صلاة التراويح في الفقه المالكي يقول الإمام عبد الواحد بن عاشر: "نُدِب نفل مطلقا وأُكِّدَتْ — تحية ضحى تراويحٌ تلتْ" (1). والمقصود بإيراده للتراويح، هنا، دخولها في النوافل المؤكدة. وهي "صلاة القيام في شهر رمضان، وسميت بالتراويح لأن الناس كانوا يطيلون القيام والركوع والسجود، فإذا صلوا أربعا استراحوا، ثم استأنفوا الصلاة أربعا ثم استراحوا، ثم صلوا ثلاثا". (2) هذا عن دخولها في النوافل المؤكدة، وتعريفها وسبب تسميتها، فما حكم الجماعة فيها؟ يقول الإمام عبد الله بن أبي زيد القيرواني: "وإن قمت فيه (أي في رمضان) بما تيسر فذلك مرجو فضله وتكفير الذنوب به، والقيام فيه في مساجد الجماعات بإمام، ومن شاء قام في بيته وهو أحسن لمن قويت نيته وحده، وكان السلف الصالح يقومون في المساجد بعشرين ركعة ثم يوترون بثلاث ويفصلون بين الشفع والوتر بسلام، ثم صلوا بعد ذلك ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر، وكل ذلك واسع، ويسلم من كل ركعتين". (3) وفي بيان ما تقدّم، نورد ما يلي: – أن تشريع صلاة التراويح ثابت بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبدليل عمل الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه. "فإنه عليه الصلاة والسلام صلى بالناس في رمضان ثلاثا، ثم تخلف في الثالثة أو في الرابعة وقال: "إني خشيت أن تفرض عليكم"، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها". وما كان من عمر رض الله عنه أن جمع أوزاع ومتفرقي المصلين على مقرئ واحد هو أبي بن كعب رضي الله عنه، إحياء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرئا لافتراق الناس وطلبا لوحدتهم (4). لم تفرَض صلاة التراويح جماعة على المسلمين، وذلك ما خشيه النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفا للتكليف عن أمته، فبقيت مستحبة نافلة مؤكدة، يؤديها الناس في المساجد جماعات، متطوعين لها من غير إكراه، يخدمون القائمين عليها من أئمة وقراء وقيمين بتفانٍ ومحبة. – أن صلاة التراويح في البيت أفضل لمن يغلبه الرياء فيقل إخلاصه في جماعة، وذلك بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وقوله في حديث آخر: "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة" (5). تستحب الجماعة في التراويح لمن تتحقق له فوائدها، ولب الفوائد الصلاة بإخلاص. ومن خاف على نفسه الرياء، أو من وجد في النافلة الفردية طمأنينته وفائدته ومبتغاه من التعلق بالله، فالتراويح في بيته أفضل له. – أن السلف أدوها عشرين ركعة، يوثرون بثلاث بعدها، مع الفصل بين الشفع والوتر بسلام، كما أدوها ستا وثلاثين فيما بعد. وفي قولٍ أنهم "كانوا يقومون بإحدى عشرة، واحد منها الوتر" (البيهقي). وفي آخر أن الأمر كان "بتطويل القراءة، لأنه أفضل، ثم ضعف الناس"، فأصبحت ثلاثا وعشرين مع تخفيف طول القراءة. (6) – أن فيها سعة مترتبة عن دخولها في حكم المندوب، وهي مما رغّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفرضه، وذلك بكونها من القيام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه". يقول الإمام الحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري: "(وكل ذلك واسع/ قول صاحب "الرسالة") لأن المقصود هو القيام ولم يرد فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديد" (7). – وإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات، فمن باب أولى أن تبيح ترك المستحب. وقد سبق أن منعت الصلوات الواجبة المكتوبة في كل مساجد العالم، لما