التقيتها أول مرة ٍفي حصة الرقص في مدينة الدارالبيضاء المغربية، امرأةٌ خمسينية سمراء، لها بريق في العينين يجعل المرء منذ اللحظة الأولى أسيراً لسحر غريب. في البداية وقفت وحدها تراقب من بعيد جلبة القاعة، لكن عندما بدأت الموسيقى تصدح نزعت سترتها الطويلة وعقدت شالها الأسود حول وركها، وأخذت ترقص بخفر، ثم ازداد جسدها تموجاً وتصاعدت رقصتها وكأنها تصرخ بين الألم والمتعة. كانت تدور حول نفسها وحولنا بجاذبية، جعلتنا جميعاً نتوقف عن الرقص، ونكتفي بمراقبة جسد يستطيل ويقصر، يتمدد ويضيق، وكأن الموسيقى تضبط إيقاع دمها. هدأ جسدها أخيراً مع هدوء النغم، نظرت حولها وكأنها تستعيد إحداثيات الحياة أو تعود إليها، زال سحر الموسيقى عنها ولم يزل سحرها وأثر حضورها الطاغي على من حولها. بفضول تعقبتها وهي تغادر، فوجدتها ترتدي نقاباً أسود، لم يظهر منه سوى العينين... سألت عنها فأخبروني أنها «الحاجة عائشة» غسالة الأموات، وكان عليَّ أن أنتظر عشرة أيام أخرى لألتقيها من جديد، لنتحدث عن ثنائيتها المقدسة: ثنائية الحياة والموت... بداية لم أسألها عن عمرها، وشعرت بتفاهة الأرقام أمام أنوثة طاغية، ومع أن الأنوثة لا تُعرَّف، كما كتب نزار القباني: حاولت أن أسأل: ما الأنوثة؟ ثم عدت عن السؤال فأهم شيء في الأنوثة أنها... ليست تقال... إلا أن رؤيتها وهي ترقص، ورؤية الصبايا من حولها وقد تنحين جانباً، جعلني أدرك أن الأنوثة هي روح لا تشيخ، فلا الأصباغ ولا اللحم المكشوف ولا عمليات الشدّ والتجميل يمكنها تقليد أنوثة امرأة مرّ عليها الزمن، من دون أن يترك أي تجاعيد في روحها... لم يكن لقاءً صحافيا بمعنى الكلمة، بل كان مسامرة، اختلطت فيه أجوبتها بأسئلتي، وهواجسي عن الموت بحكمتها، وكان بيننا هذا البوح: تجليات الأنوثة: ■ هل للأنوثة عمر؟ □ الأنوثة ملامح لا تقاس بالأرقام ولا تعريف واضح لها، هي إحساسٌ وحضور طاغٍ للمرأة... هي روح الجمال وليست ذاته، قد يلتقيان ولكن وجود أحدهما لا يحتم وجود الآخر، فالجمال قشرة خارجية قد تذبل مع الأيام، ولكن الأنوثة تزهر وتتفتح مع العمر... في رأيي لا تعارض بين العمر والأنوثة، فالزمن يزيد اختمار الأنوثة ويعتقها... وليس صحيحاً أن المرأة تمر بسن اليأس، وأعتقد أن من أطلق هذا المصطلح هو رجل لم يفهم فيزيولوجية جسد المرأة بشكل كافٍ... ولم يفهم اختمار روحها، كما يكتمل وجه القمر في الليلة الرابعة عشرة، يكتمل جمال المرأة في الأربعين وما فوق. ■ لماذا ترتدين النقاب؟ □ صحيح أنني لا أعتبر جميلة بمقاييس اليوم التقليدية، ولكنني ومنذ صغري كنت أجتذب نظرات الرجال، وأثير اهتمامهم أكثر من صديقاتي، اللواتي يعتبرن أكثر مني جمالاً. شخصياً لا أعرف السبب، بعضهم يقول جاذبية ربانية وبعضهم يسميها كاريزما، وأنت تقولين لي أنوثة... النقاب هو لحجب هذا «السبب» أيا كان، وحماية نفسي من الملاحقة والتحرش... الرقص عبادة! ■ ما هو شكل علاقتك بالرقص؟ □ الصلاة غسيل للروح وأنا أبكي عندما أناجي الخالق، ولكنني أدخل أيضاً في حالة من الصفاء والشجن، وأبكي عندما أسمع نغما يلامس روحي وأحس أن يداً خفية تسحبني للرقص... هي روحي التي ترقص لا جسدي، أنسى العالم ويعود لي فرح واندهاش الأطفال، وكأن الرقص يمسح آثار الزمن ويصفي شوائب الروح بلمسة سحرية، ساعة الرقص هي حصة السعادة في حياتي، والسعادة ليست حراماً ما دمت لا أرقص أمام الرجال ولا أعرض مفاتني، الحرام بالنسبة لي هو في ألا أؤذي نفسي أو غيري من خلق الله... علاقتي بالله هي علاقة حب لا خوف، وحبي لله جعلني أحب خلقه وهذا ما يحميني من الوقوع في المعصية. ■ كيف تستطيع امرأة تعيش مع الموت يومياُ أن تراقص الحياة هكذا؟ □ علمني الموت أن أحترمه ولكن لا أخافه، وألا أضرب معه موعداً فهو لا يحب الانتظار، وألا أعتاد عليه فهو سيد المفاجآت، وعلمني أن أعشق الحياة وكأنني سأموت غداً، الموت، رغم أني أراه كل يوم، فهو ليس صديقي... الحياة تعاديني حيناً وتصادقني حيناً آخر، ولكنها تمنحني فرصاً كثيرة للمشاركة والحوار، وفي انتظار موتي لن أتوقف على الأقل عن اكتشاف معنى الحياة. في حضرة الموت: ■ هل للموت وجه واحد؟ □ الموت ليس نهاية، هو مغادرة الروح للبدن والدخول في سفر جديد... أذكر وأنا شابة، أنني تطوعت في الجامع لأمثل الموت وأقدم جسدي كوسيلة إيضاح، كان عليَّ ان أغمض عينيّ وأترك يدي المعلمة تمران على جسدي وهي تشرح للطالبات طريقة تغسيل الأموات.... نهضت بعدها وشعرت بأنني امرأة أخرى، امرأة ولدت من جديد بعد أن عاشت الموت المؤقت... الدقائق القليلة جعلتني أفهم كم هي زائلة تلك الحياة، كما في بيت المتنبي الشهير: كثيرُ حياة المرء مثل قليلها يزول وباقي عيشه مثل ذاهب ومن جهة أخرى ساعدني اقترابي من الموت لهذه الدرجة، في أن أكسر حاجز الخوف منه... وشعرت بعدها بالرغبة بأن أكون تلك اليد الأخيرة التي تلامس مسافري الموت، وكأنها تلوح لهم بالوداع قبل ان يغادروا عالمنا هذا... ومع الموت يأتي النسيان لتستمر الحياة، وأنا تعلمت أن أنسى وجوه الموتى عندما أغادر المغسلة... وجوه أقرأ لها آيات قرآنية وأدعو لها بالرحمة والغفران، وأن يتقبلها الله في فسيح جنانه، ثم أغطيها بالأكفان البيضاء وكأنني أم تغطي صغارها قبل النوم وتغادر الغرفة، الموت يشبه النوم أيضاً، لكنه نوم بلا أحلام ولا استيقاظ. عندما أغادر المغسلة، أنسى الموت ووجوهه وأذهب بدوري للاغتسال وأعود أكثر عشقاً للحياة. ■ هل من وجوه تستعصي على النسيان؟ □ هناك وجوه يلطفها الموت ويجعلها أكثر شباباً... وجه أمي أحدها، عندما غسلتها غنيت لها وتكلمت معها وكأنها حية، كانت محاطة بكل من تحب وكان موتها جميلاً، وجهها كان مشرقاً وكأنها استعادت شبابها، وكانت تبتسم بسكينة، قبلتها وقلت لها إنني سأشتاق لها وأشتاق دعاءها ولكننا سنلتقي من جديد. الوجه الذي أبكاني كثيراً كان وجه عمتي، فعندما لففتها بالكفن الذي اختارته بنفسها، بدا لي كفنها كبيراً جداً على جسدها النحيل، وكأنها هي التي كانت تشعر ببرودة الوحدة في حياتها كلها، بحثت عن كفن كبير يدفئ برودة القبور. عندما أفكر بموتي، أتذكر أمي وعمتي وأبي، فالتفكير أننا سنلتقي بكل الذين أحببناهم ورحلوا عنا، تجعلنا في تصالح مع الموت. ■ ما هو الموت الأصعب؟ □ أقسى موت هو موت الضنى، لأنه سير بعكس الحياة، الأولاد نلدهم لنعيش من أجلهم ولكي يكملوا حياتنا بعد موتنا... يقولون: من خلف ما مات... وكأن من يفقد صغيره يموت مرتين... الموت والولادة قدرنا الذي لا يرد ولا يزول، والموت كثيراً ما يعيدنا للدائرة الأولى، رحم الأم... أتذكر رجلا خمسينيا مريضا بالسرطان، عندما أحس باقتراب أجله طلب أن يموت في حضن أمه ليسكن خوفه من الموت... لوهلة عاد الرجل وهو أب لأربعة أطفال، طفلاً صغيراً يخفي رأسه في حضن أمه، وفي النهاية غادر الحياة بين ذراعيها كما أبصرها يوماً بينهما. بعد هذا الجواب، اعتذرت عائشة عن إكمال الحوار، لأنها تلقت اتصالا هاتفيا بحصول وفاة قريبة وكان عليها أن تغادر، وبقي في جعبتي الكثير من الأسئلة عن الموت والحياة... ولكنني رغم كل هذا الكلام عن الموت، لم أشعر برغبة في زيارة القبور، بل شعرت برغبة جامحة لأن أرقص كعائشة، أو ألتهم طبقي المفضل، أو أتمشى على شاطئ البحر وأترك الملح يلتصق بأقدامي الحافية، شعرت بجوع مفاجئ للحياة، وتذكرت ما كتب درويش عن شهوة الحياة: «قيل: قوي هو الحب كالموت قلت: ولكن شهوتنا للحياة ولو خذلتنا البراهين أقوى من الحب والموت فلننه طقس جنازتنا كي نشارك جيراننا في الغناء الحياة بديهية وحقيقية كالهباء»... هي الحياة إذن... معركتنا الخاسرة مهما انتصرنا فيها، ينتصر فيها الموت أخيراً... ولكن انتصارنا الوحيد والممكن على الموت، يكون بأن نجعل لعبثيته معنى وهدفاً... كان للشاعرة دعد حداد ديوان بعنوان: تصحيح خطأ الموت. ولم أجد من تصحيح لخطأ الموت أكثر من ارتكاب فعل الحياة نفسه، تماماً كما أتقنته عائشة «غسالة الأموات»... عائشة التي اعتادت ارتداء الثياب الزاهية والملونة تحت عباءتها السوداء، والتي أتقنت الرقص مع الحياة، مؤجلة رقصتها الأخيرة مع الموت...