الواقع أنَّ كثيرا من الصّراعات في العالم تتغذَّى على وهم الهويَّة المنفردة الَّتي يمكن أن تتحوَّل إلى نار في الهشيم، ويمكن أن يتحوَّل وعي متعمّق بهويَّة مشتركة مع جماعة من الأفراد إلى سلاح قويّ يوجَّه بوحشيَّة ضدَّ جماعة أخرى، ومن ثمَّ يمكن أن نتحدث عن التَّطهير باسم العرق أو الدّين، بحيث تحدّد جماعة مَّا هويتها في هذا التَّعريف وخارج هذا التَّعريف لا وجود لها. تنبني مقاربتنا لمسألة الهويَّة على أساس ضرورة التَّمييز بين زاويتين: زاوية أولى تحدّد الهويَّة من الدَّاخل أي أنَّ التَّنوُّع الثَّقافي مبني على الإيمان بأهميَّة ثقافة فئة على أخرى وتفوّق ثقافة على أخرى (الدّين، اللُّغة)، وزاوية ثانية تحدّد الهويَّة على أساس الانفتاح على الفضاء العام وتقف عند أسباب التَّحيُّز الثَّقافي وتكشف عن مواطن الضَّعف في الخطاب السَّائد حول الهويَّة اليوم وطريقة التَّعامل مع قضايا المثليَّة الجنسيَّة، الجندر، المساواة، التَّهميش…لأنَّ هذه الفئات، الجماعات، والأقليات مختلفة من وجهة نظر أفرادها وكلّ جماعة لها ثقافتها الخاصَّة وتضطهد برفض المساواة، ورفض الاعتراف بالاختلاف وبقيمة الاختلاف. إنَّ الاعتراف بالاختلاف تجده بعض الدُّول أو الجماعات تهديدا للقيم المشتركة وتماسك المجتمع لكنَّ الصّراع الهويَّاتي اليوم مبني ليس على أساس الفرد ولكن على أساس المتغير الثَّقافي، لأنّ السّياسات تملى من خلال الهويَّة الثَّقافيَّة، والأكيد أنَّ هويَّة هذا الخطاب من الصَّعب تحديدها. لا ترتبط فكرة الهويَّة بالتَّماثل، ولكنَّ الأفراد يتميَّزون بخصائص بعينها عرضيّة، لذلك يضطر بعض الأشخاص إلى عدم تقديم أنفسهم حقيقة، ولكن يقدّمون أنفسهم بالطَّريقة الَّتي تلائم ثقافة المجتمع وقد أختار أو أرغم على إخفاء هويَّتي أو عناصر من هويَّتي الحقيقيَّة. إنَّ الهوية ليست عرب، أمازيغ، إسلام، مسلم، مسيحي، ولكنَّ الهويَّة بنيَّة مركَّبة معقَّدة التَّصنيفات وأنَّ أهميَّة هويَّة بينها لا تتطلَّب إقصاء أو محو الهويَّات الأخرى، فهل الأمازيغ عاشوا قهرا وتاريخهم في مرحلة معيّنة لا يشبه تاريخي كمواطنة في الجنوب؛ إنَّ التَّاريخ ليس هو أساس رؤيتنا لانتماءاتنا، لماذا؟ لأنَّ هناك مجموعة من الهويَّات المتقاطعة الَّتي يمكنني أن أنتمي إليها في نفس الأثناء، فبإمكاني أن أكون مغربيَّة ومواطنة فرنسيَّة ومن أصل جزائري ومشتغلة بحقوق الإنسان وعلمانيَّة ومدافعة عن الحقّ في الإجهاض وحقوق المثليين… وربَّما ليس لدي معتقد. هذه تصنيفات يمكن أن ننتمي إليها، وهناك انتماءات يمكن أن تغريني في مرحلة لاحقة. إنَّنا ننتمي إلى جماعات مختلفة بطريقة وبأخرى، وكلّ هذه الجماعات يمكن أن تمنح الشَّخص هويَّة يمكن أن تكون مهمَّة بالفعل. لا يمكننا أن نتحدَّث عن الانتماء المنفرد الَّذي يفرض عمليًّا أن ينتمي الفرد إلى جماعة واحدة أوَّليَّة بسيطة ومتجانسة، لأنَّ كلّ فرد في الواقع ينتمي إلى جماعات متعدّدة. إنَّ الهويَّة سلاح يستعمله البعض لتجاهل الارتباطات الأخرى، ويمكن أن تصبح معه