قبل انهيار الأنظمة التي كنت تتربع الأحزاب الشيوعية على قمم قيادتها في أوروبا الشرقية وفي الإتحاد السوفييتي السابق كان من الصعب التصديق أن ما حصل يمكن أن يحصل !! فالمراقب من بعيد كان يعتقد أننا أمام قلاع حصينة ، ماْ لاْ يسمح حتى للزلازل أن تؤثر بها ولو وصلت قوتها إلى 100 درجة على مقياس ريختر !! إلا أن هذه الصورة سرعان ما تلاشت وتبيّن أنها كانت قِلاعا من جليد سرعان ما بدأت بالذوبان مُجرّد أن ارتفعت الحرارة قليلا !!.الأمر لم يكن مُفاجئاً للمتابعين عن كثبٍ ويعرفون حقيقة الأوضاع في تلك البلدان وما آلت إليه الأمور قبل زمنٍ من الانهيار !! فهذا لم يحصل دفعة واحدةوإنما كان حصيلة سنين طويلة من التآكل والترهُل والبيروقراطية والروتين والجمود في مؤسسات تلك الدول ، وكان الأمرأشبه ببناءٍ يتآكل رويدا رويدا من داخله وخارجه حتى ضعُفَ كثيرا وفي أول عاصفةٍ قوية تراكم فوق بعضه بعضا !!. كنا نصدِّق ما ترويه وتنقله وسائل الإعلام في تلك البلدان وما نقرأه في الكتيبات والكتب عن الوحدة الوطنية وتلاحم الجماهير وتماسكها وإيمانها العميق بالأحزاب الشيوعية (القائدة) والتفاني في خدمة الأوطان والتصدِّي للامبريالية العالمية عدوة الشعوب وناهبة خيراتها وثرواتها !! ولكن كل هذه الصورة تلاشتْ كما لو كُنّا أمام سحابة من الضباب تحجب الرؤية ، فتأتي رياح غربية عاتية لِتبدّدها وتنجلي الرؤية تماما ويبانُ كل شيء على حقيقته !!. كم كانت الصدمة لي كبيرة ومحزِنة حينما وصلتُ إلى لؤلؤة الدانوب (بودابست) عاصمة إحدى البُلدان الشيوعية في عام 1984(المَجَر) وبدأتُ بالاحتكاك بالناس ، لاسيما شريحة الشباب منهم، وبدأتْ الحقيقة تنجلي أمامي عارية دون أي غطاء أو تستُّر !! شعرتُ بالإحباط لأن هذه البلدان بالنسبة لي كانت بلدانا صديقة وداعمة لنا ولقضايانا العربية ونلتقي سوية على التصدِّي للامبريالية العالمية ،عدوّة الشعوب وناهبة ثرواتها !! هكذا كانت الصورة بذهني ، ولكن سرعان ما اكتشفتُ أنني كنتُ أعيشُ وهما وأن الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان لم تكن موضع حب الشعوب ولا تسكنُ لا بقلوبها ولا بجيوبها ، وأن الفكر والعقائد والمبادئ والأهداف التي قامت عليها تلك الأحزاب ليست موضع إيمان واهتمام سوى لأعضائها ، بل ليس كل أعضائها، لأن الغالبية دخلتها للمنفعة والانتهاز والمصلحة الشخصية ، وليس إيمانا بكل ما تقدّم من مبادئ وأهداف !! وأن هناك كراهية للسوفييت شديدة مقابل إعجابٍ وحبٍّ كبيرين للغرب ، لاسيما الولايات المتحدِّة !! وكانت البنات المجريات يتسابقن للتعرُف على شخص أسود يعمل حارسا في السفارة الأمريكية حينما يذهب أولئك للسهر في (ديسكو) بجانب فندق الهلتون على قمة القلعة وسط بودابست !!.. عجِزتْ الأحزاب الشيوعية عن تجديد حيويتها وتكييف فكرها وثقافتها وخطابها ونهجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع روح التطور التي يفرضها تطور الحياة ذاته !! وبما أنها كانت الأحزاب الوحيدة القائدة لدولها ومجتمعاتها