حطّت المعركة الأخيرة في غزّة أوزارها، ولا يعني طبعا نهاية الحرب في المنطقة، لأن الصراع بدأ بوجود محتل ولا ينتهي إلا بزواله الأبدي، ولن يتحقق تحرير غزّة إلا بتحرير الأقصى، ومن يزعم غير ذلك فهو واهم... ولكن بلا شك أنه بعد الدمار والموت والإبادة والمقاومة سيأتي موسم الانتهازية والعبث، حيث ستتكالب كل الأطراف من أجل الاستفادة القوية، واستثمار نتائج المحرقة وفق ما يخدم الأهداف ويحقق المشاريع الخفية، ويكفي أنه منذ بداية العدوان الإجرامي على القطاع وفشل الجيش الصهيوني في حربه الصادمة والقصيرة جدا كما برمجها بادئ الأمر، بدأت تظهر بوادر مختلفة يراد منها تحويل الحرب إلى بورصة نافعة وغزّة إلى مزاد علني، وهذا ديدن الحروب عبر التاريخ، فتجد من يخطط لها وتجد من ينفذها وتجد من يدفع ثمنها، والذين يقطفون الثمار والريع هم الانتهازيون دوما الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة... مقاومة من الفرات إلى النيل الأسئلة التي بدأت تطرح الآن بشدة: من انتصر في حرب غزة الأخيرة؟ وماهي المعايير التي من خلالها تقييم نتائج العدوان؟ هل من خلال الخسائر المادية والبشرية الثقيلة التي مني بها القطاع أو الأخرى التي لحقت الصهاينة؟ هل من خلال الإنجاز أو الإخفاق في تلك الأهداف الإستراتيجية والسياسية التي حددتها إسرائيل قبل عدوانها؟ هل من خلال طبيعة الحرب من الناحية القانونية وعواقبها الإنسانية؟ هل من خلال آثارها على محيط الجانبين؟ !!... وفي المقابل نجد أخرى تتعلق بالهزيمة، لأنه عندما نتحدث عن المنتصر وجب أن نعرف المنهزم بصفة آلية: فمن المنهزم في حرب غزة؟ هل هو الكيان الصهيوني أم المقاومة أم طرف ثالث خطط للحرب في الخفاء وأدارها بأداة تحكم عن بعد؟ هل من خلال تداعيات الحرب على المستوى المحلي لكل طرف إن على المستوى العربي أو المستوى الدولي؟ هل من الناحية السياسية أو من الناحية العسكرية؟ هل من خلال خسارة حلفاء أو كسب حلفاء جدد؟ هل من خلال ما فرضته الحرب على المستوى الإقليمي أو الدولي من واقع سيبقى مفتوحا على كل الخيارات المضادة والمتطاحنة والمتناحرة؟ !!... إن مما لا يمكن تجاهله أبدا أن الحرب والعدوان على غزّة حددت فيها الأهداف الخفية والظاهرة مسبقا، بينها تلك التي تتعلق بالواقع السياسي والانتخابي المحلي في إسرائيل وحتى في الداخل الفلسطيني حيث انتهت ولاية محمود عباس في 08 يناير/كانون الثاني 2009، وأخرى ترتبط بمخططات يراد منها فرض أجندة دولية جديدة، تبدأ من حيث رغبة إسرائيل في تنميط حلفائها التقليديين ضمن أطر أكثر وضوحا، وبينها تلك التي تتعلق بما أملاه الإستراتيجيون والعسكريون بضرورة تحقيق أمن إسرائيل الشامل، بعدما تحقق لها الدعم الدولي بمختلف أنواعه وخاصة الأمريكي منه، وتحقق لها عربيا من خلال علاقاتها الدبلوماسية واعتراف بعض الأنظمة بإسرائيل، بتوقيع معاهدات عديدة منذ كامب ديفيد عام 1978، شرعنت تطبيع العلاقات والتحالفات الاقتصادية وحتى العسكرية، أو من خلال إسقاط أنظمة معادية للكيان الغاصب كما جرى في العراق، ولكن بقيت غزّة التي تحكمها “حماس” المصنفة كمنظمة “إرهابية”، كالضرس المسوّس الذي يفسد على الصهاينة أحلامهم، خاصة بعد طرد محمود عباس وطاقم حكمه إلى رام الله المحتلة... لقد خططت إسرائيل لإسقاط حماس من الحكم بكل الطرق لاختزال احتواء المنطقة ومنه بلوغ سقف الحلم الممتد من الفرات إلى النيل، ولما استنفذتها لجأت للقوة والضربة العسكرية المفاجئة في الأول، ثم بالاعتباطية الدموية التي يراد منها تأليب أهل غزّة ضد هذه الحركة الشرعية بعدما نجحت في تأليب الحكام العرب عليها، وأرادت أيضا تدمير القوة الصاروخية التي ظلت تشكل الهاجس الأمني الأكبر لها، خاصة أن الصواريخ صارت يزداد مداها في العمق الصهيوني، وفي هذا الجانب فقد تأكد بالفعل أن الجيش الذي صار جنوده يستعملون الحفّاظات داخل دباباتهم ولا يمكنهم مغادرتها لقضاء حاجاتهم الطبيعية، لم يتمكن من القضاء على القواعد والمنصّات والمخازن ولا مسّ المقاومة كما أراد، خاصة في مخطط تصفية قيادتها بالعدوان بعدما عجز في الاغتيال منذ كنس دحلان ومن معه، وإن استطاعت الوصول لريان وصيام فقد فشلت في الوصول للآخرين بالرغم من وجودهم في صف المقاومة الميدانية والإعلامية، أما الصواريخ فقد بقيت تتهاطل على الكيان الصهيوني حتى بعد إعلان توقيف النار من جانب واحد، وفي حمّى الحرب ظل جلعاد شاليط أسيرا لم يتمّ التمكن من معرفة ظروفه فضلا من الوصول لمكانه وتحريره... بالنسبة للفصائل فلم تتمكّن إلا من 48 مقاوما مقابل مقتل أكثر من 80 جنديا بينهم 49 بشكل مباشر حسب كتائب القسّام، في حين مجزرته أدت إلى استشهاد أكثر من 1315 مدني وبينهم أكثر من 410 طفل وأكثر من 200 إمرأة ومسن، أما الجرحى فتجاوز 5340 مواطن مدني بينهم المئات في حالة خطيرة للغاية، فاستهداف المدنيين دليل قطعي على فشل العملية العسكرية المرسومة والتي تحولت إلى ضربات انتقامية عشوائية غير محددة، إضافة إلى أن الأمر متعلق بقطاع من فلسطين التي يحتلها العدو الصهيوني، لو ما حدث تعلق بمكان غير فلسطين ومحتل آخر غير إسرائيل، لكان لنا معه شأن ومنطق مختلف تماما، فالقضية لها أعماقها العقدية والتاريخية والمقاومة هي الحل الوحيد، ولو وجد خيار آخر يمكن اللجوء إليه لحملنا الفصائل ما جرى في حق شعب غزّة الشهيد والجريح. في البداية صرح الصهاينة بأن الحرب ستكون صادمة وقصيرة جدّا، ولكن في ما بعد تغيرت الأمور إلى وضع خطة ثانية ثم ثالثة ثم رابعة... الخ، وصلت الأمور حد المبادرة بوقف إطلاق النار من جانب واحد، فالحديث من الناحية العسكرية يذهب إلى إثبات الإخفاق بالرغم من عدم تكافؤ القوتين، فالجيش الصهيوني قوة عالمية تملك أسلحة الدمار الشامل، مدعومة دوليا من أعظم القوى، أما المقاومة فهي لا تملك إلا رشاشات وصواريخ مصنوعة محليا ومحاصرة من كل جانب، فالمقارنة من الناحية هذه تعتبر ظلم كبير للمقاومة وشعب غزّة، ولكن ميزان القوى تغير كثيرا عندما تحولت الأمور إلى هولوكست ممارس لإبادة المدنيين والأطفال والنساء والعجزة... فالصهاينة رسموا في مخططهم القضاء على حكومة حماس وإرجاع محمود عباس إليها ولو كان ذلك على حساب آلاف القتلى، وموقف رئيس السلطة المتخاذل والمتواطئ خلال الحرب قد تجلّى أكثر بغض النظر عن خفايا المؤامرة التي حيكت بين القاهرة وتل أبيب، في رفضه لإيداع شكوى لدى محكمة العدل الدولية بالرغم من نداءات حقوقية كثيرة، ثم غيابه عن قمة قطر وحضوره لشرم الشيخ في مصر بعد الخراب، فضلا عن تحميله لحماس أثناء المعركة كل المسؤولية من دون أي إشارة للجانب المعتدي بما يحفظ ماء الوجه... فشل الجيش الصهيوني في تحقيق هدفه ظهر في اللحظات الأولى للحرب، لهذا لجأ إلى عملية قذرة وتتعلق بجرائم بشعة ضد المدنيين، بالتأكيد أنه أراد منها تأليب الغزّاويين ضد حكومة حماس التي انتخبوها ديمقراطيا، وهذا الذي لم يتحقق له ولم يخطر ببال أي أحد أثناء الحرب على الأقل وهم يشيّعون ذويهم، حتى صار الجيش الإسرائيلي كمن يطارد قطرات دمع في بحر متلاطم الأمواج... وبغض النظر عن الخسائر الأخرى التي مني بها الصهاينة وذلك لما تورطوا في تقويض عملية السلام، وهي شماعة كانت تستعمل لليّ أعناق الفلسطينيين والعرب، بل أنها بتهورها في الحرب خدمت فكر وأطروحات المقاومة، لما أكدت ميدانيا على أنها الخيار الوحيد لحفظ كرامة الشعب الفلسطيني والأمة جمعاء، وستؤدي الأمور حتما إلى ميلاد حركات مقاومة أخرى ربما تكون أشد “تطرفا” من تلك الموجودة حاليا، وليس على مستوى الداخل فقط بل سيمتد الأمر إلى العالم العربي والإسلامي لأن النقمة من جرائمهم بلغت مداها، وهذا الذي سيعطي مبررات إلى حركات تنتهج السلاح كخيار لها من أجل إسقاط الأنظمة ومطاردة المشاريع الغربية الزاحفة على الأمة، وعلى رأسها – طبعا - تنظيم “القاعدة” بمختلف فروعه سواء كانت في العراق أو أفغانستان أو في الجزائر أو حتى في الحجاز وبلاد الحرمين وأرض فارس... بل أن الأمر سيمتد حتما إلى الغرب وفي عقر داره، ويكفي أنه خلال الحرب غادر اليهود الشوارع وحتى المعابد ومكثوا في بيوتهم وإن خرجوا فهم تحت حماية أمنية أو بالتمويه من خلال تجنب اللباس الذي يشير إلى هويتهم، ويكفي تسجيل محاولات ضرب مصالح اليهود في دول أوروبية مختلفة، سجلت في فرنسا وحدها أكثر من 30 عملية اعتداء، فصار اليهود يخشون الجاليات العربية والإسلامية، والأوروبيون أنفسهم هبّوا لنصرة غزّة من خلال مسيرات غضب على الكيان الصهيوني، وعلى حكوماتهم التي طالبوها بتغيير سياساتها تجاه الشرق الأوسط، بل حتى على مستوى العقيدة اليهودية فقد أعطت قوة لمنظمات تناهض الصهيونية مثل ناطوري كارتا، وزادت في اتساع رقعتهم لما أيّد حاخامات جدد هذا التيار المناوئ المعارض عن طريق تكفير الصهيونية والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه... ومن جانب آخر ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة المنظمات الدولية غير الحكومية، بسبب جرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بصفة علنية وعلى المباشر، وأدلة الإثبات كثيرة لا يمكن أي أحد أن ينكرها... على غيرها جنت براقش القاهرة إن الحديث عن الانتصار هو واقع ملموس لا يمكن تجاوزه، ولكن ليس بالقوة التي يتواجد بها منطق الخسارة التي لحقت إسرائيل من خلال فشلها الذريع في تحقيق أهدافها، ونجحت بامتياز في توسيع رقعة الصراع وفتح جبهات مختلفة، ولاحقت الخسارة أيضا أطرافا أخرى ورّطت نفسها في الحرب على غزّة بطرق مشبوهة وملتوية، وعلى رأسها النظام المصري الذي كان يعتبر نفسه القوة الإقليمية الكبيرة والتي فرضته كوسيط بين أطراف النزاع، ولكنه تلقى طعنات قاتلة من خلال ثورة الشعوب عليه محليا وعربيا ودوليا، ومن خلال - أيضا - رمي مبادرته في سلّة المهملات برغم خدمتها لإسرائيل لما أعطتها متسعا مريحا لمواصلة الإبادة، وأعاقت بعض الجهود لتطويق الأزمة الرهيبة، وكذلك احتقار أمريكا وإسرائيل لمصر لما تمّ توقيع الإتفاق الأمني الذي بموجبه يمنع تهريب السلاح وطبعا سيكون على أرضها، وبدوري أرى برغم رفض مصري صريح على تواجد قوة دولية أجنبية في البلاد، إلا أن حرب غزة وخذلان حسني مبارك لها سيعيد ترتيب الأمور وفق منطق صهيوني مبيت، وسيعودون إلى سيناء عن طريق قوات دولية كما عادوا للجنوب اللبناني، بعدما أخفقت الحسابات في قوة المقاومة الفلسطينية وطبيعة سلاحها المفاجئ... لم يقتصر الأمر