منذ الطفولة، ونحن ننشأ على معايير وقيم سواء في علاقتنا مع ذواتنا أو في علاقتنا مع الغير، ومع تقدم السنوات يدخل الطفل في المراحل العمرية الأخرى، ليصير قادرا على توجيه سلوكه حسب اختيارات واعية، يميز فيها بين ما يجب وما لا يجب. فيكتسب بذلك «الضمير الخلقي» ويبرز معه الشعور بالمسؤولية، والتدبير على التفكير في القيم داخل العلاقات بالغير. فإذن، أليس عيبا بكل المعايير وكل المقاييس، أننا مازلنا لحد اليوم نصادف بكثرة صورا تصيب من يشاهدها بالتقزز والقرف، عندما نجد شخصا يبصق على الأرض أمامنا، وآخر هناك يلتجئ لجدران الحائط قصد التبول دون أي مراعاة لمشاعر الآخر. يكفي أن نخرج للشارع ونتجول قليلا، لنصطدم بفئة من المواطنين يقومون بسلوكات ضد المشهد الحضري، وبذلك يصبح الشارع مجالا للقيام بسلوكات ضد الغير، تعكس بالأساس تمثل الشخص لذاته، وتمثله للآخر كذلك. فأمام البصق على الأرض، وأمام التبول على الحائط، يغيب بشكل جذري الاحترام، وتغيب القيم، ويتجسد عدم الوعي في احترام المجال، وكذا عدم إدراك الثقافات المختلفة لكل مكان نتواجد فيه، فكما يجب أن ندرك أن المدرسة ليست هي البيت، يجب أن ندرك كذلك أن الشارع ليس مجالا للتبول والبصق، وبذلك فإن هذه المشاهد المتكررة، هي سلوكات لا حضارية، تجسد عدم التزام الفرد باحترام الحس المدني بل وعدم احترام ثقافة الجسد، التي تفرض تقنيات واستعمالات متعددة نتلقاها داخل الأسرة ومنذ الصغر، باعتبار الفرد كائنا ثقافيا بالأساس. نحن نتعلم كيف نفكر، كيف نأكل، كيف ننام، ونتعلم كيف نكون في علاقتنا مع الغير، فكل من تصدر عنه سلوكات ضد القيم الثقافية، فهو إذن يمارس عنفا ضد ذاته أولا، وضد المجتمع ثانيا. فلماذا يظل المنزل مجالا يحترم، فلا يبصق على أرضه ولا يتبول على حائطه، أما الشارع فصالح لكل ذلك، بل وقد نجد على نفس الحائط الذي كتب عليه «ممنوع التبول» هناك من يخترق الممنوع ويسبب رائحة تشم على بعد مسافات. يمكن القول أن ظاهرة التبول في الشارع، هي ظاهرة رجولية بامتياز، معرض لكل المارين، فأين السترة إذن، التي ظل الرجل حياته كلها وهو يحث النساء عليها وأحيانا بصورة مبالغ فيها. فشخصية الرجل هذه إذن هي شخصية غير سوية، وتميل للانحراف ضد القيم المدنية، وكأنها لا تستوعب سلوكاتها وتعتبرها مسألة عادية، بل إن بعض الذكور يعتبرون البصق على الأرض من خصائص الرجولة. فكيف يبني الذكر رجولته على سلوك غير حضاري؟ ثم ألا يمكن القول أن المرأة أكثر تحضرا من الرجل؟ باعتبار أن المرأة نادرا ما تبصق على الأرض»، ومطلقا لا نجد امرأة تتجه نحو الحائط للتبول، إلا في حالات شاذة وهكذا، فإن التنشئة الاجتماعية المتوازنة تعمل على تطوير المشاعر المتوازنة والأحكام الأخلاقية نحو الاستقلالية ونحو النضج. وبالتالي فإن انعدام هذه الظواهر مرتبطة باكتساب الفرد شخصية تدمج الحس الاجتماعي من خلال التفاعل مع الغير، وكذا الحس القيمي الذي يوجه المواقف والسلوكات، فعوض أن يبصق الفرد على الأرض، فليبصق في منديله وليحترم ذاته أولا قبل أن يحترم الأرض. دون أن يحتاج لأي ردع له أثر زائل ودون أن يحتاج لمراقبة عمودية تجبره على السلوك الحضاري، إنما انطلاقا من تعلم وإدراك ثقافة النظافة، التي تعكس مدى التقدم والرقي، لكي تصير هذه الثقافة أساس صلب من أسس السلوك والمواقف الاجتماعية، وتصير مسؤولية أخلاقية بين الناس. فالمكان النظيف عنوان للحياة اليومية ودليل على الوعي والتحضر. بل هناك من لا يحترم جمالية الأزهار والحدائق ليدنسها، ويقتل روح الجمال فيها، فأين احترام الطبيعة، وأين احترام الذات الجماعية، أمام من يشاهد هذه السلوكات؟ وحول الموضوع، تجمعت لدينا بعض الآراء. قال أحدهم: أن أتبول في الشارع مسألة عادية جدا، فليس هناك أماكن عمومية للتبول، ثم ليس هناك من سيمنعني من القيام بذلك، أقوم بالسلوك بكل حرية، دون أي مراعاة، ودون أدنى تخوف، ففي نهاية الأمر لن أخسر شيئا، والصورة معتادة في ذهننا، كما أرى الأزبال في كل الأنحاء، أرى الشخص يتبول، هو نفس السلوك وبأسلوب متغير، لازلنا لم نصل إلى درجة الوعي بنظافة المدينة، ونفس الشيء بالنسبة للبصق على الأرض، لا أشعر بصوت داخلي يمنعني من ذلك، وليس هناك غرامات مالية زاجرة، قد تتخد في حقي، لسنا في بلد متقدم، حتى يكون سلوكنا حضاري لهذه الدرجة. وقالت إحداهن حول الموضوع نفسه: العجيب في الأمر أنك قد تجد شخصا متعلما وله مستوى ثقافي معين، ومع ذلك يعتبر البصق والتبول أمورا عادية جدا، فلا يشعر بالخجل، ولا بأنه يقوم بفعل ضد الطبيعة وضد الآخر، صرنا نسير في الشارع خصوصا في الحدائق وقرب أسوار المدينة، ونحن مدركين أننا في أي لحظة قد نصادف من سيشعرنا بالتقزز جراء تبوله. وقد أضافت هذه المتحدثة قائلة: أما البصق فلا يستدعي البحث عن جدران الأسوار، إنما كل الأماكن صالحة لذلك، فقد تجد من هو في سيارته ويخرج رأسه، ليمارس الفعل بكل بساطة وهو يرتدي بدلة أنيقة، تخالف فعله اللاحضاري، وأضافت: أعلم أن التلوث سبب في ذلك، لكن توجد مناديل كثيرة للقيام بذلك، ودون أن ندنس شوارعنا ونزعج بعضنا البعض. دلالات هامة، تعكس صورتين متناقضتين، الأولى ضد المشهد الحضري والثانية مليئة بمبادئ الاحترام والحرية التي تنتهي عند حرية الآخر، وبدون هذه القيم لا يمكن التعايش بسلم واحترام، وشعور بالمسؤولية. رأي ثالث من رجل يقول: لا أستطيع التبول في الشارع، ولا البصق على الأرض، وأتعجب بكل صراحة ممن يقومون بذلك. إنها بالفعل تصرفات مشينة وصور اجتماعية توجع القلب والضمير.. لايكفي في محاربتها عن قانون ولا خلق ذريعة للعقاب ولكن الفيصل الوحيد للحد منها هي الضمير والتربية على احترام المجال. صور تؤلم المواطن، وتشعره بالتخلف والرجعية، فللأسف لازال بعضنا يحتاج للكثير، كي يظهر في المستوى المطلوب، الأمر فعلا صار يحتاج لعقوبة قانونية تحد من هذه المواقف اللاأخلاقية، حتى أطفالنا الصغار، منهم من نراه يقلد ما قد ورثه من بعض الناس، أو ربما من آبائه أو عائلته، ما يبرز أن تدعيم الثقافة الحضارية، لابد أن تدعم بقوة داخل الأسرة وداخل المدرسة، لعلنا نمشي في الشارع ولا نصادف من يقتل بسلوكه المبادئ الأخلاقية. هاجر لمفضلي