الهويَّة لغمًا يساهم في إحداث التَّوتر الاجتماعي وينتج التَّعصُّب والتَّطرُّف. ولاشكَّ، أنَّ الاختلاف الدّيني خاصيَّة مركزيَّة للثَّقافات المتباينة، لذلك نرتكب خطأ عند محاولة رؤية الأفراد على أساس اتّجاه واحد "الانتماء الدّيني" ونتجاهل فيه كلّ العلاقات الَّتي يمكن أن تكون للفرد والَّتي بلا شكّ لها أهميَّة بالنّسبة إلى سلوكه وهويَّته وتصوّره لذاته. إنَّ كون الفرد مسلما ليس هويَّة يمكن أن تطغى على الهويَّات الأخرى بحيث تقرّر كلّ شيء يؤمن به، فمن المحتمل أن يكون للمسلم موقفا متشدّدا تجاه الكفر، ويمكن أن يكون مسلم آخر متسامحا دون أن يكون ذلك سببا في فقدان أي منهما لإسلامه، مثال ذلك تاريخ الاحترام المتبادل بين العرب واليهود. فكيف أنَّ المسلم المتدين يمكن أن يجمع بين معتقداته أو ممارسته الدّينيَّة وملامح أخرى للهويَّة والقيم الذَّاتيَّة مثل الموقف من القتال والحرب، أمَّا رؤية الانتماءات الدّينيَّة -لشخص مَّا- باعتبارها تبتلعه تماما فإنَّ ذلك شيء آخر. لذلك عندما تدعي جماعة إرهابيَّة أنَّ أعمالها تتأسَّس على وصايا إسلاميَّة وتحاول توسيع الأوامر الدّينيَّة، لكنَّها فاشلة في إثبات هويَّتها الإسلاميَّة، لأنَّه من السَّهل رؤية الفرق بين أن تكون لديها هويَّة إسلاميَّة وهويَّة تكرّس للإرهاب فيما تراه قضيّة الإسلام. ولعلَّ النَّظرة الضَّيقة لمسألة التَّنوُّع الثَّقافي قد أبانت عن فشلها من خلال إعطاء الأولويَّة للدّين على حساب العقل والاختيار، والهويَّة الدّينيَّة لا يمكن أن تكون لها أولويَّة على العقل، فتجاهل كلّ شيء إلاَّ الدّين معناه طمس حقيقة الاهتمامات الَّتي تحرّك النَّاس لتأكيد هويَّاتهم والَّتي تتجاوز الدّين بكثير. إنَّ وهم الهويَّة المنفردة والتَّعصُّب الاجتماعي أو الدّيني أو غيره يخدم أهداف العنف ويكون لفائدة من يديرون عمليات الإرهاب. لذلك إنتاج وإعادة إنتاج الهويَّة المنفردة قابل للاستغلال من طرف جماعات معيَّنة ويتمّ تنميتها ومن السَّهل أن تكسب المؤيّدين والأنصار وطبعا، الدّفاع عنها دفاع عن العنف ووضع الهويَّة في خانة ضيّقة تلغي الارتباطات الأخرى. وبالنَّتيجة، إنَّ الفرد يعتبر مواطنا من خلال مشاركته في الهويَّة الجمعيَّة؛ لأنَّها تدرك حسب جورج سيمل من خلال المشاركة في الثَّقافة. بمعنى أنَّ الهوّيَّات نسبيّة، لذلك تتضمَّن رؤية اختيار، وترتبط بسياقات اجتماعيَّة معيّنة ولا أهميَّة لها إذا كانت ثابتة وتعاش في حوار مع الآخر. لكن لا يجب أن ننسى أيضا أنَّ الهويَّة حريَّة ثقافيَّة فأن تعيش فئة مهمَّشة في دواليب مغلقة دليل على أنَّه يطلب منها التَّماثل ورفض لحريَّة الاختيار. إنَّه يجب أن ننظر إلى الهويَّة من زاوية التَّغيُّر الاجتماعي باعتبارها طموح إلى التَّكيُّف مع المستقبل ومع المستجدَّات المجتمعيَّة وتصوّر يجب أن يبنى على التَّحوُّلات الرَّاهنة والمستقبليَّة، لأنَّها معطى يقوم على الاختلاف كفعل مستمرّ في التَّاريخ. * أستاذة علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء