «فرضا» فقد كانت تؤدى فرديا في البيوت وليس جماعة في المساجد. وأنها لم تكن تؤدى من قبل بالشكل الذي هي عليه اليوم، أي بالصلاة خلف إمام واحد في المسجد إلا في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، حيث أنه يعتبر أول من جمع الناس على قارئ واحد في السنة 14 هجرية، فيما كان المسلمون يؤدونها في عهد الرسول محمد عليه السلام والخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق بشكل فردي في بيوتهم غالبا، وفق ما هو مدون في تأريخ الطبري.
ومن الأدلة التي تؤرخ لذلك، ما رواه البخاري عن ابن شهاب بن عروة بن الزبير عن عبد الرحمان أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع (أي جماعات متفرقة) متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط (ما دون العشرة من الرجال). فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يُصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله».
وبعد إقرار هذه «البدعة العمرية الحسنة» بتعبير علماء، كتب عمر في نفس السنة إلى المناطق التابعة لدار الإسلام وأمرهم بتخصيص قارئ للصلاة بالرجال وآخر للصلاة بالنساء، وكان من أهم القراء في ذلك الوقت، وفق ما دونه الطبري، أبي بن كعب (كان أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في حياة النبي محمد (ص)، وتوفي سنة 30 هجرية) ومعاذ بن الحارث (كان أحد الستة الأوائل الذين أسلموا في مكة، وتوفي سنة 63 هجرية)، فيما اشتهر من القراء الذين كلفهم عمر بأئمة النساء كل من تميم بن أوس الداري (كان نصرانيا أسلم في السنة التاسعة بعد الهجرة وتوفي سنة 40 هجرية) وسليمان ابن أبي حثمة القرشي (توفي في سنة 85 هجرية).
ولأجل توحيد صلاة التراويح في الأقطار الإسلامية، أمر عمر أن تصلى في عشرين ركعة، وهو ما أكده العلامة مصطفى بن حمزة في تصريح ل»الأيام»، حين اعتبر أن المغاربة يحافظون على سنة عمر إلى اليوم، عندما يصلون ترويحتين، الأولى بعد العشاء من عشر ركعات والثانية قبل الفجر بنفس العدد من الركعات.
تسهيلات وترخيصات !
وفيما يتعامل مغاربة بتعصب كبير مع أداء التراويح بالمساجد، ومنهم من اعتبر حظر التنقل الليلي في رمضان من الثامنة إلى السادسة مساء بمنزلة «حرب على الإسلام»، مثل «عبد الرحمان. ز» الذي رأى منع التراويح «إثما كبيرا ما بعده إثم»، تنقل كتب تاريخ الإسلام كيف أن النبي الأكرم كان يؤدي قيام رمضان في بيته، وكيف أنه خشي بعد أن صلاها في المسجد بعضا من الليالي أن يعتقد المسلمون أنها فرض، خاصة عندما رأى إقبال الناس عليها، كما يؤكد ذلك مضمون حديث نبوي روي في الصحيحين (البخاري ومسلم).
ومما يدل على أن التراويح في الأصل تؤدى في البيوت بشكل فردي، المعلومة الموجودة في كتب التاريخ والتي يجهلها أو يتجاهلها كثيرون، والتي تؤكد أنه رغم بداية العمل بسنة عمر فإن الكعبة لم تشهد صلاة التراويح جماعة وبقارئ واحد إلا في عهد الأمويين، وفق ما أورده أبو عبيد البكري الأندلسي المتوفى في 487 هجرية في كتابه «المسالك والممالك»، حيث قال إن: «أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان خالد بن عبد الله القسري (كان واليا على مكة)، فأمر الأئمة أن يتقدموا ويصلوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة».
