اختار ابن كيران، زعيم العدالة والتنمية ورئيس الحكومة، توجيه مدفعيته الثقيلة نحو غريمه البام من العالم القروي، في أول لقاء لقيادة الحزب بشباب العالم القروي، في إطار الملتقى الأول لشبيبة العدالة والتنمية بالعالم القروي الذي عقد بأوريكا بمراكش. رسالة ابن كيران كانت واضحة، حيث اعتبر أن اختيار التوقيت والمكان ليس اعتباطيا، وإنما هي رسالة للعديد من الأطراف بأن وقت إدماج العالم القروي في الاستراتيجية الحزبية والتواصلية للحزب قد حان.
الحزب الإسلامي واستراتيجية إدارة صراع النفوذ في العالم القروي
لا تخفي قيادة حزب العدالة والتنمية رغبتها في استثمار الانتصار الكبير الذي حققته في انتخابات 4 شتنبر الماضي، التي مكنت الحزب من تحقيق انتصار انتخابي في أغلب المدن، وبالتالي ترؤس أغلبية المدن ذات الثقل البشري والتي تدير أيضا أزيد من 70 ٪ من الثروة المغربية، وهو ما أوضحه رئيس الحزب والحكومة في رسالته الأخيرة، فالحزب الذي قاد الشأن العام على مدى الأربع سنوات الأخيرة كانت كل المؤتمرات أو على الأقل تحليلات المراقبين السياسيين تؤكد حتمية تأثره بالقرارات السياسية التي اتخذت على مدار هذه السنوات، لكن كل ما حدث كان في الاتجاه المعاكس تماما، حيث تمكنت الآلة الانتخابية للحزب من تحقيق اختراق كبير في أوساط الطبقة وفي التربة التي كانت بعيدة عن القاعدة الانتخابية التقليدية المصوتة للحزب.
انتصار البيجيدي في الانتخابات الأخيرة لم يكن مفاجأة فقط للمراقبين، وإنما أيضا بالنسبة لقيادة الحزب، وهو ما عبر عنه ابن كيران نفسه "إنه انتصار يحمل تحديا تاريخيا للحزب وقواعده وقيادته في إدارة هذه المدن، واستيعاب تحديات ما بعد مرحلة هذه الانتخابات"، خصوصا أنها تأتي في ظرفية جد حساسة وصعبة وعلى بعد سنة تقريبا من انتخابات مصيرية هذه السنة.
المعطى الثاني الذي أفرزته هذه الانتخابات بالنسبة للحزب الإسلامي هو سيطرة غريمه السياسي البام على العالم القروي الذي مازال يخضع حسب المراقبين لمنطق الولاء للمخزن، والزعامات الفعلية المحلية، فيما بقي الإسلاميون بعيدين عن اختراق هذا المجال، الذي اعتبر تاريخيا مجالا خاصا بالسلطة والأحزاب الخارجة من عباءتها، والباحثة عن رضى المخزن في إطار تحالف بين هذا الأخير وطبقة الأعيان، وبقدر ما شكل هذا الانحسار تحديا بالنسبة لحزب رئيس الحكومة بقدر ما شكل طوق نجاة لخصومه السياسيين، وخصوصا حزب البام الذي استطاع ضمان بقائه قوة سياسية ليس فقط في العالم القروي، وإنما بعدما قاد أيضا انقلابا ضد منطق الحسابات الانتخابية ليسيطر على جهات قوية وذات نفوذ مالي كبير، لكن الأهم ليتم إنقاذ المستقبل السياسي لأبرز زعمائه إلياس العماري، ورئيس الحزب الباكوري والخليفة المنتظر أحمد اخشيشن الذي عاد من عالم النسيان ليقود جهة مراكش تانسيفت، ومن هنا يمكن فهم أبعاد عودة ابن كيران لتوجيه مدفعيته الثقيلة نحو البام: "أنا لست ضد البام كحزب.. ولكن ضد هذا الحزب لأنه يشكل خطرا على المغرب، وعلى الحرية والاستقرار". ابن كيران عاد من جديد ليضع أصبعه على الجرح المؤلم لغريمه السياسي بأن حزب إلياس العماري حزب التحكم بامتياز، وأنه يشكل خطرا حتى على هوية المغرب وعلى مؤسساته، وليوجه انتقادا مباشرا للرجل القوي بالحزب الذي اعتبر بأنه هو الذي يقود هذا الأخير وبأن الله وحده هو الذي يعلم ما يدور في عقله، وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول استراتيجية الحزب الجديدة لمواجهة تواجد وسيطرة غريمه السياسي على العالم القروي في محاولة لقلب المعادلة السياسية في هذا العالم على بعد أشهر من انتخابات مصيرية لكل الأطراف، وباعتراف رئيس الحكومة نفسه.
