مهما تعددت التحليلات السياسية لما يجري خلال هذه المرحلة على الأراضي السورية، وبلغت ما بلغت درجة اليقين في التخمينات والتوقعات، فإن الحقيقة الصارخة والصريحة هي أن لعبة الأمم الدائرة في المنطقة لا تقوم على قواعد ثابتة لا تتزعزع، وإنما هي قواعد هشة قابلة للانكسار ثم للسقوط في أية لحظة. ذلك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تعيش أسوأ مراحلها التاريخية، هي اليوم فاقدة للإرادة السياسية الحازمة، مترددة في اتخاذ القرارات الحاسمة، متراجعة عن ممارسة دورها في السياسة الدولية بما يحفظ الأمن والسلم الدوليين ويحافظ على التوازن الدولي، الولاياتالمتحدة هذه لا قرار صائباً وحازماً لها حيال الأزمة السورية، وهي تابعة لجمهورية روسيا الاتحادية التي تعيش أزهى مراحلها التاريخية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين وإفلاس الإيديولوجية الشيوعية، مجددة العهد على أن تلعب بمهارة على مسرح الأحداث، وأن تمارس دورها باعتبار أنها (دولة عظمى) وقعت في مطبات، ولكنها ما لبثت أن نهضت وتحاول اليوم أن تسترجع عافيتها وتستعيد لياقتها وتفرض وجودها، ليس على المنطقة العربية فحسب، بل على الصعيد العالمي. إن روسيا اليوم هي القوة الباطشة والقادرة على صنع الأحداث انطلاقاً من سوريا التي احتلتها احتلالاً حتى صار الرئيس بشار الأسد رهينة لدى الجنرالات الروس المرابطين في قاعدة احميميم على الساحل السوري، استدعاه وزير الدفاع الروسي إلى تلك القاعدة، أثناء زيارته الأخيرة لسوريا، يخضع لما يمليه عليه الجنرالات الروس، ويستمع إلى أوامرهم، قبل أن يستمع إلى الأوامر الصادرة من الجنرالات الإيرانيين الذين يتحركون في دمشق وكأنهم أصحاب الحل والعقد مطوقين قصر الشعب (قصر المهاجرين) على سفح جبل قاسيون، يعملون بتنسيق تام مع زملائهم الروس الذين يتساهلون معهم ولا يرون بأساً في أن يتركوا لهم مساحة للتحرك بما يسمح بتنفيذ مخططهم الطائفي. في ظل هذا الوضع المعقد، تتحرك دول أوروبية على الأرض السورية، وإنْ كان تحركها هذا يتم في حدود، ومنها انجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، التي لها وجود عسكري واستخباراتي في تلك البلاد، يضمن لها أن تكون حاضرة في صنع السياسة التي يخطط لها لإنهاء الأزمة السورية. ولكن القرار الأول يبقى لروسيا التي تمسك بعصا المايسترو وتقود الأوركسترا التي تعزف أحزن الألحان وأقبحها وأرذلها وأكثرها شؤماً. والولاياتالمتحدةالأمريكية العاجزة المتراجعة المتوقفة اليوم عن اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة، يبدو أنها لا تلعب لعبة الأمم مع روسيا القيصرية الجديدة (باعتبار أن الرئيس فلاديمير بوتين يتصرف وكأنه قيصر روسيا الإمبراطورية)، ولكنها يلعب بها، أو على الأقل يدفع بها إلى الدخول في ممارسات لا ترقى إلى مستواها، تعرف موسكو كيف تجرها إليها حتى تكون مشاركة في العملية السياسية التي يُراد أن تكون المدخل إلى التسوية مع بقاء المجرم الطاغية السفاح بشار الأسد في سدة الحكم، فيما يزعمون ويخططون أن تنتهي الأزمة على هذا النحو. والواقع أن الأزمة تتفاقم بشكل مطرد وتندفع اندفاعاً أهوج في اتجاه خطير يتأكد يومياً أنه لن يؤدي إلى حل، ولكنه سيؤدي إلى مزيد من الانفجارات والخراب والدمار والفواجع وتدهور الأوضاع وانغلاق آفاق التسوية. والعجز الأمريكي وقلة الحيلة والتخاذل الذي لا يليق بالدولة الأمريكية التي هي بكل المقاييس قوة عظمى بدون أدنى شك، كل ذلك يشكل عاملاً مساعداً للانحدار بالأزمة السورية إلى هذه المستنقعات التي وصلت إليها، ودافعاً للنفوذ الروسي الذي يتزايد باطراد وبشكل يؤكد بما يرقى إليه الشك، أن موسكو هي التي تملك مفتاح الحل، ولكنها لا تريد حلاً في المدى القريب، لأن ذلك يتعارض مع مصالحها في المنطقة، ولأن هذا الوضع يتيح لها من الفرص الثمينة، التي ما كانت تحلم بها، ما يجعلها تحقق تلك المصالح في سعة من الوقت، وبمنتهى الراحة والاطمئنان. ووفقاً للحسابات السياسية القائمة على تحليل مَاجَرَيَات الأحداث على الأرض، يتضح أن العجز الأمريكي هو مصدر قوة الدب الروسي المفترس، وهو أيضاً الدافع إلى المزيد من التدهور الكاسح الذي لا ينتهي إلى حد، مما بات يهدد بأسوأ الاحتمالات أشدُّها خطراً هو اندلاع المواجهة بين القوتين العظميين في لحظة غير محسوبة، تكون الشرارة الأولى للانفجار الأعظم الذي يأتي، وكما تقول العرب، على الأخضر واليابس، وعلى البشر والشجر والحجر، فتكون