في كلمة ألقتها بمناسبة الذكرى الأربعين لجلوسها على العرش، استخدمت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، مصطلحا لاتينيا لوصف عام 1992 لم يرق للكثيرين، إذ قالت إنه كان Annus horribilis أي “عام مروع”، نظرا لأنه شهد حالتيْ طلاق في العائلة المالكة، وكذلك نشر كتابيْن عن حياة الأميرة ديانا، التي كانت لا تزال على قيد الحياة آنذاك، بجانب اندلاع حريق مروع في قلعة ويندسور. لكن الملكة لم تكن تعلم أن الأسوأ لم يأت بعد. فبعد خمس سنوات، وتحديدا في 31 أغسطس/ آب 1997، لقيت ديانا حتفها جراء حادث مروري. وأدى بطء صدور رد فعل من جانب الملكة على الحادث، بالإضافة إلى عدم عودتها على الفور من قلعة بالمورال – وهي قصر ملكي في اسكتلندا – إلى تعرضها لهجوم عنيف من جانب الصحافة وعامة الناس على حد سواء، وهو ما جعل شعبية العائلة المالكة في بريطانيا تصل إلى أدنى مستوياتها خلال عقود. لكن المشهد يبدو مختلفا بعد 22 عاما، خاصة بالنسبة للملكة إليزابيث الثانية، التي يمكن القول إنها صارت، وهي في الثالثة والتسعين من العمر، الشخصية الأكثر شعبية في الأسرة المالكة، إلى حد جعل ثيابها وقبعاتها وحتى حُليها، محط اهتمام شديد من جانب الجيل الجديد. لكن ذلك لا ينفي بطبيعة الحال أن الفضائح لا تزال تلاحق أفرادا آخرين في العائلة، مثلما أكدت مقابلة تلفزيونية حديثة ظهر فيها الأمير أندرو للحديث عن صداقته بالملياردير الراحل جيفري إبستاين، الذي أُدين قبل وفاته بالتحرش الجنسي، وهو ما أثار جدلا واسعا حول صلته به. * تطبيقات المواعدة: كيف توفق أدوات إلكترونية بين الباحثين عن علاقات عاطفية؟ إذا ما الذي أدى لحدوث هذا التغيير؟ أولا؛ يعود ذلك جزئيا إلى مسألة بسيطة، ألا وهي طول عمر ملكة بريطانيا. فعلى مدار 67 عاما جلست فيها على العرش، خرجت الملكة إليزابيث الثانية سالمة من الكثير من الأحداث العاصفة، سواء كانت في صورة حالات طلاق أو وفاة أو حتى مآسٍ وكوارث وطنية. بل إن وجودها في حد ذاته بعث في نفوس الكثيرين شعورا بالاستقرار، وبلور اعتقادا مفاده أنه لا يمكن لأي شيء شديد الفظاعة أن يحدث، طالما هي على قيد الحياة. أما السبب الثاني في تغير الصورة، فيتمثل في مسلسل “ذا كراون” (التاج)، وهو ذلك العمل التلفزيوني الجذاب الذي تنتجه خدمة “نتفليكس”، وبدأ عرض حلقات موسمه الثالث مؤخرا، وهو الموسم الذي يمكن وصفه بأنه الأفضل حتى الآن، إذ تتناول أحداثه الملكة المحاصرة بالمشكلات (التي تجسد شخصيتها في هذا الجزء أوليفيا كولمان). ونراها وهي تواجه التحديات التي تترتب على وصولها إلى منتصف العمر من جهة، وكذلك تلك المتعلقة بمحاولتها التعامل مع الضغوط الناجمة عن الموازنة بين متطلبات أداء واجباتها وما تفرضه عليها تطورات الواقع المحيط بها من جهة أخرى. وتقول الصحفية الأمريكية هيذر كوكس، التي شاركت في تأليف رواية