ونقاباتها ومنظماتها فكان لا بُدَّ أن ينعكس التجمَّدَ داخل هذه الأحزاب على كل الأوضاع في تلك البلدان ، على الأصعدة الاقتصادية والتنموية والصناعية والمعيشية ، والبيروقراطية والروتين والترهُّل والفساد والمُراوحة بذات الدائرة !! فقد كانت بمثابة الدِماغ الوحيد للدولة ، ولنا أن نتصور ماذا يحلُّ بجسم الإنسان وصحته إن انعطب الدماغ قليلا !!.. كان النهج يقوم دوما على إخفاء الحقيقة والتحدُّث بعكسها ، وقد اتضّح لاحقا أن كل حديث عن الوحدة الوطنية في تلك البلدان وتلاحم شعوبها لم يكن سوى تغطية على الحقيقة المُرّة ، لاسيما في جمهوريات الاتحاد السوفييتي ، حيث كانت العصبيات القومية والعُرقية والدينية تعشعش في عقول وقلوب الناس ، وليست أفكار كارل ماركس وأنجلز ولا أفكار لينين ولا روزا لوكسمبورغ العابرة للقوميات والأعراق هي من كانت تبني الأعشاش في تلك العقول والقلوب !! وها هي تلك البلدان التي تفرّقت على أسس قومية وعرقية تحتفل كل عام بتفكك الاتحاد السوفييتي ونيلها الاستقلال إثر ذلك .. وأصبحت هذه المناسبة لهم هي (عيد الاستقلال) ..وأول من كان يُحييه هم من كانوا قيادات شيوعية في تلك البلدان ومنهم من ما زال يحكم ، بعد أن تخلّى عن الفكر الشيوعي الماركسي اللينيني كما (إلهام عالييف ) نجل القائد الشيوعي الكبير ( حيدر عالييف ) الذي كاد أن يكون الشخص الأول في الاتحاد السوفييتي ، وبعد الانهيار تحوّل إلى متعصِّب لطورانيته التركية ، حتى بات الرئيس التركي أردوغان يُردّد مقولة (حيدر عالييف) أنهما شعب واحد في دولتين !!.. الأحزاب الشيوعية هي أول من تسبّب بالانهيار ، لأسباب عديدة ، منها : أولا : هذه الأحزاب كانت هي الحاكمة ، وهي من يقرر كل شيء في بلدانها ، وكانت هي دماغ الدولة الوحيد، ولذا كان لا بُدّ من انعكاس أية سلبيات داخلها وأية ترهُلات وجمود على كافة مناحي الحياة ، كما أسلفتُ ، في ظل غياب عقلية التجديد !!. ثانيا : انخراط أعداد هائلة في عضوية تلك الأحزاب بغية المصالح الشخصية والمنفعة الخاصة ، وبَدا (الكمُّ) أهمُّ من (الكَيف) ، حتى بات الماركسي الصحيح والصادق مع مبادئه يشعر أنه غريب عن الحزب !!. وكان أولئك ( الدُخلاء) ينخرون من قلب تلك الأحزاب ، كما كانت الفأرة تنخر في أسفل سد مأرب العظيم حتى انهار أخيرا بالكامل ، ودخلت عملية انهياره كتب التاريخ !!. بل بعض القادة الشيوعيين توهّموا فعليا أن فكرهم دخل عقول وقلوب الجميع وان حزبهم بات مُلْكا للجميع فلا باس من فتحِهِ على مصاريعه وتحويله إلى نادٍ يقبل بعضويته كل من يتقدم بطلب العضوية !! فكان الأمر طبيعيا أن تفقد تلك الأحزاب جوهريتها وتتخلخل بنيتها التنظيمية والعقائدية والفكرية وتتحول إلى (تجمعات وليس أحزابا) لا جامع بين أعضائها سوى أنهم يتظاهرون بالولاء لقياداتهم الحزبية ويقومون بتنظيم المهرجانات بالمناسبات والمحافظة على مصالحهم !!. ثالثا : غياب حرية التعبير والنقد (ليس من طرف الصحافة أو الإعلام ) بل حتى من داخل تلك الأحزاب ، مما كرّس السلبيات