ننشر هذا الملف على هامش الخرجة الأخيرة "البئيسة" لقناة "الشروق" الجزائرية، والتي تعكس نفسية قصر المرادية جراء الانتصارات المتتالية التي حققتها الدبلوماسية المغربية في ملف الصحراء، خاصة ما يتعلق بتوالي فتح القنصليات بمدينتي العيون والداخلة ودلالات الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. ولفهم كيف يشكل المغرب عقدة لقصر المرادية، نقدم إليكم هذا الملف الذي يرصد بعض حروب الجزائر ضد المغرب في القارة السمراء، في مجالات مختلفة تمتد من السياسة إلى الرياضة، مرورا بالاقتصاد.
بمجرد أن تزور موقع وزارة الخارجية الجزائرية، ستوقفك كثرة البلاغات عن النشاطات المتسارعة لوزير الدبلوماسية الخارجية صبري بوقادوم، التي تتحدث عن زياراته المكوكية وتنقلاته بين بلدان القارة السمراء في الأيام القليلة الماضية، بداية بزيارته قبل أسبوعين إلى جنوب إفريقيا، ثم نيجيريا مرورا بكينيا والكونغو وجمهورية لوسوطو وأنغولا والسودان، قبل أن يختم جولته بالعاصمة الليبية طرابلس للقاء رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج، الذي سيترك منصبه قريبا.
والملاحظ أن بداية جولة وزير الخارجية الجزائري كانت من جنوب إفريقيا، الحليف الكلاسيكي لقصر المرادية، والتي كان الهدف الأول منها إضافة إلى زياراته الأخرى لبقية البلدان المذكورة، محاولة العودة إلى الواجهة من جديد، بعد الهزائم القاسية التي تلقتها الدبلوماسية الجزائرية من طرف المغرب، في السنين الأخيرة، وخاصة ما يتعلق بملف الصحراء، مما يعني أن الجزائر تريد تشكيل تحالفات جديدة في إفريقيا جنوب الصحراء لحفظ كبريائها، واستعادة «مجد» مفقود، كسبته من خلال رفعها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لشعارات تمتح من قاموس الحرب الباردة، كانت تجد لها صدى في بعض الدول الإفريقية الخارجة لتوها من غطرسة الإمبريالية التي أذاقتها الويلات.
الجزائريون أنفسهم لا ينكرون أن دبلوماسية بلادهم أصبحت في السنوات الأخيرة ضعيفة أمام نفوذ الدبلوماسية المغربية، سواء أتعلق الأمر بنفوذها في القارة الإفريقية التي كانت الجزائروجنوب إفريقيا يتحكمان فيها إلى عهد قريب، أو في القارة الأوروبية أو أمريكا أو بلدان الشرق الأوسط. فكل هذه الأقطار أصبحت علاقتها أكثر تميزا مع المغرب أكثر من الجزائر، ومما ساعد المغرب على ذلك ديناميته الاقتصادية التي جعلته يبرم مجموعة من الصفقات الاقتصادية المتعددة مع العديد من البلدان في مختلف القارات، أو اتفاقات للتبادل الحر، عكس الاقتصاد الجزائري الذي يقتصر نشاطه على قطاع المحروقات، المسيطر على 95 في المائة من صادرات البلاد نحو الخارج، حيث أن المحروقات لم تعد اليوم ورقة كبيرة للضغط على الدول بحكم وفرة الإنتاج العالمي وتعدد الأسواق، كما أن عائدات بيع المحروقات لم تعد بالشكل الذي كانت عليه إلى عهد قريب بعد تراجع أثمنتها، وهو ما أثر على سبيل المثال على حجم العملة الصعبة التي تتوفر عليها الجزائر، والتي أعلن قبل أسابيع وزير صناعتها فرحات أيت علي أن احتياطاتها تقلصت بشكل مهول جدا، لتبلغ في نهاية عام 2020 حوالي 29 مليار دولار فقط، بعدما كانت تبلغ في العام 2013 حوالي 194 مليار دولار، وبلغت في العام 2010 أزيد من 250 مليار دولار. وهو تقريبا نفس المستوى الذي كنا نجده في بلدان الخليج العربي. في الوقت الذي تبلغ فيه احتياطات المغرب حاليا من العملة الصعبة، إلى حدود شهر شتنبر 2020، حسب آخر أرقام بنك المغرب، حوالي 299.1 مليار درهم، أي 33.29 مليار دولار وهو ما يتجاوز ما تتوفر عليه الجزائر (29 مليار دولار).