صدرت عام 2015 وتناولت الأسرة المالكة في بريطانيا: “غالبيتنا لم يعيشوا سوى في عالم تجلس فيه الملكة إليزابيث على العرش. أعتقد أننا جميعا كنا نأمل في أن يميط `التاج` اللثام بشكل أكبر عما هو مستور في ما يتعلق بها. فهي الشخص الذي شهد قدرا لا يُصدق من الأحداث التاريخية والتغيرات والاضطرابات والجنون والبهجة والمآسي. ولنحو سبعة عقود، ظلت عنصرا ثابتا ومستقرا، في غمار سنوات شهدت عددا لا حصر له من رؤساء الحكومات، ورؤساء الدول في العالم”. وفي حلقات الموسم الجديد، تتكرر فكرة أساسية مفادها أن الملكة تشكل صخرة ثابتة في قلب عالم يشهد اضطرابات بشكل متزايد، وذلك عبر مشاهد نراها فيها تتعامل مع رئيس وزرائها الجديد – في الجزء الثالث – هارولد ويلسون (الذي يؤدي دوره جيسون واتكينز)، وتواجه كارثة وطنية كبرى من وزن انهيار كومة ركامية من مخلفات العمل في منجم للفحم في قرية أبرفان. كما نشاهدها وهي تتعامل مع الآلام المتزايدة التي يكابدها طفلاها الأكبر سنا: تشارلز وآن، ومع مشاعر الاستياء المتصاعد التي تضمرها شقيقتها مارغريت (التي تؤدي دورها الممثلة هيلينا بونام كارتر). ففي غمار كل هذه التطورات، رسمت لنا كولمان بأدائها شخصية الملكة ملامح صورة امرأة تضع الواجب قبل أي شيء، وتحرص بشكل حازم على ألا يعلم أحد بطبيعة مشاعرها الحقيقية. لكن هل كان ذلك حقيقيا؟ ولأي مدى؟ وكما هو الحال دائما، من المستحيل الجزم برأي قاطع في هذا الشأن. لكن من الواضح أن المسلسل سيواصل إطلاعنا على أمور تخص الملكة وغيرها من أفراد العائلة المالكة، على نحو يُشعرنا بأننا نعرفهم عن كثب، بينما لا نعلم عنهم في الواقع أي شيء تقريبا. ويرى المؤرخ روبرت ليسي، الخبير في شؤون العائلة المالكة في بريطانيا والذي قدم المشورة أيضا للقائمين على مسلسل “التاج”، أن هذا العمل غيّر “بلا أدنى شك تصوراتنا عن الملكية”. وقد تم اختيار موعد صدور الكتاب الجديد الذي ألفه هذا الرجل بعنوان “مسلسل `التاج`: القصة من الداخل”، ليتزامن مع بدء عرض حلقات الموسم الثالث. ويقول ليسي إن المسلسل قدم حياة الأسرة المالكة في إطار من التسلية والترفيه بشكل ما، وهو أمر لم يكن قائما من قبل، مضيفا أن العمل سمح للمشاهدين كذلك باستيعاب “ما ينطوي عليه كونك فردا في العائلة المالكة، من تحديات وفوائد”. ويقول: “تشكل الملكية جزءا مهما للغاية من الهوية البريطانية. وأعتقد أن `التاج` يدفع الناس للتفكير في هذا الأمر. وتتمثل قوة الملكة في أنه يُفترض في نهاية المطاف – بموجب نظام الملكية الدستورية – أن تدافع عن سلطة الشعب، بما يجعل رؤساء الحكومات مهما بلغت قوتهم مرغمين على أن يُحاسبوا من جانب الشعب. وتتمثل المهارة الأهم والأكبر للملكة في تجسيد ذلك ببراعة. ويعبر المسلسل بإتقان عن التحدي الذي ينطوي عليه ذلك”. لكن المسلسل لا يتناول فقط المكائد التي تُحاك في