أشرف الملك محمد السادس منذ ما يزيد عن سنة ونصف، على إطلاق برنامج التنمية المجالية لإقليمالحسيمة (2015-2019)، والذي أطلق عليه اسم "الحسيمة، منارة المتوسط". وقد جاء هذا البرنامج تنفيذا للتوجيهات المتضمنة في الخطاب التاريخي الذي ألقاه الملك بالحسيمة يوم 25 مارس 2004، لتدارك الآثار المدمرة للزلزال الذي ضرب المنطقة شهرا من قبل، حيث تطلع الملك إلى جعل هذه المناسبة فرصة لتخليص الريف من لعنة التهميش والفقر والتخلف التي ألقيت عليه منذ خطاب الأوباش، لإدماجها في المغرب الذي أراده باعتلائه العرش، مغرب متقدم، عصري وصاعد. وإذ تم أخيرا إطلاق هذا البرنامج التنموي الواعد، فلا بد أن نسجل التأخر الكبير وغير المفهوم الذي عرفه، حيث انتظرت ساكنة الريف ما يزيد عن عشر سنوات ليتم تنفيذ التعليمات الملكية التي أطلقها في هذا الخطاب، والذي قال فيه : "فقد أصدرنا تعليماتنا للحكومة، قصد الانكباب الفوري على إعداد مخطط تنموي مندمج وهيكلي،على المدى المتوسط والبعيد من أجل تأهيل إقليمالحسيمة، وإعمار منطقة الريف"، كما وعد أنه "سنقف شخصيا، سواء من خلال المتابعة الموصولة، أو الوقوف في عين المكان، على حسن إنجاز البرنامج الاستعجالي، واعتماد المخطط المتوسط والبعيد الأمد، الكفيل بجعل منطقة الريف، التي نوليها عنايتنا الفائقة، قطبا للتنمية الحضرية والقروية، في جهة الشمال، مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني". مر إذن ما يفوق عشر سنوات مَوَات والمدينة تنتظر مخططها التنموي المندمج والهيكلي، ومخططها المتوسط والبعيد الأمل، الكفيل بجعل منطقة الريف، قطبا للتنمية الحضرية والقروية، في جهة الشمال، مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني. واليوم وإذ خرج هذا المخطط إلى الوجود، فإنه لا يزال متعثرا على مستوى تنزيله وتنفيذه، وكأن تمت رغبة قديمة، عنيدة ومستمرة في تأخير تنمية هذه المنطقة لأسباب يجب التحقيق والعمل على كشفها، حيث لا بد من التساؤل على من له المصلحة في تعطيل البرامج التنموية لهذه المنطقة، والتي على ما يبدو تواطأت حولها منظومة متكاملة، تتلاقى فيها المقاربة السلطوية المركزية لتدبير المجال الديمغرافي والجغرافي، ولوبي الفساد السياسي المرتبط بالحزب المعلوم والذي تم تكليفه بتنزيل هذه المقاربة على مستوى منطقة الريف،ولوبياتالريع الاقتصادي والإداري التي تجعل من الفساد منهجا لها في تدبير شؤون المواطنين. هذا الخليط هو بالضبط المسؤول عما يقع اليوم بالحسيمة، وهو المسؤول عن وفاة الشهيد محسن فكري، لأن روح هذه المنظومة هي التحكم في رقاب الناس، والاقتيات على معاناتهم وتهميشهم، دون التفكير في كرامتهم أو الاكتراث بقيمة حياتهم أو مصالحهم. بل تجدها تبالغ في الإهانة كضريبة إضافية رخيصة لزيادة متعة الإمعان في إذلال الناس ودس حقوقهم. واليوم وبعد أن انفجر الريف في وجه هذا الفساد، تحاول هذه المنظومة في ارتباك واضح، ودون خيانة مقاربتها السلطوية والأمنية، تدارك ما فات من السنوات لإطلاق هذه المشاريع والتسريع بتنفيذها فيما تبقى لها من وقت ضائع أمام حجم