على سقوط نظام مبارك في الخسران المبين بل أنه جنى على أطراف حالفته، كالنظام السعودي الذي ظل يراهن على شرعيته الدينية وبعض العلماء الذين يحلبون في إناء آل سعود، ويكفي دلالة خطاب العاهل السعودي في قمة الكويت الذي ظهر في ثوب الندم والمراجعات والاعتراف بالذنب العربي الممارس عن طريق إذكاء الاختلاف والتطاحن والتردد وحتى بالانحراف الديني... أدى أيضا إلى سقوط ما يسمى بمحور “الاعتدال” الذي فقد ما تبقى من مصداقيته السياسية والإعلامية والشرعية، عربيا عن طريق عرقلة القمة الطارئة التي رعتها قطر، ودوليا عن طريق تصدير الأزمة لمجلس الأمن الذي أثبت للمرة الألف التخاذل الصريح والتواطؤ العلني، ودينيا بتورط بعض أشباه العلماء في تصدير فتاوى على المقاس، وإعلاميا بالتحيز المفضوح للغزاة من خلال التسويق لتوجهات تخدم الصهاينة عن طريق التعتيم أو التلفيق أو تمرير الخطاب الرسمي الصهيو-عرباني... وجنى أيضا على ما يسمى بالجامعة العربية التي وجدت نفسها في مفترق الطرق، ولم تتمكن من لمّ شمل الحكام العرب واتخاذ موقف مشرف يذكره التاريخ، بل أن عمرو موسى الذي قفز على كل الحبال وتنطط بين جل الشعارات، أثبت أخيرا انحيازه التام لمصر التي كان وزير خارجيتها، وطبعا كل الفضل لمبارك في وصوله لمنصب الأمين العام... الضحية الكبيرة التي رفست تحت أقدام النظام المصري هي سلطة رام الله المنتهية ولايتها، والتي لم يتحقق مبتغاها في العودة إلى غزّة من على ظهر دبابات تهشّم عظام المدنيين الأبرياء، ثم خسرت الدعم الشعبي العربي وحتى الرسمي من المحور المناهض لإسرائيل، وضيعت التأييد من بعض الدول الكبرى كتركيا واندونيسيا، وهمّشت السلطة تهميشا ذريعا لما تحولت إلى مجرد آلة في يد جهات تقودها وتقلبها حيث تريد وعلى رأسها مبارك والملك عبدالله الثاني، وهذا باعتراف من محمود عباس الذي أكد لرئيس مجلس وزراء قطر حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني بأنه يواجه ضغوطات لم يحددها، بل أنه لو يحضر قمة الدوحة سيذبح من الوريد إلى الوريد، ومن دون أن يحدد الطرف الذي يضغط عليه وإن كانت أصابع الاتهام تتجه لمحور “الاعتدال” تحت الرعاية الأمريكية... وبلا شك أن شعب فلسطين المحتل لا يريد سلطة عاجزة تكون عبارة عن إدارة تابعة لمصر ولا لغيرها، بل يريد قوة تحكمه لا ترضخ إلا لمطالبه ومصالحه فقط، وقد تجلّى ذلك كثيرا في حكومة حماس التي أثبتت للمرة الأخرى قوة شعبيتها وتجذّر منطلقاتها وتوجهاتها وسياستها... إن حرب غزّة حققت إنجازات إضافية للمقاومة وأعطت قوة وزخما لمحور الرفض العربي الإسلامي، وأخرجت للوجود قوى إقليمية أخرى تكون بديلا لمصر التي هربها مبارك من النافذة نحو تل أبيب، وعلى رأسها قطر التي لعبت دورا رئيسيا سواء على الصعيد السياسي من خلال رعايتها لقمة غزّة مهما كانت نتائجها أو تحفظاتنا عليها، أو من الناحية الإعلامية بواسطة قناة الجزيرة التي لعبت دورا فعالا في إطلاع العالم على حقيقة المحرقة وخفاياها، بل أن حرب غزة هذه أرست حقيقة لا يمكن تجاوزها أبدا، وهي: “ما لا يؤخذ بقوة الموت والدمار لن يسلّم بالمفاوضات والحوار”... نعم... إن الانتصار موجود بمعانيه الواضحة من خلال تكسير شوكة المخطط الصهيوني المبيت لغزّة وكل الأمة، وفضح المتآمرين بمختلف هوياتهم سواء عن طريق المفاوضات أو غلق المعابر والحصار أو العمالة، ولكن يبقى النصر الحقيقي هو تحرير فلسطين ودحر العدو، وقد وضعت حرب غزة لبنة صلبة في