الانتخابات القادمة وهامش المناورة أمام العدالة والتنمية
تدرك قيادة العدالة والتنمية أن الانتخابات التشريعية القادمة ستكون مصيرية ليس فقط على مستوى إدارة العملية السياسية، إنما على مستوى المستقبل السياسي للحزب وبقائه في دائرة الحكم، وإذا كان الحزب قد استطاع حسب مصادر من داخل الأمانة العامة إدارة الحكومة وائتلافها السياسي بتوافق مع المؤسسة الملكية الحاكمة، فإن ذلك لا يعني بأي حال أن تواجده السياسي في دائرة الحكم مضمون، وأن عدم الانقلاب عليه أو محاولة الانقلاب عليه في الأشهر المتبقية من عمر هذه الحكومة أصبح مضمونا أيضا، فخصوم الحزب يقودون صراع وجود مع الإسلاميين المتواجدين في السلطة، وبالتالي فإن على الحزب إدارة الصراع في معاقل الخصوم وليس فقط في المناطق التي دخلت تحت نفوذه وتأثيره في إطار إفرازات نتائج انتخابات 4 شتنبر الماضي، ومن هنا يمكن فهم رسائل ابن كيران في خطابه أثناء تنظيم الملتقى الوطني الأول لشبيبته الحزبية، "إن استراتيجية التواصل المباشر مع القواعد هي الأساس، وفي العالم القروي خصوصا". بل إن ابن كيران طرح برنامجا تواصليا على قيادة الحزب وأمانته العامة، وأن تكون اجتماعات هذه القيادة بالمناصفة بين المدن والقرى، وأن على هذه القيادة في قمة السلطة الحزبية النزول للعالم القروي واللقاء المباشر بالقواعد والمتعاطفين معه من أجل استثمار التواجد السياسي للحزب في هذه المناطق. مصادر من داخل الأمانة العامة كشفت أن ما بدأ بنواحي مراكش إنما هو تجربة سياسية بدأت تتبلور داخل الحزب وقيادته منذ نتائج الانتخابات الأخيرة، التي أفرزت واقعا سياسيا يجب على الحزب استثماره إلى أبعد الحدود قبل ساعة الحسم في الانتخابات التشريعية المنتظرة في غشت القادم.
وتضيف نفس المصادر أن الحزب أصبح رقما سياسيا لا يمكن تجاوزه على مستوى المعادلة السياسية الداخلية، وسيكون من الخطأ ألا يستثمر الحزب هذا التواجد داخل العالم القروي، الذي يجب الاعتراف أنه أهمل في الاستراتيجية التواصلية للحزب خلال السنوات الماضية، خصوصا على مدى الأربع سنوات التي تولى فيها الحزب رئاسة الائتلاف الحكومي الحاكم.
صحيح أن الحزب كان يتبنى قبل وبعد وصوله للحكم سياسة تدريجية في التغلغل داخل الأوساط الشعبية، وفضل إبقاء العالم القروي بعيدا عن هذه الاستراتيجية في هذه المرحلة في إطار هذه السياسة، ومخافة إثارة أطراف سياسية تتخوف من هيمنة هذا الحزب الإسلامي أكثر مما يجب، وهذا ما اعترف به رئيس الحكومة نفسه: "إننا لا نريد الهيمنة على كل شيء، ولكن نريد أن نقدم إضافة للعمل السياسي ولمسيرة الديموقراطية"، بل إن ابن كيران عاد ليبعث برسائل واضحة لغريميه السياسيين اللذين خاض معهما صراعا عنيفا على مدى الثلاث سنوات الماضية، وهما حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، حيث اعتبر حزب علال الفاسي ضروري للاستقرار وللعمل السياسي، لكن على أساس أن يعود لثوابته، مستشهدا بزعيمه التاريخي علال الفاسي، وهي نفس الرسالة التي بعثت للاتحاد الاشتراكي لكن بدون القيادة الحالية، وهو نفس الموقف الذي كشفت عنه مصادر ل "الأيام" بأن الاستقلاليين والاتحاديين يمكن أن يكونوا حلفاء للحزب في المرحلة المقبلة إذا تغيرت سياسة قيادتهم، وهذا التصور ليس بعيدا عما طرحه أخيرا زعيم حزب التقدم والاشتراكية بإحياء الكتلة الديموقراطية في إطار كتلة تاريخية تضم الإسلاميين في حزب العدالة والتنمية الذين احترموا التزاماتهم السياسية مع الأحزاب خلال السنوات الأخيرة من إدارتهم للائتلاف الحكومي، والذين نجحوا أيضا في احترام المنهجية وقواعد اللعبة الديموقراطية ولم يسعوا للانقلاب عليها كما كانوا يتهمون في السابق من قبل خصومهم السياسيين.
لكن هل سيكون من السهل على الإسلاميين في إطار هذه الاستراتيجية التواصلية الجديدة تحقيق اختراق كبير في العالم القروي؟ والأهم هل سيتم السماح لهم بهذا الاختراق، خصوصا في ظل بقاء جزء كبير من التوجس من هذا الحزب؟ فالعملية السياسية بمعطياتها الحالية يمكن أن تتقبل تواجد الإسلاميين كفاعل سياسي قوي ومؤثر في قواعد اللعبة لكن لن تتقبل بأي حال من الأحوال أن يتحول إلى مهيمن على كل اللعبة، وأن يترك الهوامش فقط لمنافسيه السياسيين، وهذا هو التحدي الذي سيكون على البيجيدي مواجهته خلال الشهور الفاصلة عن انتخابات الحسم في غشت القادم، حيث يراهن زعيم الحزب وقيادته وأيضا قواعده على بقاء الحزب في صرح السلطة لضمان استمرار سياسته الإصلاحية في السنوات الخمس القادمة.