المجهودات التي تبذلها لإخماد الاحتجاجات اليومية بالقمع والاعتقالات. في سياق كل هذه المعطيات، لا بد إذن من التأكيد على أن المسؤولية الرئيسية في تأخر تبني مشروع تنمية الحسيمة لما يفوق العشر سنوات، وكذلك في تأخر تنفيذ المشاريع التي تم تبنيها في إطار برنامج "الحسيمة، منارة المتوسط"، الذي تمتإعطاءانطلاقتهمنذ ما يقارب السنتين، تؤول بالأساس إلى وزارة الداخلية. فالجميع يعلم حجم هذه الوزارة والدور الذي ضلت تلعبه إلى حدود دستور 2011، الذي تراجعت بعده قليلا إلى الوراء، خاصة أمام قوة شخصية رئيس الحكومة السابق. ولكن ما فتأت رجًات الربيع العربيتهدأ قليلا حتى عادت مقاربتها السلطوية وهيمنتها بقوة لأجل التحكم في المشهد السياسي والانتخابي من جديد، بدءا من انتكاسة 2013، مرورا بالمحطات الانتخابية التي عاشتها البلاد، سواء المحلية سنة 2015 أو التشريعية سنة 2016، وانتهاء بالإخراج القيصري الأخير للحكومة. وما يؤكد هذه المسؤولية هو دور هذه الوزارة في تدبير البلاد وتتبع حاجيات الجهات والأقاليم والجماعات. فهي المسؤولة عن تقديم التقارير وتتبع الحالة العامة للبلد، ولها دور مركزي في بلورة البرامج التنموية وتنزيلها، خاصة بالنظر إلى خصوصيات قيادة وتدبير وتنزيل البرامج التنموية الحكومية، التي تطبعها الاندماجية والأفقية، وتداخل الفاعلين، إذ تلعب فيها وزارة الداخلية دورا مركزيا. كل ذلك بالإضافة إلى أنه على المستوى اللامركزي، كل المصالح الوزارية الخارجية تعمل تحت سلطة الولاة والعمال، فهم من يقود عمل الإدارة ويتتبع تنفيذ البرامج الحكومية بسلطة القانون. كما يعود إليهم تتبع التزامات الجماعات الترابية بخصوص تنفيذ التزاماتها من خلال سلطة التأشير على الميزانيات والحرص على إدراج كل ما يتعلق بالنفقات الإلزامية التي تعاقدت عليها هذه الجماعات الترابية في إطار المشاريع المندمجة التي يتم توقيعها. كل هذه المعطيات تدفعنا إلى النداء بضرورة تحمل الدولةلمسؤولياتها فيما وصلت إليه الأوضاع من احتقان وفقدان للثقة بين الدولة والشعب، إذ بات اليوم مؤكدا أن تدبير البلاد بالمقاربة الأمنية والتحكمية لا يمكن أن يأتي إلا بالكوارث، خاصة إذا ترامت عليهاالمصالح الفئوية والسياسوية. هذه الآثار الخطيرة التي يجب أن تدفع الدولة إلى التفكير جديا في فك الارتباط بين وزارة الداخلية ومجهودات التنمية والاستثمار في هذا البلد، وفي فتح المجال لمقاربة تجعل من الحكامة السياسية عمودها الفقري، تعطي للوزارات والمؤسسات القطاعية قيمتها الحقيقية بمنطق التخصص والفاعلية، وتخلق هيكلة إدارية جديدة على المستوى اللامركزي وفية لهذه المبادئ والمنهجية، بما يعيد وزارة الداخلية إلى أدوارها الطبيعية في الحفاظ على الأمن والنظام والسكينة. هذهحسب تقديرنا أحد أبواب الإصلاح الكبيرة في هذا الوطن، إصلاح الدولة والإدارة وهيكلتهما. أما ما دامت الداخلية تقوم بكل شيء، فالراجح أننا سننتظر سنوات أخرى طوال، لنكتشف أننا أضعنا زمنا ثمينا من الإصلاح والبناء، قد ينتهي بنا إلى أشواط أخرىأكثر عنفا من الغضب الاجتماعي لا حيلة معهالا قدر الله.