يفرضه الوباء من حجر صحي. وهو ما يصدق على التراويح، من باب أولى. ومما يجب معرفته أن حفظ النفس أولى، لأنها محلّ التعبد؛ وأن مراعاة أحوال البلاد، من حيث قدراتها الاقتصادية والطبية، أجدر بالاعتبار أيضا. المطلوب هو "تحقيق المناط" كما يجب، من غير إخلال بالتقدير. فإذا تحقق المناط بما يمكن أن تؤدي إليه "التراويح الجماعية" من انتشار للوباء، وال"متوقع كالواقع" (كما يقول الفقهاء)، فإن منعها يصبح واجبا، حفظا للأنفس. وبناء على هذا وغيره، تفاعل د. مصطفى بن حمزة مع "قرار المنع" بقوله: "المقصد (من قرار المنع) هو الحفاظ على أرواح جميع المؤمنين، كمقصد من مقاصد الإسلام والدين الإسلامي، وهو المحافظة على الأنفس". اقتبسنا ما ذكرناه أعلاه، بخصوص صلاة التراويح، من كتب السادة المالكية. وذلك، لأن الرجوع إلى المذهب المالكي أولى، باعتباره مذهبَ أهل البلد (المغرب). 2-صلاة التراويح بعد سنة من "الكوفيد" ليس النقاش نقاش حكم فقهي فحسب، فالسادة المالكية يضعون في حسبانهم إمكان تعطيل أداء صلاة التراويح في المساجد لظروف طارئة، ويتوسعون في أدائها بين فردية وجماعية أكثر من غيرهم؛ ليس هذا هو المدخل الوحيد لهذه النازلة، بل لها مدخل آخر نعبر عنه -ابتداء- بالسؤال التالي: ما سر هذا التعطش الجماعي لصلاة التراويح في المساجد؟ يبقى الإنسان في حاجة إلى الدين والغيب مهما حاول الفرار، فإنه في شباك "ظمأ الوجود" ساقط لا محالة. أما في زمن الفتن والاضطرابات والكوارث والأمراض والأوبئة والفاقة والتفاوت الاجتماعي الكبير… إلخ؛ أما في هذا الزمن، فإن احتماء الجماهير بالغيب والدين يكون أظهر من احتمائهم به في أي زمن آخر. إن الناس عطشى، أرهقتهم مشاق الحياة ومتطلباتها وآلامها وأحزانها، فاشتاقوا إلى اللجوء إلى الله فرادى وجماعات. يعوضون عن مآسيهم، ويطلبون رحمة السماء. يرجون أن تنالهم يد السماء، بعدما نكلت بهم أيادي الأرض. عام من الوباء "كوفيد-19″، ولم تنته مأساته بعد، لم تضمد جراحه بعد. ولا متنفس للناس بعيدا عن مآسي "الكوفيد" إلا صلوات نافلات، يؤدونها في المساجد جماعات. بحثوا في الأرض عن مخرج لأزمتهم، فعجزوا. بحثوا وبحثوا، فوجدوا أن الدين صمام أمان نهائي، يحمي أسرهم من تفكيكها، ونفوسهم من اضطرابها، وخصوصياتهم من تهميشها وإقبارها، وذاكراتهم من محوها… إلخ. قد يتساءل متسائل: ألا يتحقق ذلك إلا في التراويح جماعة؟ ونحن نجيب: إن حال العامة غير حال الفقهاء، وإن حالهم غير حال رجال الدولة. العامة في حاجة، والحاجة تتحقق في لا شعورهم بالطريقة التي اعتادوها لقرون. فأن تحملهم على طريقة أخرى، هو ما يتطلب مجهودا وتبريرا يخرج به للأمة أمناؤها ومن تثق بهم من "حكماء الشريعة" (بتعبير محمد المكي الناصري) الوطنيين، يقدّرون الخطر بقدره، لا يتصيدون أخطاء الإدارة بل ينصحونها، وإذا كان لا بدّ من منع للتراويح فإنهم يعملون على التهدئة من روع العامة، وإعانتها على صرف ألمها وتعبها في أوجه أخرى قد تكون أقرب إلى التراويح جماعة. 3-قراءة في ردود الأفعال المترتبة على المنع تنوعت ردود الأفعال، على منع أداء صلاة التراويح جماعة بالمساجد، بين: – مبررٍ للقرار من غير مراعاة لشعور العامة: وقد تمّ تبرير هذا القرار ب"الحالة الوبائية"، ولا ضير في ذلك، بعد اجتهاد وتقدير فعلي. إلا أن المطلوب أكثر من التبرير، وإنما هو البحث عن السبل الناجعة لملء فراغٍ روحي سببه منع التراويح الجماعية لسنتين متتاليتين. والمسؤولية قائمة على عاتق "المجلس العلمي الأعلى" و"المجالس العلمية