والأخطاء والضعف والترهُّل ، واقتصار اتخّاذ القرار على أفراد وليس منظومة حزبية جماعية وآراء وقرارات جماعية ناجمة عن حوارات ونقاشات على كافة المستويات الحزبية !! فبات هناك مُقرِّر ، ومتلقِّ فقط ، وهذا ولّد شعور باللامبالاة ومزيد من الجمود!!.. رابعا : غياب الإرادة الحزبية (لدى غالبية تلك الأحزاب) في انتخاب القيادات الحزبية التي كانت تُعيَّن ، أو تُفرضُ ، بقرارات جوهرها المحسوبيات ، وكانت القواعد الحزبية آخر من يعلم بالقيادات ، بدل أن تكون هي من يصنع تلك القيادات من خلال انتخابات حزبية ديمقراطية شفافة ، على كافة المستويات ، يتحقق فيها تكافؤ الفُرص وتعطي لكل عضو في الحزب حقه وحجمه ويُحتَرَم تاريخه وقِدَمَهُ الحزبي من قبل القواعد الحزبية التي تدرك من يستحق أن يُنتَخَب ومن لا يستحق ، من خلال نضال كل عضو في الحزب وصدقهِ، ومدى اهتمامه بشئون الناس ومعايشته لمعاناتهم ووقوفه ضد الأخطاء والسلبيات وجرأته في النقد الإيجابي والبنّاء والابتعاد عن التمسُّح والتملُّق على حساب المصلحة الحزبية والعامة !!. هذا بالطبع ما أدّى إلى تهميش خيرة الكوادر الحزبية ، وشجّع على الانتهاز والنفاق، والتملُّق لِمن بأيديهم صلاحيات الترشيح والتعيين وإدارة الظهر للقواعد الحزبية ، وبروز قيادات متسلسلة غالبا ما تتسم بالضعف والهُزال ، عاجزة عن التعبير عن طموحات وإرادة القواعد الحزبية والجماهير، وتفتقد للتاريخ الحزبي والنضالي وسط تذمُّر القواعد الحزبية وامتعاضها وتململها دونما أية فائدة !! بل بدا وكأن الأحزاب الشيوعية باتت مرتبطة برموز مُحدّدة ( وبعض من هم في دائرتها) كما كان حال ستالين وبريجينيف في الإتحاد السوفييتي ، وإيريش هونيكر في ألمانيا الشرقية ، وتيودور جيفكوف في بلغاريا ، وكادار يانوش في هنغاريا، وغوستاف هوساك في (تشيكوسلوفاكيا) ، ونيكولاي تشاوسيسكو في رومانيا ، وميشيسلاف راكوفسكي في بولونيا !!. خامسا : فشل تلك الأحزاب ،لاسيما في الاتحاد السوفييتي، في بناء (الإنسان) بناء سليما يقوم على أساس الانتماء للدولة والوطن بدل استمرار التعصّب للأعراق والمذاهب والطوائف .. الإنسان الذي يرى نفسه من خلال وطنه ، ولا يرى وطنه من خلال نفسه أو جماعته أو عرقه أو طائفته أو قبيلته !!. فالانتماء لكل تلك المكوِّنات ليس خطأً وليس مشكلة ، وإنما المشكلة هي في التعصُّب لتلك المكونات !! وهناك فرق بين أن تنتمي وبين أن تتعصّب !!.. سادسا : ضعف الروح الماركسية عموما لدى أعضاء تلك الأحزاب للتناقضات في البنية الفكرية لِمَن انضموا إليها، ، وبسبب الفشل في تلبية طموحات الجماهير في حياة أفضل وتحسين ظروف الحياة ، لاسيما في ظل الضخ الإعلامي الهائل للغرب عن طبيعة الحياة في الغرب وتصويرها كأنها فردوس الله — المفقود في الدول ذات الأنظمة الشيوعية !! وهذا ما عمّق لدى شعوب تلك البلدان الرغبة بالانتقال إلى أنظمة أخرى تحاكي أنظمة الغرب !! الأمر الذي رأيناه في سرعة التوجُّه للانضمام لعضوية الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي !!.. سابعا : انعدام التنافسية الحزبية في المجتمع ، بل حتى داخل تلك الأحزاب، جعلها تسترخي ، لشعورها أنها أمسكت بمقاليد السلطة والقرار ، وكل شيء ، ولا يُوجَد من يُهدَّد سلطتها من أحزاب وقوى داخلية ، مما أدى إلى البطء والتمهُّل في معالجة أو إصلاح أي شيء أو خلل، في ظل تبعية النقابات والمنظمات لتلك الأحزاب وتلقي أوامرها منها !! ولم تُدرِك أن الزمن لا يُمهِل أبدا وعليك أن تخوض دوما سباق التحدِّي معهُ !!!.. ثامنا : تراكم الأخطاء والسلبيات وسط بيئة من اللامبالاة وضعف الشعور بالمسئولية ، ودون أن يجرؤ أحد على رفع الصوت بوجهها ، بل على العكس كان دوما هناك طابور من الانتهازيين الذين يُزيّنون الأخطاء ويضفون عليها حِلّة من الجمال والجاذبية ، ويجدون لها التبريرات تحت ذريعة حماية الاشتراكية أو الدفاع عنها ، وهذا كان قمة التخريب والترسيخ للأخطاء وتشجيعها ، بدل أن يكون الأحرى والأولى ( بالشيوعي) أن يكون أول من يرفع الصوت ويقف بوجه كل السلبيات والأخطاء ووضْع حدٍّ لها حتى لا يستغلها خصومه ويستثمرون بها ويزايدون عليه بحرصهم على المصلحة العامة !! وكان الخطأ الأكبر أن المتملقين هم من كانوا يتبوأوون مواقع النفوذ ، وإن وُجِدَ صاحب كلمة صادقة وجريئة يتم تهميشه وإقصائه واتهامه!! فانعدمت ، أو ضعُفت جدا الروح الحزبية والروابط الحزبية ضمن الحزب الواحد، وساد الإحباط !!. تاسعا : الفجوة بين القيادات الحزبية ( التي تمتعت بحياة خاصة) وبين القواعد من جهة ، وبين الجماهير من جهة أخرى!!.. عاشرا : الالتفات للمصالح الخاصة والمكاسب على حساب المصالح الحزبية والجماهيرية !!… حادي عشر : تصرُّف تلك الأحزاب في الدولة وكأنها مالكة لها ، فأصبحت الدولة هي الحزب الشيوعي الحاكم ، والحزب أصبح هو الدولة يضع من يشاء في أي مكان يشاء ويحدد سقف كل شخص بالدولة ، فهذا ارتفاعُ سقفهِ مترٌ ، وذاك مترٌ ونصف ، وغيره مترين ، والآخر سقفهُ مفتوح ، على أساس الولاءات والمحسوبيات وليس الكفاءات والمؤهلات بين أعضاء الحزب أنفسهم !!. ومن هنا يمكن القول أن تلك الأنظمة الشيوعية لم تبني دول مؤسسات تحكمها القوانين والأنظمة والمعايير، وإنما بَنَتْ دولا أمنية ، فكان الغضب الشعبي كبيرا والانهيار سريعا!!. ثاني عشر : تحوّل تلك لأحزاب في مكان ما إلى أحزاب موظفين ، فما أن يترك العضو في الحزب الشيوعي وظيفته بالدولة حتى يبدو وكأن علاقته انتهت مع الحزب والنضال، ولا يعود يُسْئل عنه !! وهذا كان عامل إضعاف لها أيضا !!.. هذه عوامل مُختصرَة جدا لأسباب انهيار الأحزاب الشيوعية وأنظمة دولها ، وليست كل الأسباب ، التي أدّت إلى فقدان تلك الأحزاب إلى مصداقيتها وهيبتها أمام شعوبها وعجزها عن القيام بإصلاحات (وليس تحولات) سياسية واقتصادية واجتماعية فكان لا بُدَّ مما كان !! ولذا لم تسعى تلك الأحزاب أن تقف في وجه استحقاق التحولات التي حصلت باتجاه الديمقراطية (باستثناء ما حصل في رومانيا) فوافقت فورا وانخرطت في اللعبة الديمقراطية بعد تغيير أسماء أحزابها !!.