أم الكوارث يقيناً. فهناك قدر كبير من الغموض والضبابية وخلط الأوراق والتناقضات وعدم اليقين في السياسات المتبعة في المنطقة من القوتين العظميين ومن توابعهما، ومن إيران وإسرائيل، وهما طرفان ضالعان في إشعال الأزمة وتعقيدها وتفاقمها. وكل ذلك مقومات للانفجار الذي سيقلب المعادلة، ويبطل كل الحسابات، ويغلق جميع الآفاق، وينتهي إلى خراب الديار ودمار الأوطان وانحدار الإنسان إلى مهاوي الضياع والتيه. ويبدو في الصورة الواضحة على الأرض، أن تركيا أُقحمت إقحاماً في ساحة القتال بتواطؤ بين روسيا وأمريكا. فبعد سنوات من التردد والإحجام عن التدخل المباشر في الأزمة السورية والامتناع عن الإلقاء بثقلها العسكري في التحالف الدولي لمحاربة داعش، وجدت نفسها تتخطى الحواجز، وتدخل إلى الميدان لتحمي أمنها القومي، وهذا من حقها وفقاً لميثاق الأممالمتحدة، ولتحارب جهتين ترى أنهما تلتقيان في ممارسة الإرهاب وتهدد الأمن القومي التركي، هما (قوات سوريا الديمقراطية) التي تشكل (وحدات حماية الشعب) الكردي العمود الفقري لها وتنظيم داعش. أما أكراد سوريا فهم اليوم من حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، أي أنهم على مستوى واحد من الاقتراب من واشنطن. وهذا بالضبط هو الدافع الذي حفز أنقرة لشن الحرب ضد الفصائل الكردية السورية التي ترى فيها أنها الوجه الثاني لحزب العمال الكردستاني التركي. ويتبيّن من التطورات الأخيرة أن واشنطن تضع تركيا في مستوى واحد مع الأكراد السوريين. وفي ذلك من التناقض القدر الكبير الذي تقع فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية، مما يجعلها تلعب لعبة خاسرة تضعف مركزها وتقوي مركز روسيا. ولذلك فإن الحرب التي دخلتها تركيا تحت مسمى (درع الفرات)، وإنْ كانت بالتنسيق مع روسياوالولاياتالمتحدة، وبمعرفة مسبقة من النظام السوري ومن إيران، ربما لن تنتهي في المدى القريب، وربما كان الهدف منها جرّ تركيا إلى أتون الحرب لتمزيقها وإضعافها وكسر شوكتها. وهذا هدف مشترك بين روسياوالولاياتالمتحدةوإيران وإسرائيل ومجموعة الدول الأوروبية المشاركة في العملية السياسية والعسكرية والاستخباراتية. ولكن هذا العبث بالأمن القومي التركي من خلف الستار الذي تشارك فيه عدة أطراف، سيكون له عواقب وخيمة على مجمل العملية الجارية اليوم على الأراضي السورية. وهو الأمر الذي يزيد من قوة احتمال وقوع الزلزال الأعظم في المنطقة ومنها تنطلق شرارة الحرب العالمية. والسؤال المحير للألباب هو : ألا يدرك هؤلاء القوم خطورة ما يمارسونه من سياسات مفلسة لن تؤدي سوى إلى هذا المصير المظلم الذي أوضحت معالمه أعلاه؟. أفلا يعلم قادة روسياوالولاياتالمتحدةوانجلترا وفرنسا، على وجه الخصوص، أن العبث الذي يمارسونه هو لعب بالنار، وأن استمرار الأزمة السورية لأكثر من خمس سنوات، سيؤدي إلى ما هو أسوأ، وأن الأسوأ لن يكون سوى اندلاع حرب عالمية ثالثة؟. هل يعرفون جيّداً أنه لن يكون غالب ولا مغلوب في حالة اندلاع الانفجار الأعظم ليهز أركان العالم انطلاقاً من سوريا التي لم تبق كما كانت أرض الحضارة والتاريخ والجمال والسلام؟. بعد شل حركة مجلس الأمن الدولي وتعطيل مفعول قراراته من خلال هيمنة روسيا عليه واستخدامها لحق النقض لإبطال أي قرار قد يصدر عنه يدين النظام السوري الذي ينتهك القانون الدولي، دخل العالم المتاهات التي تنفتح على جميع الاحتمالات، حيث أصبح النظام العالمي بلا ضوابط تحكمه أو قواعد تنظم سياسته. ولذلك يرى المراقبون الذي لا ينساقون وراء الأوهام ويدركون الحقائق، أن تعطيل مفعول مجلس الأمن الدولي هو إحدى المقدمات التي تمهد لحدوث اختلال خطير في التوازن الدولي، وهو ما يعني انهيار النظام العالمي ودخول العالم في مرحلة المتاهة. لقد تم سقوط مجلس الأمن الدولي تحت هيمنة روسيا وضغوطها، في ظل التخاذل الأمريكي الظاهر للعيان، الذي هو عنوان ضعفها ودليل تراجعها عن الدور المنوط بها في ضبط السياسة الدولية باعتبارها قوة عظمى ضامنة للأمن والسلم الدوليين، ومن المفترض أن تكون صانعة للوفاق الدولي حول مبادئ ميثاق الأممالمتحدة. وهو الأمر الذي يشجع روسيا على الانتفاخ والاعتداد الزائد بالقوة والتوحش في ممارسة إرهاب الدولة بقتل المواطنين السوريين في شمال سوريا. وسيكون هذا الغرور الدافع الأقوى إلى السقوط والانهيار أسوأ مما حدث للاتحاد السوفياتي في أفغانستان. السؤال اليوم : أين العرب؟. أعترف وقلبي يتمزق أنني لا أجد جواباً عن هذا السؤال.