عرفت الرواية العربية الحديثة نقلة نوعية، بفضل انضمام بعض الشعراء إلى شجرة السرد الروائي، ومن بين هؤلاء الشعراء نذكر الشاعر محمود عبد الغني، الذي آمن بمرونة الرواية وشدة حساسيتها، ودورها الكبير في تتبع تفاصيل الواقع، ورصد المعيش اليومي لمكونات المجتمع وفسيفسائه، وذلك بالتعبير عن آمال الناس وانكساراتهم. وقد جرت العادة أن كل روائي يبني عوالمه المتخيلة، وفق استراتيجية تتوافق ومرجعياته الفكرية والنفسية والاجتماعية، التي يتخذها أرضية لبناء منظور روائي مختلف عن كتابات روائية أخرى محاورة أو مجاورة، من أجل الفرادة والتميز. فإذا كان نجيب محفوظ يتخذ من الحارة المصرية معجما لمفرداته الروائية، وعبد الرحمن منيف يتخذ من البيئة الخليجية أرضية تتصارع فيها شخصيات رواياته، وإبراهيم كوني يتخذ من الطوارق مكونات أساسية لبناء سردياته، فإن محمود عبد الغني صنع معجما خاصا، تكون مدينة طنجة مكونا مكانيا لإنتاج معجم متفرد، دفته الأولى لغوية صرفة، ودفته الثانية مختصة بتراجم بعض الأدباء العالميين الذين زاروا المدينة وفتنوا بجمالها وهدوئها. وتعد رواية «معجم طنجة» من أبرز الروايات، التي أثثت المشهد الثقافي العربي، لما لها من حضور قوي في ذاكرة القراء والمهتمين بالسرديات العربية، ما مكنها من شرف نيل جائزة كتارا، وهي رواية تسجيلية للحظات من الزمن الجميل، عاشها أدباء عالميون، عشقوا طنجة حد الولع، إنها توثق ذكريات حميمية لهؤلاء الأدباء، الذين هم أبطال الرواية، والذين يسكنون فضاءاتها المتخيلة، من قبيل المسرحي تينيسي وليامز، بول بولز، محمد شكري، محمد زفزاف، جيرترود ستاين، والتشكيلي محمد المرابط….الذين وجدوا مساحة واسعة من الحرية في فضاء مدينة طنجة المتعدد والمتنوع، الذي يجمع بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق، فهي الحاضنة لمعالم الحضارة الأوروبية، وكذلك للموروث العربي الأندلسي، وهو غنى فسيفسائي تبدو معالمه في العمران الإيطالي والمطبخ الإسباني والأزياء الفرنسية الخلابة. وللغوص في عوالم الرواية المتخيلة، يحتاج القارئ إلى دليل لفتح مغالقها المعتمة، وسراديبها المظلمة، خاصة أنها تتطرق إلى الحيوات الشخصية لأدباء عالميين، أغنوا الساحة الأدبية بإبداعات خالدة عبرت عن راهن الإنسان المعاصر، الذي تتلاعب به أهوال الحرب، وانتكاسات الحياة النفسية والاجتماعية، فكانت كتاباتهم هي المتنفس الوحيد لهذه اللحظات العصيبة، وعندما يعبر هؤلاء الأدباء عن ذواتهم، فإنهم يعبرون بصوت مرتفع، فيه أنات الجماعة، وهموم الغير. إن للرواية خاصية متفردة، تصدم القارئ ابتداء من عتبة العنوان (معجم طنجة) وانتهاء بخواتم قصصها المدهشة، التي تشد القارئ إلى عوالمها المتخيلة، مرورا بسلسلة من الأحداث (السير غيرية)، التي تقاسمها الأديب محمود عبد الغني مع قرائه، مورطا إياهم في لعبة السرد الروائي، عبر البوابة الخلفية للسارد الخفي، الذي يترك الباب مواربا لآلة التأويل، التي لا تكتفي بظاهر الخطاب الروائي، وإنما تتدخل عميقا في باطن الأحداث من خلال بؤرة ضوء، يتسلل من خلالها القارئ إلى عمق الرواية. إن جيرار جينيت عندما قال: إحذروا العتبات، كان يعلم بأن عتبة العنوان، تشكل نصا موازيا بمفرده، ولهذا السبب فإنني عندما شرعت في قراءة رواية «معجم طنجة» شد انتباهي عنوانها المتفلت الذي يحمل كثيرا من الدلالات، سواء على مستوى ظاهر البنية العنوانية، أو على مستوى بنيتها العميقة القابلة للتحليل والتأويل. فكلمة معجم من الجذر اللغوي (عجم) وهي كلمة تحمل المعنى وضده، لها معنى العجمة وهي الغموض، ولها معنى تفسير الغموض، وذلك عندما نلجأ إلى المعجم لتفسير الكلمات الغامضة والمبهمة. رواية «معجم طنجة» تعالج قضية إنسانية، حيث إنها تجيب عن سؤال يدور في خلد الجميع، وهو ما السر في اختيار مدينة طنجة كمكان لإقامة كثير من الأدباء العالميين؟ هذه الرواية تتناول شخصيات بارزة في عالم الفكر والأدب، فمنذ الوهلة الأولى تبدو بسيطة وواضحة المعالم، لكن في باطنها تحمل هموم العالم ولغز الكينونة، فهذه الشخصيات لا تكتفي بما تملك من معطيات عن الإنسان والكون، وإنما تغوص عميقا في أسرار الحياة وهموم الناس، باحثين عن سر الكينونة والوجود، وهو السؤال الفلسفي الذي شغل البشرية عبر الزمن. رواية «معجم طنجة» تعالج قضية إنسانية، حيث إنها تجيب عن سؤال يدور في خلد الجميع، وهو ما السر في اختيار مدينة طنجة كمكان لإقامة كثير من الأدباء العالميين؟ والحقيقة أن مدينة طنجة تعتبر متنفسا لأدباء عالميين، هربوا من حضارة الغرب عندما سمعوا طبول الحرب، ففروا بأحلامهم المتخيلة إلى فضاء طنجة الفسيح، الهادئ جوها، المتسامح أهلها، فكانت لهم الجنة الموعودة التي سطروا تفاصيلها في كتاباتهم، لكنهم في لحظة بسيطة من الزمن، اصطدموا بحائط اللغة التي منعتهم من التواصل مع جميع شرائح المجتمع، غير أنهم أصروا على مواجهة هذا التحدي وهذا العائق، حيث حاولوا جميعا تعلم اللغة العربية، وكانت الغاية من ذلك، الاطلاع على كنوز اللغة العربية والاستمتاع بسحرها وجمال أساليبها، بل أكثر من هذا فمنهم من استطاع تعلم اللهجات الغارقة في المحلية والإقليمية كاللهجة (الفاسية) و(الطنجاوية)، ما أعطاهم تنوعا ثقافيا، مكنهم من إغناء معجمهم، الشيء الذي كان له انعكاس كبير على فضاء الرواية، حيث تجد فيها اللغة الفرنسية والإسبانية والإنكليزية والعربية، ما جعل الرواية تزخر بمفردات متعددة، وخليط من الثقافات، ما أكسبها طاقة هائلة أهلتها لكي تكون فضاء للتمازج الثقافي والحضاري، الذي سوغ للأديب محمود عبد الغني عنونة روايته ب«معجم طنجة». وعلى هذا الأساس استطاعت الرواية إلغاء تلك الصورة الرتيبة للسرد الكرونولوجي الممل، الذي يعتمد أسلوبا محددا ولغة واحدة، بطرح القضية ونقيضها، فقد تناولت الرواية مسألة العجمة من جهة، والرغبة في التحرر من قيود اللغة، بالبحث عن لغة مشتركة يفهمها الزائر والمقيم. وتستمر الرواية «معجم طنجة» في تتبع تفاصيل المعيش اليومي لأبطالها، الذين تنوعوا بتنوع مرجعياتهم، واختلاف أصولهم، غير أنهم استلذوا العيش مع محمد شكري، فمنهم من كان اجتماعيا محبا لأهالي طنجة مثل جين بولز، ومنهم من سماهم بالمتوحشين، كما فعل بول بولز، وهذا التنوع في المواقف من سكان طنجة، أعطى للرواية غنى، وكسر تلك النظرة الطوباوية التي نتداولها مجاملة في ما بيننا عن طنجة وأهاليها، وقد زاد هذا التنوع في المواقف من تأزيم الرواية لتفتح باب النقاش بين القراء حول ما تخبئه من خبايا وتفاصيل. كما تظهر صفة التناقض في الشخصيات التي جاءت في الرواية متأزمة تحمل في داخلها كره الحرب وحب الحياة، التي وجدوها في طنجة الهادئة، الرابضة على شاطئي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. لقد وجدوا فيها المتنفس لإبداعاتهم وأفكارهم، الرافضة للحرب والآملة في حياة هادئة، تملؤها الحرية والسكينة، إنها شخصيات مبدعة تفاوتت إبداعاتها بين القصة القصيرة والتشكيل والمسرح والرواية، هذا التنوع الإبداعي أعطى لمدينة طنجة حلة جديدة زادها جمالا ومكنها من احتلال مكانة مرموقة في مجال الإبداع الأدبي، فكما منحت لهؤلاء الأدباء مساحة مهمة من الحرية، أعطوها مكانة مرموقة بين المدن العالمية المشهود لها بالثقافة، ولهذا فبفضل هؤلاء الأدباء أصبحت طنجة مدينة الثقافة بامتياز، مازالت معالمها بادية حتى وقتنا الحاضر. وفي الأخير نقول بأن رواية «معجم طنجة» تؤكد نجاح رحلة الأديب محمود عبد الغني من ضفة الشعر إلى بحر السرد بامتياز، حيث استطاع من خلال هذه الرحلة المتخيلة، رصد تجارب حياتية لأدباء عالميين بلغة سردية مغسولة بماء الشعر، مكنت قارئها من اكتساب معجم غني لمعاني بعض الأسماء، التي نتداولها يوميا لكننا لا نعرف معناها مثل: (طنجة) و(بانكوك)، كما أنه أسس معجما جديدا يتتبع تفاصيل المعيش اليومي لبعض الأدباء الذين أحبوا مدينة طنجة وعشقوها، فكانت بذلك أحد مكونات البنية الحكائية، كشخصية اعتبارية مستقلة فاعلة، لها القدرة على تحديد مسار العلاقات الشخصية بين أبطال الرواية. كاتب مغربي