هذا الطريق الطويل الذي يحتاج إلى رجال وليس لأشباههم... بين دماء الأحرار ودموع التماسيح في ظل ذلك وبعد ما حدث بدأت تظهر الأصوات التي تريد استثمار كل ما حدث لصالح أفكارها وأطروحاتها، فنجد الأنظمة الرسمية العربية من محور ما يسمى ب “الاعتدال”، التي صارت تريد أن تلعب الدور خارج الوقت الرسمي من خلال قمة شرم الشيخ أو من خلال قمة الكويت التي جاءت لإنقاذ أمريكا من الأزمة المالية العالمية، واستغلال إعادة البناء من أجل تبييض الوجوه التي شاخت واسودت حيث يصعب ترقيعها وإعادة النصاعة لها ولو بصرف الملايير من أموال النفط والمساعدات، وهي عادة الأنظمة في تنويم وإسكات الضحايا لأجل الانتصار للقتلة، فمرة تحت شعار إعادة الإعمار أو بحكومات الائتلاف وأخرى بالمصالحة الوطنية، والبدأ بمبادرة الملك السعودي المتمثلة في تبرعه بمبلغ مليار دولار وستتبعه جهات أخرى... بل تحاول هذه الأنظمة الإبقاء على حركة “فتح” التي تهمّشت وتهشمت وانهارت إلى ما لا يمكن تصوره بسبب قيادتها الحالية التي تحكمت في زمام الأمور بواسطة الدعم الأجنبي (الأمريكي – الصهيوني – العربي الرسمي) أو عن طريق التخلص بالتهميش أو التآمر مع العدو على المخلصين منها، وإقصاء فتح بطبعتها الحالية من المشهد سيقلم أظافر محور “الاعتدال” في فلسطين كثيرا، وهو ما يمحو الأنظمة من معادلات الصراع القائمة، ويفرض قوى المقاومة على المشهد الدولي... سجلت أيضا محاولات “حزب الله” إعادة البريق لأطروحاته العقدية والسياسية والعسكرية، من خلال مواقف حسن نصرالله خلال الحرب، وأيضا نجد محاولات إبراز دور الحزب السابق أو التحدي بتطور حالي أو التلويح بما سيكون مستقبلا في تهريب السلاح لغزّة، وقضية سلاح المقاومة في غزّة كما هو معلوم قلبت الموازين وظهرت كأبرز عنصر مفاجئ في الحرب، وقد تجلى رسميا من الجانب الصهيوني لما هربت ليفني نحو واشنطن لتوقيع معاهدة منع تهريب السلاح إلى غزة، التي ستكون غصة في حلق سياسة أوباما الخارجية، ولها حسابات دقيقة في الحروب الآتية... نجد أيضا الحركات الإسلامية وأحزابها في المنطقة العربية التي تحاول بدورها استثمار صلتها الروحية والفكرية والإيديولوجية بحماس من أجل توسيع رقعتها الشعبية وتأكيد قوة بنيانها وترسيخ أركانها في الحكم والسلطة، كما يجري في الأردن والجزائر... وحتى الأنظمة التي هي على مواعيد حاسمة تريد استغلال الأمور بما يخدم أجندتها المحلية، كما يجري في الجزائر والتي صارت الأحزاب الرسمية والصحف المحسوبة على السلطة تعتبر مشاركة بوتفليقة في قمة الدوحة دليل على ثبات المواقف، مما يفرض على الشعب تمكينه من عهدة ثالثة ورابعة إن سمحت ظروفه الصحية من تجاوز عتبة 2010. ستهب أطراف كثيرة من أجل محاولات قطف الثمار على حساب دماء الآلاف من أبرياء غزّة، وإن لم ينتبه هؤلاء سيضيع مجدهم ودمهم بين القبائل والعربان، ولكن نقول من جهتنا أن غزّة ليست مزادا وما على المتصهينين خاصة التائبين منهم في قمة الكويت، إلا البقاء كالجرذان في جحورهم أفضل لهم، فقد فضحت عوراتهم للعلن والكل صار يدرك الحقيقة، وإن وجدت وسائل إعلام تريد تبييض تاريخهم الأسود، فيوجد الشرفاء الذين يرفضون بقوة ولن يسمحوا أبدا لأي كان أن يسرق انتصار غزّة من شعبها وفصائل المقاومة وبأي ثمن كان، لأنه حكر وحصري وملك لهم وحدهم، ومن ينسبه لنفسه سواء كان نظاما أو حركة معارضة أو حزبا فهو يحلب في الرمل... وغزّة بكاها الأحرار دما ولن نقبل بدموع التماسيح.