الكواليس، مهما كانت البراعة التي يتم بها تجسيد ذلك على الشاشة، إذ أن أهم عناصر جاذبيته تتمثل في الطريقة التي يُضفي بها صبغة بشرية على أفراد الأسرة المالكة، وهو ما يتم في أغلب الأحيان بأكثر الأساليب إثارة للدهشة. ويقول ليسي في هذا الشأن إن تغطية الصحافة البريطانية لأنشطة أفراد العائلة المالكة تتسم بقدر كبير من القسوة. لا يطال ذلك الملكة، لكن من الواضح تماما أن هذه التغطية صدمت – مثلا – ميغان قرينة الأمير هاري نجل ولي العهد البريطاني. ويضيف: “ما يبرع المسلسل فيه هو تذكيرنا بأن هؤلاء ليسوا سوى بشر. فالحلقة الثانية من الموسم الجديد تركز على الأميرة مارغريت، وتصوّر المعضلة التي تواجهها، والمتمثلة في أنها مهمشة طول الوقت وتفتقر لأي دور حقيقي”، وهو ما جُسّد على نحو يدفع الناس للتعاطف مع شخصيتها. الأمر نفسه يتكرر – بحسب ليسي – في الحلقة الثالثة التي تظهر فيها الملكة “وهي تتجنب إبداء رد فعل انفعالي وعاطفي إزاء ما حدث في أبرفان، وهو ما سيثير ردود فعل بالتأكيد، لأنه يسمح للمرء حقا بأن يرى نقاط ضعفها ومكامن قوتها سواء بسواء. إذ ترى كيف تشكلت شخصيتها بفعل سنوات الحرب العالمية الثانية، بحيث تُبدي في كل الأوقات إحساسا مطلقا بالواجب الوطني وضبط النفس وضرورة التحمل في مواجهة الشدائد”. ورغم أن المسلسل يضفي طابعا إنسانيا على العائلة المالكة، فإن السؤال يبقى حول ما إذا كان قد غيّر – بشكل لا رجعة فيه – الطريقة التي ننظر بها إلى أفرادها أم لا؟ فهؤلاء كان يُقال عليهم عادة إنهم في منزلة أسمى من المشاهير في مجالات الحياة المختلفة، لكنهم يبدون الآن وقد باتوا – ببساطة – في نفس منزلة أولئك المشاهير، لكن في شريحة خاصة بهم في إطارها. ويعتبر المؤرخ غريغ جينر، الذي ألف كتابا تحت الطبع بعنوان “الموت شهيرا: التاريخ غير المتوقع للمشاهير من العصر البرونزي حتى حقبة الشاشة الفضية”، أن حدوث هذا التداخل بين أفراد الأسرة المالكة والمشاهير، يمثل “فكرة مثيرة للاهتمام، لأن عالم الملكية وعالم المشاهير مختلفان تماما، لكن يتم النظر إليهما الآن بالطريقة نفسها، على نحو متزايد”. ويقول جينر إن مسلسل “التاج” يبرز “عمق حالة العزلة والإبهام والغموض التي تكتنف حياة من ينتمون لأسر مالكة، لكنه يصوّر في الوقت نفسه – وإلى حد ما – حياتهم كأنها أحداث مسلسل تلفزيوني مطول ذي طابع ميلودرامي، وهو ما يجعلنا بالتبعية نصدق أننا نعرف معلومات عن الأسرة المالكة، أكثر مما يحدث في الواقع، ويجعل أفراد هذه الأسرة يبدون أشبه بالمشاهير”. وفي هذا الشأن، تقول الأستاذة الجامعية سيل سي أوتنيس – التي شاركت مع الأستاذ الجامعي بولين ماكلارين في تأليف كتاب “حمى الملكية: الأسرة المالكة في بريطانيا في عصر ثقافة المستهلك” – إن تصنيف “الأسرة المالكة في بريطانيا وتخصيص سمة مميزة لها يختلف بشدة عن التصنيف الذي