تشعر للوهلة الأولى أنهن مواطنات بلا مشاكل.. ابتسامتهن التي تغطي وجوههن.. وكلمات الرضا التي تجري على ألسنتهن كفيلة بأن تعطيك هذا الإحساس.. ولكن ما إن تغوص في تفاصيل حياتهن تعرف أن هذه الابتسامة وتلك الكلمات ما هي إلا ستارا لقصة معاناة اسمها "بائعات الخبز" في المغرب. هذه المعاناة جسدتها إحدى البائعات وتدعى شامة "29 سنة" بقولها: "يكفي أن تعرفوا أن يومي يبدأ قبل طلوع الفجر". وتستهل شامة يومها -كما حكت لإسلام أون لاين- بإعداد العجين في "بانيو" كبير (إناء بلاستيكي غالبا ما يستعمل في التصبين، ولكنه أصبح يستعمل أيضا في العجين)، ثم تضيف الخميرة والملح والماء الساخن، لتقوم بعد ذلك بعجنه جيدا. وتأخذ هذه المرحلة منها جهدا كبيرا، لكن شامة تقول: "أنا لا أتسرع فيها؛ لأنها هي التي تميز بائعا عن آخر، وأنا أحاول ما أمكن أن أقوم بذلك بشكل سليم حتى لا أخسر زبائني". وبعد هذه المرحلة يتعين عليها تقطيع العجين على شكل كريات صغيرة ومتوسطة الحجم؛ لتقوم بلفها وبسطها على طاولة خشبية، وفرش ثوب نظيف عليها، وتتركها تختمر لمدة ساعة، لتكون جاهزة لطهيها بالفرن. من البيت إلى الخباز رافقناها إلى الفرن البلدي وهناك وجدنا طوابير من النساء قدمن أيضا إلى هناك لنفس الغرض، الملاحظة الجديرة بالانتباه هناك أنه رغم الزحام كانت النساء تتجاذب مع بعضهن أطراف الحديث، بروح لم تخل من المرح والدعابة، وهو ما فسرته بائعة خبز تدعى السعدية بقولها: "إذا لم نتحمل بعضنا، نحن اللاتي نعاني نفس الظروف، فمن يتحملنا". وتذكر أن زميلات المهنة ساعدنها كثيرا في متابعة الخبز الخاص بها، لحين ذهابها إلى المنزل لرعاية أبنائها وتوصيلهم لمدارسهم. وتمثل هذه الروح التي تسري بين العاملات مصدر سعادة لإبراهيم صاحب الفرن، الذي يمارس عمله دون مشاكل، لكن مصدر السعادة الأكبر بالنسبة له أن هؤلاء النسوة يمثلن مورد رزق جديد بالنسبة له. ويقول ل "إسلام أون لاين": "الحمد لله هذه المهنة أصبحت تدر علينا ربحا وفيرا، وبشكل يومي، وهؤلاء النسوة أحييهن؛ لأنهن يمثلن المرأة المغربية الحرة التي تناضل من أجل لقمة عيشها وأبنائها". ويضيف "منهن المطلقة والأرملة، بل ومنهن من يرفض زوجها الخروج للعمل، ويظل يومه نائما ينتظر رجوعها لترمي له ببعض الدريهمات". "الكروسة".. نعمة ونقمة بعد خروج الخبز من الفرن تبدأ مرحلة البيع؛ حيث تقوم البائعات بوضعه في "الكروسة"، وهي عربة حديدية تقليدية بعجلتين يقمن بجرها باليد، وهذه العربة تقول عنها شامة: "هي من الحسنات التي أنعم الله بها علينا، بحيث كنا في السابق نتعذب في حمل هذا الكم الهائل من الخبز على أكتافنا، أما الآن ولله الحمد أصبحت (الكروسة) تخفف عنا كثيرا من العناء". وعلى قدر سعادة رحمة صديقة شامة ب"الكروسة"، إلا أنها تعتبرها نقمة -أيضا- فإذا كانت أراحتهم من حمل الخبز على الرأس، فإنها سهلت أيضا للبوليس (الشرطة) أخذ رزقهم بكل سهولة، بحجة أننا ليس لدينا رخصة للبيع. وتتساءل رحمة: إذا كانت الشرطة ترى أننا نأتي خطأ، فما الصواب كي نأكل لقمة عيشنا من الحلال، ونتغلب على ظروف حياتنا الصعبة؟. بائعات ومعلمات ومن بعد تساؤل رحمة تنطلق فضيلة لتحكي الظروف التي جعلتها تمتهن هذه المهنة، فبعد وفاة والدتها التي كانت تعمل بها، أجبرها الفقر والعوز على ترك الدراسة في مرحلة البكلوريا لتخرج إلى الشارع من أجل الإنفاق على شقيقتها. غير أن فضيلة تحاول حاليا أن تحقق أحلامها التي حرمها منها الفقر في شقيقتها، فلا تكتفي برعايتها ماديا، ولكن يكون لها نصيب من الرعاية الدراسية بعد يوم عمل شاق؛ حيث تقوم بمساعدتها في دراستها. وتقوم السعدية بنفس الدور مع ابنتها، وتقول: "رغم أنني لم أحز على مستوى دراسي رفيع، فأنا من يقوم بالمذاكرة لابنتي الصغيرة، وهي الآن في المستوى الخامس الابتدائي، والحمد لله متفوقة على أقرانها، وتعتبرني معلمة جيدة". والسعدية -كما حكت لإسلام أون لاين- اضطرت للخروج إلى العمل من أجل مساعدة زوجها الذي يحصل من عمله على دراهم قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع. الزبائن أنواع ورغم هذه الظروف القاسية، التي تضاعفها الشرطة بملاحقتها لهن، فإن بعض الزبائن يضاعفون هذه المعاناة، فيأتون -كما تقول السعدية- من أجل المعاكسة والتضييق، مما يضطرنا في بعض الأحيان للالتجاء إلى أصحاب الدكاكين المجاورة لطلب العون والمساندة. وفي مقابل كل هذه الصعاب تعترف بائعات الخبز بوجود بعض الزبائن المحترمين الذين يقدرون عملنا، وتمثل كلمات الإطراء التي نسمعها منهم، دافعا لنا من أجل الاستمرار في مواجهة الصعاب.