سياسيا، أحرز المغرب في السنوات الأخيرة الكثير من التقدم في علاقته مع البلدان الإفريقية، وهذا على سبيل المثال ما يمكن أن نفهمه عندما نقارن عدد سفارات كلا البلدين في القارة السمراء، حيث أن الجزائر لا تتوفر سوى على 25 سفارة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء من أصل 53 دولة، وهو العدد نفسه الذي تتوفر عليه الرباط، علما أن الجزائر كانت في قلب المؤامرة على المغرب لخروجه من منظمة الوحدة الإفريقيَّة، في الوقت الذي ظل فيه المغرب غائبا عن المنتظم الإفريقي إلى أن عاد للاتحاد الإفريقي وأطلق استراتيجية الالتحام مع الامتداد العضوي في القارة السمراء.
وهكذا، فالكثير من المتتبعين يرون أن الجولات الأخيرة لوزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم، هي محاولة لإعادة الدبلوماسية الجزائرية إلى الواجهة بعدما تراجعت على مدى العقدين الأخيرين، ولم تعد مؤثرة بالشكل الذي كانت عليه في الاتحاد الإفريقي، أمام المد الكبير لدول إفريقية جديدة على رأسها المغرب، كما أن آليات التحالف بين الدول تغيرت وأصبح تركز على الاقتصاد بالدرجة الأولى، وهو ما لا يمكن للجزائر ذات الاقتصاد المنغلق على ذاته أن تعتمد عليه. الجزء الأوال: قضية الصحراء.. 250 مليار دولار بلا نتيجة مما لا شك فيه، أن الجزائر اليوم تعتبر الصحراء قضية حياة أو موت بالنسبة لها، فلا يمكن لدولة صرفت 250 مليار دولار على مدى ال 45 سنة الماضية لدعم جبهة «البوليساريو» طمعا في إنشاء دويلة تابعة جنوب المغرب، أن تتخلى عن هذه الرغبة هكذا بجرة قلم، فحسم نزاع الصحراء لصالح المغرب يعني بالضرورة نهاية النظام العسكري في الجزائر، وربما بداية الدولة المدنية في الجارة الشرقية.
هذا ما يمكن أن نفهمه من كلام وزير الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة، الذي أكد أن الجزائر تعتبر الصحراء المغربية قضيتها الأولى، حيث عبأت كل إمكانياتها خدمة لذلك، باستخدام مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية لتأكيد طرحها في هذا الملف، عبر تصريحات يومية للمسؤولين الجزائريين، وبيانات للمؤسسة العسكرية، وقصاصات يومية لوكالات الأنباء الجزائرية. مما يعني – حسب بوريطة – أن ما تقوم به الجزائر يسائلها بالدرجة الأولى حول ادعاءاتها بأنها مجرد ملاحظ، مضيفا أن هذه التعبئة، التي لم تقم بها، على حد قوله، حول أي قضية أخرى بما فيها القضية الفلسطينية، يثبت بالملموس أنها الطرف الأول في هذا النزاع، وأنها السبب في عدم طي هذا الملف.
ومن المؤكد أن ملف الصحراء كان على رأس أجندة صبري بوقادوم في زياراته قبل أسبوعين، إلى كل من جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا والكونغو ولوسوطو وأنغولا والسودان وليبيا. فالجزائر تحاول ألا تفقد أصدقاء آخرين لها في دعم أطروحة الانفصال، فمن أصل 53 دولة إفريقية لم تعد سوى 12 دولة إفريقية تساند الجزائر في تبني أطروحة الانفصال، وهي: أنغولا، موزمبيق، تنزانيا، إثيوبيا، أوغندا، بوتسوانا، زيمبابوي، موريتانيا، ناميبيا، جنوب إفريقيا، جنوب السودان ونيجيريا. في الوقت الذي سحبت فيه قرابة 20 دولة تبني أطروحة الجزائر، مما يعتبر ضربة قوية لدبلوماسية الجار الشرقي التي لم يعد يجاريها أحد. والدليل الأكبر على أن ملف الصحراء كان وراء التحرك الأخير للجزائر في إفريقيا، أن الزيارة الأولى لوزير الخارجية كانت لجنوب إفريقيا، التي لا تختلف مع الجزائر بشأن ملف الصحراء المغربية، حيث تريد الجزائر إعادة إحيائه داخل مؤسسة الاتحاد الإفريقي بمساعدة حليفتها بريتوريا.