ورغم أن «البدعة العمرية» حسنة بتعبير جمهور العلماء الذين رأوا فيها تشجيعا على أداء المسلمين للتراويح، فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن الأصل في صلاة التراويح وسائر صلوات النافلة أن تؤدى منفردة، بلا إمام ولا جماعة، كما أوضح ذلك أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في مقال نشره في 22 أبريل 2020 بموقعه الإلكتروني، ومما جاء فيه: «ليس مطلوبا في صلاة التراويح الاجتماع والصفوف والإمام، كصلاة الجماعة والجمعة، فلذلك لا إثم على مصليها أن يكون منقطعا عن الإمام وعن صفوف المصلين. فهو أساسا إنما يستفيد من الإمام قراءته». كما مضى الريسوني في التأكيد على أن نوافل الصلاة (مثل التراويح) «فيها تسهيلات وترخيصات شرعية معلومة تشجيعا من الشارع الحكيم على فعلها وتكثيرها، وهي مقررة لدى العلماء، والذين رخصوا رخصا عديدة في النوافل والقربات مما لا يقبل مثله في الفرائض».
وفي ظل الجدل الذي يرافق منعها في المساجد منذ السنة الماضية، تبقى صلاة التراويح الجماعية أحد العادات المميزة في رمضان التي ترافقها تقاليد أخرى، من بينها عادة «تعليق المصابيح» التي مازالت تتم ببعض المساجد، والتي يعود سنها إلى عمر بن الخطاب أيضا، حيث قام بتعليق المصابيح لزيادة أنوار المساجد لما جمع الناس في التراويح، حتى أن هناك قولة منسوبة لعلي بن أبي طالب أنه مر على المساجد في رمضان وفيها القناديل مشتعلة فقال: «نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا».
مثل هذه العادات التي ترافق التراويح وغيرها هي ما جعل محمد جبرون أستاذ التاريخ والفكر الإسلامي يعتبر في حوار مع «الأيام» أن صلاة التراويح أصبحت «طقسا ثقافيا» أكثر مما هو ديني، ترتبط بالتقاليد التي ارتبطت بها لدى المغاربة والتي بلغت مع الوقت حد التقديس.
وفيما لم تتم استساغة إلغاء التراويح في المساجد من لدن البعض صونا لسلامة الجسد بسبب تفشي وباء كورونا، نجد في كتب تاريخ المغرب أنه لم يكن هناك حرج في إلغائها لأسباب مختلفة، كما كتب المؤرخ المغربي أبو العباس الناصري (توفي سنة 1315 هجرية) في كتابه «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» نصا صريحا في تعطل التراويح بسبب الاضطراب الأمني في فترة حكم السعديين، حيث يقول: «لما قتل السلطان عبد الملك بن زيدان سنة 1040 هجري، بويع أخوه الوليد بن زيدان، وعظمت الفتن بفاس حتى عُطلت التراويح من جامع القرويين مدة، ولم يصلِّ به ليلة القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب».
لم تكن تصلى بشكل موحد وكان كل مذهب ينصب إماما في ناحية من المسجد الحرام
من بين القصص المثيرة لصلاة التراويح عبر التاريخ، مشهد إقامتها في الحرم المكي بتعدد محاريبه وجماعاته وفقا للمذهب الفقهي، حيث كانت كل فرقة تنصب إماما لها في ناحية من نواحي المسجد، ولا تبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه.
وتذكر مصادر تاريخية، من بينها وصف لمجير الدين العليمي الجنبلي المتوفى في القرن العاشر الهجري، وأبو طاهر السلفي المتوفى في القرن السادس، أن التراويح كانت موضع خصام بين المذاهب السنية الأربعة، حيث كان إمام الشافعية يصلي في مقام إبراهيم تجاه باب الكعبة، وإمام الحنفية مقابل حجر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، ثم إمام الحنابلة مقابل الحجر الأسود.
وقد بدأ العمل بهذه العادة منذ أواخر القرن الخامس الهجري، ولم تختف بشكل نهائي إلا بعد إكمال آل سعود سيطرتهم على الحجاز سنة 1344 هجرية.
ولم تشمل هذه الفرقة مكةالمكرمة وحدها، فقد تحدث المؤرخ السمهودي المتوفى في 911 هجرية عن تقليد تعدد المحاريب المذهبية وانتشاره في الأقطار، عندما قال إن «هذا الأمر دب إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة . ..، وكذا جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر قديما، وانتقل أيضا إلى مسجد الخليل بفلسطين».
