حينما التقيت رجب الطيب أردوغان رئيس الوزراء التركي للمرة الأولي صيف العام 1994 كان رئيسا لبلدية اسطنبول ، وقد شعرت من خلال لقائي الأول به أني أجلس مع رجل دولة من الطراز الرفيع وليس مجرد رئيس بلدية واحدة من أكبر المدن وأكثرها اكتظاظا بالسكان في العالم ، وقد استطاع أردوغان خلال سنوات رئاسته القليلة لبلدية اسطنبول أن يقضي علي كافة مشاكل المدينة ويحولها إلي واحدة من أجمل مدن القارتين التي تتمدد عليهما آسيا وأوروبا ، وأذكر أني في نهاية لقائي معه قلت له وقد قام مصرا ليودعني خارج مكتبه ; أتمني أن أجري حوار القادم معك وأنت رئيس للوزراء; ابتسم وشكرني وهو يشد علي يدي بابتسامة ، لم تكن مجاملة مني وإنما كانت رغبة تحققت بعد عشر سنوات ..والتقيت أردوغان أكثر من مرة وهو رئيس للوزراء كان آخرها في السادس من نوفمبر من العام 2005 وكانت بمناسبة مرور ثلاث سنوات علي تولي حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان السلطة بعد الانتخابات البرلمانية التي وقعت في تركيا في 3 نوفمبر من العام 2002 ، سألت أردوغان قائلا له : هل يمكن أن تقدم لي بالأرقام والإحصاءات حجم الإنجازات التي قمت بها خلال سنوات من تولي السلطة في تركيا ؟ قال أردوغان وهو في قمة الشعور بالثقة : ; عندما تولينا مقاليد الحكم كانت نسبة التضخم في تركيا 34% ولكن خلال فترة الثلاث سنوات الأخيرة انخفضت هذه النسبة إلى ما دون 8% وآخر نسبة هي 7.52% ; وحينما سألته كيف استطاع أن يحقق هذا خلال ثلاث سنوات فقط قال أردوغان : في هذا الموضوع توجد علاقة مع مُعدل الفائدة وعدم التراجع أبدا عن البرنامج الاقتصادي المطبّق والالتزام بالنظام المالي وهي أمور تصرفنا بحساسية كبيرة فيها، مثلا عندما تولينا الحكم كانت معدلات الفائدة عالية جدا، نسبة الفائدة الاسمية كانت 70%، أما الآن فانخفضت إلى 14% والفائدة السوقية كانت في حدود 34%.. 35%، أما الآن فأصبحت تتراوح ما بين 8%، 9%، 7% وهذا جعل نسبة النمو الاقتصادي في تركيا تصل إلى 8% في السنوات الثلاث الأخيرة وهذا جلب الاستقرار وإلى جانب ذلك هدفنا لهذا العام الوصول إلى نسبة 5% وسنحققه أيضا بنفس الشكل، أما حجم الديون فقد كان 91% أما الآن فقد انخفض إلى ما يُشكل نسبة 63.4% فقط من الناتج القومي الإجمالي وصادراتنا وصلت إلى مستوى تفوق فيه الاثنين وسبعين مليار دولار وأصبح حجم تجارتنا الخارجية في حدود مائة وتسعين.. مائة وخمسة وتسعين مليار دولار وفي السياحة حققنا انطلاقات هائلة، فقد كان عدد السياح الذين يفدون إلى تركيا عند تولينا الحكم حوالي تسع ملايين سائح، أما الآن فقد فاق عدد السياح القادمين إلى تركيا العشرين مليون سائح سنويا وباتت القدرة الاستيعابية للأسرّة السياحية عاجزة عن تلبية الحاجة وأصبحت تركيا دولة معروفة باستقرارها وموثق بها عالميا وفي مجال الخصخصة حققنا النجاح الأكبر في السنوات العشر الأخيرة وكل ذلك كان له آساهم إيجابي وهام في انخفاض معدل التضخم وزيادة معدل النمو في تركيا وفي نفس الوقت دخلت تركيا في استثمارات جادة سواء في البُنى التحتية أو الفوقية، في التعليم والصحة والمواصلات والإسكان الجماعي، حيث بلغ عدد المساكن الجاهزة التي شرعنا في بنائها منذ ثلاث سنوات وحتى نهاية هذا العام مائة وخمسين آلف مسكن وسيكون عدد المساكن المُسلّمة فعليا لمستحقيها حتى