المحلية" و"الأئمة" و"الوعاظ" "والفقهاء"… إلخ، للتهدئة من روع الناس، وتطبيب خواطرهم، وتوجيههم لما يملأ فراغهم من الدين. – متسائلٍ عن علة المنع: و"العلة تدور مع الحكم وجودا وعدما". فإذا كانت العلة هي ازدحام المصلين في المساجد، فإن غيرهم يزدحمون في الأسواق والحافلات والإدارات… الخ، مع أن الازدحام في المساجد أقل والاحتراز فيها أكبر. لقد عبر أصحاب هذا الرأي عن موقفهم متسائلين من غير طعن في الإدارة بما ليس فيها، من عداء للدين وتربص بالشعائر، أو عدم اكتراث لها على الأقل؛ بل تساءلوا عن العلة، ودعوا إلى مراجعة ما بنت عليه الإدارة قرار المنع، مع تعديل هذا القرار إن اقتضت المراجعة ذلك. – فرحٍ بالقرار نكاية في تدين العامة: وهؤلاء هم "الحداثويون" الذي اعتبروا التراويح بدعة من ابتداع عمر رضي الله عنه، والحقيقة أنها إحياء منه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي يوحد الناس ويجمع صلاتهم. فلا هم إلى استيعاب الفقه أقرب، ولا هم قدّروا مشاعر الناس وما هم فيه من آلام وأحزان. يعوضون برغد العيش وتعويضات "مراكز الاستشراق الجديد"، فلا يجدون أنفسهم في حاجة إلى "تعويض السماء". يعيشون على "فائض قيمة" المستغَلّين، ويكرهون أن يروهم في حاجة إلى "روح في عالم بلا روح". يصفونهم ب"منافقي رمضان"، وينسون أن "تهذيب رمضان" لوحده يكفينا عذاب عام من الجرائم والمخدرات والطلاق والدعارة والقمار… الخ! لا يُعدِمها رمضان، ولكنه يقلل من فعلها وتفشيها في الناس. – ناقمٍ على الدولة يصرف مواقفه تحت قناع "الانتصار للتراويح": وهؤلاء أشد سوءا من غيرهم، لأنهم دعاة فتنة، يسعون إلى سحب شرعية الدين من تحت قدمي الحكم لصالح الأجنبي، لا لصالحهم. فهم أضعف من أن تكون لهم استراتيجية في ميزان قوى أكبر منهم، ففضلوا أن يشتغلوا بالوكالة نيابة عن الاستعمار. منهم الواعون بذلك، وهؤلاء هم خونة الوطن. ومنهم من لا يعي صنيعه، وهؤلاء مغلوب على أمرهم بأوهامهم ووعيهم الزائف. والمطلوب هو الانتباه، شعبيا ورسميا، لمن يوظف الدين لصالح الاستعمار. يا ليتهم نصحوا وتساءلوا كما فعل غيرهم، ولا أحد طالبهم بتبرير قرار الإدارة. ولكنهم، أبعد من ذلك، وصفوا الدولة بما يستحيل أن تكونه. وصفوها بالعداء للدين والشريعة، ونسوا أنها بذلك ستكون ضد نفسها، وهو ما لا يفعله عاقل حريص على مصالحه. ومن هو ذا الأكثر حرصا على مصالحه من الدولة؟! إنها الأكثر تقديرا لها، وبالتالي الأكثر حرصا عليها. وما مصلحة الجماهير؟ مصلحتها أن تطالب بحقوقها، وأن تلح في ذلك، من غير أن تستهدف الدولة "جهازا وإيديولوجية"، وإلا لما بقي لأبناء البيت سقف يعيشون ويطورون معيشتهم تحته. الهوامش: (1): عبد الواحد بن عاشر، المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، فصل في أقسام الصلوات. (2): المختار مؤمن الجزائري ثم الشنقيطي، العَرف الناشر في شرح وأدلة فقه متن ابن عاشر"، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 2004، ص 214. (3): عبد الله بن أبي زيد القيرواني، متن الرسالة، باب في الصيام. (4): المختار مؤمن الجزائري ثم الشنقيطي، نفسه المرجع السابق، نفس الصفحة. (5): أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، مسالك الدلالة في شرح مسائل الرسالة في فقه الإمام مالك (شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 2006، ص 145. (6): المختار مؤمن الجزائري ثم الشنقيطي، نفسه، ص 214-215. (7): أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، نفس المرجع السابق، نفس الصفحة.