وفي أحيان كثيرة، كانت السلطات تتدخل لتنظيم فوضى التراويح المتعددة في المسجد الواحد وما ينتج عن هذا التعدد من تداخل لأصوات الأئمة المقرئين وتشويش على المصلين، كما يذكر ابن كثير أنه كانت في الجامع الأموي بدمشق محاريب متعددة للمذاهب الأربعة، ولكن في زمنه تدخلت السلطة لتوحيدها «في صلاة التراويح، فاجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدَّم عند المنبر».
وفي رمضان من سنة 926 هجرية، أمر حاكم دمشق العثماني «إمامَ الحنفية بالجامع الأموي بأن يصلي التراويح بالمقصورة ليلة، ويصليها الإمام الشافعي ليلة، وفُعل ذلك وتركت التراويح بمحراب الحنفية، ولم يسهل ذلك على متعصبي الشافعية».
الشيعة و"المنع السياسي" للتراويح
ما لا يعرفه كثيرون أن الشيعة لا يصلون التراويح لكونها «بدعة عمرية»، ولطالما شكلت هذه الصلاة عبر التاريخ موضع خلاف طائفي في مدى شرعيتها، إلى أن وصلها مقص «المنع السياسي» في عهد الدولة الفاطمية (الوحيدة بين دول الخلافة الإسلامية التي اتخذت المذهب الشيعي، وحكمت شمال إفريقيا ومصر والشام والحجاز في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي)، حيث تم منع صلاة التراويح في حقب مختلفة من تاريخ حكمهم، بل إن مؤسسي الدولة خاطبوا أتباعهم وهم ما زالوا في طور الدعوة قائلين: «مذهبنا ألا تُصلى التراويح لأنها ليست من سنة النبي وإنما سنها عمر».
ويذكر ابن الجوزي أن الخليفة الفاطمي «المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله» المتوفي سنة 334 هجرية خالف سيرة أبيه وجده في الحكم ف»أقام التراويح» في تونس قبل خروجهم منها إلى مصر. فيما أفاد المؤرخ ابن سعيد الأنطاكي بأنه في سنة 370 هجريةمنع الخليفة الفاطمي العزيز بالله صلاة التراويح بمصر ف»عظُم ذلك على كافة أهل السنة من المسلمين»، لكن خلَفَه الحاكم بأمر الله المتوفى سنة 411 هجرية سمح بإقامتها مؤقتا ثم منعها عشر سنوات حتى كانت عقوبة من يصليها الإعدام، حيث أعدم العالم «رجاء بن أبي الحسن» لأنه صلى بالناس التراويح في شهر رمضان، وضرب «الصالح أبو القاسم الواسطي» إمام المسجد الأقصى في القرن الرابع الهجري حتى أوشك على الهلاك لأنه اعترض على أمر الخليفة الفاطمي بقطع صلاة التراويح.
ولم يشمل «المنع السياسي» لصلاة التراويح الدولة الفاطمية، بل امتد إلى «الحشاشين» (طائفة شيعية أيضا انشقت عن الدولة الفاطمية في أواخر القرن الخامس الهجري وكان معقلها بلاد فارس والشام)، حيث منعت صلاة التراويح بالمناطق التي سيطرت عليها في فارس وخراسان، ثم سمحوا بإقامتها في نهاية عمر كيانهم في القرن السابع الهجري.
ولم تكن القرارات السياسية المدفوعة بالتحيزات المذهبية هي الوحيدة التي تعطلت بسببها التراويح، فكتب التاريخ ترصد إلغاءها بسبب أزمات عامة وحروب تزامن وقوعها ببعض البلدان الإسلامية مع شهر رمضان، فتوقفت جراءها صلاة التراويح. فقد أورد ابن الجوزي حول أحداث سنة 439 هجرية أنه «في رمضان غلا السعر ببغداد، وورد كتاب من الموصل أن الغلاء اشتد بها حتى أكلوا الميتة، وكثر الموت حتى إنه أحصِي جميع من صلى الجمعة فكانوا أربعمائة». وإذا تعطلت الجمعة في رمضان – وهي شعيرة واجبة الأداء – فمن باب أولى أن يتوقف المصلون عن إقامة التراويح وهي نافلة.