سبق لنا أن عرجنا في مقال سابق على موضوع المشروعية الاجتماعية لحراك الريف من خلال العودة إلى خطاب الملك بمدينة الحسيمة وذلك شهرا بعد أن ضربها الزلزال المدمرلسنة 2004، حيث انتهز الملك هذه المناسبة الأليمة لإعطاء الانطلاقة لمشروع طموح يروم إخراج هذه المنطقة من العزلة والهشاشة الطويلتين الأمد، وإلحاقها بقاطرة التنمية الوطنية، وذلك من خلال "وضع برنامج تنموي طموح، على المستوى المتوسط والبعيد، يهدف إلى "تشجيع الاستثمارات والمشاريع التنموية، المدرة لفرص الشغل، خاصة في قطاعات السياحة والصيد البحري، وبناء اقتصاد فلاحي عصري ومنتج، بما هو كفيل بجعل منطقة الريف قطبا للتنمية الحضرية والقروية، في جهة الشمال، مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني". وقد أكدنا بالحرف أن هذا الإعلان الحاسم الذي نادى به الملك سنة 2004 دون أن يتحقق منه الشيء الكثير هو اليوم كاف لوحده لإعطاء المشروعية الاجتماعية والتنموية الكاملة للحراك الذي تعيشه منطقة الريف، حيث طرحنا السؤال حول الأسباب التي جعلت مخطط تنمية الحسيمة ومنطقة الريف يتأخر11 سنة؟ سؤال لا بد من الإجابة عنه كمدخل تاريخي ومؤسساتي لفهم الإشكالات المستعصية التي يطرحها اليوم حراك الريف، حتى تتحمل الدولة مسؤوليتها في تدبير أزمات هذه المنطقة ذات التاريخ المُثقل، وفي تحديد مكامن الخلل في منهجية إدارة المشاريع والبرامج الملكية وتنزيلها. فعشر سنوات وما يزيد كانت لتكون كافية لتحويل وجه هذه المنطقة ذات المؤهلات الفلاحية والسياحية والجغرافية الاستثنائية إلى محطة من محطات المغرب الصاعد الذي نستشرف ملامحه، عوض أن تبقى رهينة التهميش والهشاشة والاحتقان الاجتماعي. كما عدنا في مقال تابع لنطرح سؤال"من المسؤول عن تأخر بلورة وتنفيذ البرامج التنموية لمنطقة الريف؟"،إذ بالإضافة إلى ال11 سنة التي انتظرها الريف ليتم الإفراج عن برنامجه التنموي، ويتم توقيعه أمام الملك يوم 30 أكتوبر 2015، بغلاف مالي يناهز 6,5 مليار درهم، فإننا جددنا التساؤل حول تعثر إنجاز هذه البرنامج سنتين إضافيتين بعد توقيعه، حيثلا تزال المشاريع المبرمجة حبيسة الرفوف، وكأن تمت رغبة قديمة، عنيدة ومستمرة في تأخير تنمية هذه المنطقة لأسباب يجب التحقيق والعمل على كشفها. حيث خلصنا إلى تحديد مسؤولية هذا التأخر في تواطئ منظومة متكاملة ومتعددة الأطراف، تتلاقى فيها المقاربة السلطوية المركزية لتدبير المجال الديمغرافي والجغرافي، ولوبي الفساد السياسي المرتبط بالحزب المعلوم والذي تم تكليفه بتنزيل هذه المقاربة السلطوية على مستوى منطقة الريف،ولوبيات الريع الاقتصادي والإداري التي تجعل من الفساد منهجا لها في تدبير الشؤون المحلية. هذين أهم بعدين يجب تناولها ونحن نحاول أخذ الدروس والعبر أمام هذا الحراك الذي استعصى على مقاربة العصا والجزرة التي تبنتها وزارة الداخلية بعد 8 أشهر من المظاهرات والاحتجاجات، حيث لم يكن مفاجئا في أول مناسبة يتطرق فيها الملك بشكل مباشر إلى دواعي هذه الظاهرة من خلال بلاغ المجلس الوزاري الذي ترأسه يوم الأحد الأخير، أن يستحضرهما في معالجة هذه الانتكاسة الكبيرة للدولة ومؤسساتها. البعد الأول يتعلق بحالة التأخر غير المفهومة التي طالت المشاريع التنموية لهذه المنطقة لما يفوق ال13 سنة، حيث عبر الملك بهذا الخصوص عن "استيائه وانزعاجه وقلقه، بخصوص عدم تنفيذ المشاريع التي يتضمنها البرنامج التنموي الكبير للحسيمة في الآجال المحددة لها"، حيث أعاد التذكير بتعليماته السابقة بأن لا يتم تقديم أمامِه"إلا المشاريع والاتفاقيات التي تستوفي جميع شروط الإنجاز، سواء في ما يتعلق بتصفية وضعية العقار، أو توفير التمويل، أو القيام بالدراسات، على أن تعطى الانطلاقة الفعلية للأشغال في أجل معقول". أما البعد الثانيفيتعلق بتحديد المسؤوليات عن هذا التأخر الفاضح والجزاءات المترتبة عليها، حيث أصدر الملك تعليماته لوزيري الداخلية والمالية، قصد قيام كل من المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية والمفتشية العامة للمالية، بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن، في أقرب الآجال". وحدها هذه المقاربة يمكن أن تضع الدولة أمام مسؤولياتها، والمؤسسات أمام واجباتها، ولعلها تكون محطة فارقة للقطع مع سوء التدبير والارتجالية والغموض الذي يلف العديد من المشاريع الملكية، التي يتم إطلاقها دون أن تستوفي شروط الإنجاز أو أن تتوفر لها إمكانات النجاح والديمومة. حيث لا تكاد تخلو جهة أو مدينة من مشاريع ملكية متعثرة، لا تحترم دفاتر تحملاتها ولا آجال تنفيذها، أو تم إطلاقها بداية بناء على أهداف ومعايير معينة، لكن يقع فيها التلاعب بعد ذلك وتسقط في شراك ذئاب الصفقات العمومية ولوبيات ريع الأموال العمومية. على أن هذه الخطوة الشجاعة، والتي لا بد ستكون دعامة لمحاولات إيجاد حل لهذا الحراك، بإعطاء إجابات صريحة وشفافة لأهل الريف الذين هم من يعاني أولا من كل هذه السنوات من النسيان والتهميش، يجب أن تذهب إلى مداها، وأن تحدد بكل دقة وشمولية المسؤوليات عن هذه الجرائم الفادحة في التدبير وتحمل المسؤولية، بما سيجعلها فرصة لضخ جرعة قوية في عقل الدولة والإدارة حتى لا تتكرر هذه المأساة، وحتى تصبح الدولة قادرة على الوفاء بالتزاماتها وتلعب دورها المنوط بها، بما سيدعم مشروعيتها وقوتها أمام المواطن، الذيأصبح يرفض عقلية "المن والصدقة" في سلوك الدولة، لأنه يعرف تماما أن من واجبها أن تقدم هذه المشاريع والخدمات على أحسن وجه، كأقل ما يمكن أن تقوم به.