نهاية العام ستة وخمسين آلف مسكن وحققنا ذلك عن طريق مؤسسة تابعة لرئاسة الوزراء تُمكن المواطن من الحصول على مسكن مناسب بدفع ثمنه على أقساط شهرية بدون فوائد تتراوح مدتها ما بين عشر.. خمسة عشر.. عشرين سنة وهذه الإنجازات أدت إلى انتعاش جاد في السوق، أما أسعار العقارات التركية فقد شهدت ارتفاعا كبيرا ومع ذلك نحن نبيعها بسعر رخيص عن طريق إدارة الإسكان الجماعي وحينما سألته عن الإستراتيجية التي نهجها لتحقيق ذلك خلال ثلاث سنوات فقط قال أردوغان في ثقة الزعيم رجل الدولة : هنا أؤمن بأمور ثلاثة، أوّلها إدارة الإنسان، ثانيها إدارة المعلومات وثالثها إدارة الأموال، عند نجاحكم في هذه الأمور الثلاثة فإنكم ستحققون نتائج هائلة ونحن الآن في الطريق إلى تحقيق ذلك وعندما نحققه بالكامل سيرتفع معدل نجاحنا أكثر، هذا هو الحدث ; . تعمدت أن أذكر هذا الجانب المختصر من الحوار والذي يمثل وصفة للنجاح لكل حاكم يريد أن يعمل من أجل بناء بلده ورفاه شعبه ، إن استطاع أن يدير الإنسان والمعلومات والأموال ، فخلال ثلاث سنوات فقط وضع هذا الرجل بلده علي الخارطة في كل شيء ، وبقي أن يضعها علي خريطة الدور الإقليمي السياسي ثم العالمي ، وجاءت حرب غزة لتكون فرصة أردوغان ليظهر زعامة الكبار حينما يعرفون مسئولية الحكم حينما تأتي من قبل الشعب وليس عبر انقلاب عسكري أو انتخابات مزورة أوراثة لا ناقة لهم فيها ولا جمل . منذ أول يوم في الحرب علي غزة وقف اردوغان مواقف الزعماء بكل ما تقتضي الزعامة من مسئولية فكان الوحيد من زعماء المنطقة الذي انتقد إسرائيل بشدة واتهم زعماءها بالكذب والتدليس عليه فهز المؤسسة الإسرائيلية من داخلها لاسيما وأن الحكام العرب منهم الصامت والمتواطئ والمشارك ، ولم يتوقف أردوغان طوال أيام الحرب عن القيام بكافة الجهود من أجل إيقافها مواصلا انتقاد إسرائيل التي تقيم علاقات مع تركيا منذ اغتصابها لفلسطين عام 48 ثم توج أردوغان زعامته في مؤتمر دافوس حينما انتقد رئيس إسرائيل شيمون بيريز بشدة بل اتهمه بشكل مباشر بأنه قاتل للأطفال والنساء في غزة ، ثم غادر القاعة محتجا ومهددا بعدما كشف أن دافوس و القائمين عليه هم من أنصار الصهيونية ومؤيدي جرائم قتل الأطفال ، فكان حديث الدنيا كلها بموقفه ، وتابع الأتراك موقف زعيمهم بفخر واعتزاز ثم خرج الملايين منهم لاستقباله حين عودته من دافوس إلي اسطنبول حيث أبلغني أحد الأصدقاء من رجال الأعمال المصريين الذي كان صدفة في تركيا ويقيم في فندق قريب من مطار اسطنبول أنه بقي طوال الليل في الشارع مع ملايين الأتراك الذين خرجوا لاستقبال زعيمهم أردوغان بعدما هاله ما قاموا به فلم يستطع رغم البرد القارص إلا أن يشاركهم فرحتهم بزعيمهم الذي وقف أمام الحشود في مطار اسطنبول مخاطبهم قائلا : ;أحب أن أكون صريحا وواضحا وأدافع عن شرف وكرامة تركيا، ومثلما يقول شاعرنا محمد عاكف، ;يمكن أن أبدو لينا ولكنى لست الحمل الوديع، وأعرف أن شعبي ينتظر منى مثل هذا الموقف; . درس في الزعامة والقيادة والمسئولية ، فالزعامة لا تورث ولا تأتي بالتزوير أو الاختطاف وإنما هي صناعة لها رجالها يظهر أحدهم كل قرن أو يزيد فيجدد الدماء في عروق أمته ويجلب لها العزة والكرامة مثلما فعل أردوغان لأمته ، فالعالم مليء بالحكام ولكن ماهو عدد الذين أجادوا صناعة الزعامة وصناعة التاريخ من بين هؤلاء ؟