يُعطى للمشاهير، بالنظر إلى أن هذا الفريق الأخير لا يحظى بتاريخ ثري يمكن له الاستفادة منه” كما يحدث لنظرائهم من سكان القصور الملكية. وتقول: “هناك بالقطع رابطة عاطفية يشعر بها الكثيرون مع الأسرة المالكة البريطانية، وهو ما لا يتسنى للمشاهير عادة أن ينعموا به”. وهكذا، فبينما يُبقي قصر بكنغهام على مسافة بينه وبين مسلسل “التاج”، وهو ما لم يُتِح لنا في أي وقت من الأوقات أن نعرف رأي أيٍ من أفراد الأسرة المالكة في أحداثه (أو ما إذا كانوا يشاهدونه من الأصل)، فإنه يدرك في الوقت نفسه أن بث ذلك العمل يساعد على تلميع صورة الأسرة. وتقول جيسيكا مورغان، التي تشارك هيذر كوكس في كتابة إحدى المدونات على شبكة الإنترنت، إنها تعتقد أن الأمريكيين “يميلون للنظر إلى الأسرة المالكة في بريطانيا على أنها جزء من مسلسل تلفزيوني ميلودرامي طويل يتواصل عرضه منذ أمد بعيد، ويحفل بأحداث دراماتيكية للغاية”. واعتبرت مورغان أننا ننظر إلى أفراد هذه الأسرة على أنهم ليسوا من ضمن الطبقة السياسية من الأصل تقريبا “نظرا لأنهم لا يستفيدون من الضرائب التي ندفعها (على عكس الساسة) وهو ما يجعل بمقدورنا اعتبارهم مجموعة ممن يحظون بالشهرة (على غير رغبتهم في بعض الأحيان). ولأننا نعرفهم منذ الصغر، نشعر أيضا بأن ثمة قدرا من الاستثمار (الذي كرسناه ونكرسه لهم من الوقت والاهتمام)، ونحس أن ذلك يتسم بطابع شخصي أكثر من نظيره الذي قد نشعر به تجاه نجم تلفزيوني” على سبيل المثال. في الوقت نفسه، يتفق جينر مع الرأي القائل بأن هذا المسلسل تسبب في حدوث تحول في تصوراتنا حيال الأسرة المالكة في بريطانيا، حتى رغم كون هذه التصورات المستجدة لا تزال قابلة للتغير بفعل الأحداث التي يشهدها عالمنا اليوم. ويقول: “من المحتم أن تروق للمرء الشخصيات التي يشاهدها في مسلسل تلفزيوني ما، مع مواصلته مشاهدة العمل”. ويضيف: “هناك شيء ما يجعلك مهووسا بتخيل ما الذي يحدث حقا بين جدران قصر بكنغهام، وأعتقد أن ذلك هو ما يجعلنا – على الأرجح – أكثر تعاطفا مع الملكة والأميرة مارغريت كذلك. وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى ما إذا كان المسلسل سيغير نظرة الناس للأمير تشارلز، الذي يمكن القول إنه شخصية أكثر إثارة للجدل” من كثيرين من أقرانه من أفراد العائلة المالكة. لكن هل سيُخلّف مسلسل “التاج” أي تغيرات دائمة على صعيد علاقتنا بالملكية؟ يقول ليسي في هذا الشأن بمكر إن هناك عنصرا هاما ربما يغفله النقاد، وهو “أننا نرى دائما في سياق الأحداث شخصيات قوية وطموحة، وهي تنحني أمام سيدة” في إشارة إلى الملكة إليزابيث الثانية. ويضيف: “أحد الأمور الأكثر جاذبية في هذا العمل أنه يتعين على كل هذه الشخصيات – مهما كان إحساسها بأهميتها – أن تذهب للملكة وتتحدث معها، وتسمع رأيها”. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture