يرى عدد من المراقبين للشأن التركي، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يجد من وسيلة للانتقام أفضل من تشغيل الآلة الإعلامية والتشهير بالمجموعة العسكرية التي قادت الانقلاب الفاشل مساء الجمعة 15 يوليوز 2016، وليظهر رجال الجيش التركي الذي يمثل قوة إقليمية ومصدر فخر للجمهورية ومؤسستها النافذة والقوية، في صور خونة استهدفوا الديمقراطية في بلادهم بغاية إعادة البلاد إلى قبضة الحكم العسكري. وهو ما أرخى بتبعاته على علاقات أنقرة بمحيطها الإقليمي والدولي. قبل محاولة الانقلاب المثيرة للجدل لمساء الجمعة في تركيا، كانوا يعتبرون أبطالا ذوي أمجاد والرموز الأفضل تمثيلا لبلدهم وإحدى مؤسساته الأكثر احتراما؛ لكن القادة الكبار في الجيش الذين أوقفوا إثر محاولة الانقلاب باتوا موضع كراهية ويعتبرون خونة، فيما يتم استعراضهم أمام الإعلام وإذلالهم مع تعرضهم على الأرجح للتعنيف والإهانة. هذا ما نجح في تصويره أتباع أردوغان من حزب العدالة والتنمية، حيث لم تختلف تصرفات الحشود التي اجتمعت بعد فشل الانقلاب عن تلك السلوكات التي تمارسها الميليشيات في سوريا والعراق، ولعل قطع رأس أحد الضباط على جسر البوسفور يكشف مدى التوحش الذي طبع ردة فعل البعض من المنتسبين لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. واعتقل حتى الآن 125 جنرالا وأميرالا قيد التحقيق بينهم 109 صدرت مذكرات توقيف بحقهم. ونشرت وكالة الأناضول، الموالية للحكومة صورا لعدد من الانقلابيين الذين تم إيقافهم، وقد ظهروا في الصور وهم يديرون وجوههم نحو الحائط فيما أوثقت أياديهم بقيود بلاستيكية؛ فيما ظهر في صور أخرى موقوفون بدت وجوههم متورمة. لكن رغم احتجاز هؤلاء العسكريين وبينهم كثيرون معروفون على مستوى البلاد، مازال مسؤولون يؤكدون عدم معرفتهم بهوية القائد الأعلى للانقلاب، فيما اتهمت أنقرة الداعية فتح الله غولن المقيم في المنفى بالولايات المتحدة الأميركية بالوقوف وراءه. وقد تعهد أردوغان ب"تطهير جميع مؤسسات الدولة من هذا الفيروس″ وهو أنصار غولن، وقال إنه سوف يطالب بتسليم غولن الذي نفى تورطه في الانقلاب، وألقى باللوم مرة أخرى على أردوغان. وقال نائب رئيس الوزراء نعمان كورتلموش في لقاء مع صحافيين أجانب، سئل خلاله عن هوية قائد الانقلاب "لا ندري. ليس واضحا"، مضيفا "هناك الكثير من الأسماء في الملفات والكثير من الأشخاص ذوي الرتب المتوسطة والعليا". لكن رغم هذا النفي تردّد كثيرا اسم القائد السابق لسلاح الجو الجنرال اكين أوزتورك، باعتباره المسؤول الرئيسي في العملية. وتولى الجنرال البالغ 64 عاما قيادة سلاح الجو بين 2013 و2015 بعد حياة مهنية باهرة. وهو على الأرجح الضابط الكبير الأكثر رمزية الذي يتم توقيفه بعد الانقلاب الفاشل. وقد تعمّدت وسائل الإعلام الحكومية بثّ صوره مرتين، بدا في الأولى مشتت التركيز ويضع ضمادة على عينه، وظهر في الثانية أسوأ حالا مع كدمة داكنة حول العين. ويواجه الجنرال أوزتورك تهمة الخيانة العظمى بجانب العديد من الأسماء المشاركة في الانقلاب. وذهبت وسائل الإعلام إلى حد تصويره على أنه العقل المدبر للانقلاب الفاشل؛ لكن الجنرال أوزتورك نفى ذلك أمام المدعين، مؤكدا عدم المشاركة إطلاقا في الانقلاب. وصرح "أجهل من خطط له وقاده"، مضيفا "لم أشارك في محاولة الانقلاب" التي قد تكون "من تخطيط بعثات أجنبية تريد إضعاف تركيا". الاسم الآخر هو مساعد رئيس الأركان اللفتنانت كولونيل ليفنت توركان، الذي نشرت الأناضول تسجيلا قالت إنه اعترافات توركان بالانتماء للشبكات الموالية لغولن. وقال الضابط بحسب التسجيل "نفذت الأوامر والتعليمات الواردة من أعلى". كما أفاد أنه وضع أدوات تنصت في مكتب أكار وكذلك سلفه نجدت اوزيل وقال "كنت أضع آلة تسجيل في الغرفة صباحا وأستعيدها مساء" لنقل المعلومات إلى أتباع غولن. ونسبت إليه صحيفة حريت ديلي نيوز التركية أيضا قوله "نعم أنا عضو في الكيان الموازي...أنا من جماعة الغولنيين...بعدما وصلت الى منصب مساعد رئيس الأركان، بدأت تنفيذ أوامر الجماعة". ويبدو توركان مساعد رئيس أركان الجيش خلوصي آكار دائما إلى جانبه في الصور. وليلة الانقلاب أوقف الانقلابيون أكار طوال ساعات واحتفت به السلطات لاحقا كبطل. ونشرت الصحف صورا له بدا فيها عاري الصدر فيما لف صدره ويديه بالحبال. ويشتبه في قيادة الجنرال محمد ديشلي عملية القبض على رئيس الأركان أكار. وما يضاعف من إحراج السلطات أن ديشلي هو شقيق شعبان ديشلي، مساعد أمين عام حزب العدالة والتنمية الحاكم. لكن سرعان ما نأى شعبان ديشلي بنفسه من شقيقه قائلا "قائدنا هو رجب طيب أردوغان. أي شقيق في منصب جنرال يحمل اسم ديشلي لن يغير شيئا في ذلك". لكن محمد ديشلي نفى أي علاقة بغولن ومحاولة الانقلاب واكد "انا ضحية (...) تم تهديدي بالقتل وتوقيفي" على ما قال للمحققين. وطالت حملة التشهير والاتهامات أيضا-المستشار العسكري الأقرب لأردوغان علي يازجي الذي أقرّ في اعترافه للمحققين بأنه اتخذ قرارات سيئة، الجمعة، بشأن أمن الرئيس نافيا أي علاقة له بشبكات غولن. أنقرة والقاهر والانقلاب وفي تابعات الانقلاب الفاشل على علاقات أنقرة بمحيطها الجدولي، يرى محللون أنه كلما لاحت بوادر تحسّن في العلاقات بين مصر وتركيا، لحقت بها أخرى تعيدها إلى مربع الصفر، حيث شن الرئيس رجب طيب أردوغان، مؤخرا هجوما لاذعا على النظام المصري، بعد أن أدلى عدد من معاونيه (قبل محاولة الانقلاب الفاشلة) بتصريحات أوحت بالتفاؤل حيال القاهرة، واحتمال تذويب جزء من الخلافات. وقال أردوغان، في حوار مع قناة "الجزيرة" القطرية "السيسي قام بالانقلاب على الرئيس محمد مرسي المنتخب من قبل الشعب، ولا علاقة له بالديمقراطية"، مضيفا أن "سوريا ومصر تتشوقان إلى الديمقراطية وتنتظران الوقت الذي تحل فيه إرادة الشعب". وأثارت تصريحات الرئيس التركي حفيظة القاهرة التي سارعت خارجيتها للرد عليه في بيان، قالت فيه إن "الرئيس أردوغان يستمر في خلط الأوراق وفقدان بوصلة التقدير السليم، الأمر الذي يعكس الظروف الصعبة التي يمر بها". وأضاف البيان "من ضمن أكثر الأمور التي تختلط عليه هي عدم القدرة على التمييز بين ثورة شعبية مكتملة الأركان خرج فيها أكثر من ثلاثين مليون مصري مطالبين بدعم القوات المسلحة لهم، وبين انقلابات عسكرية بالمفهوم المتعارف عليه"، في إشارة إلى محاولة وحدات من الجيش التركي الانقلاب على حكم أردوغان في يوليو الجاري. وتؤكد تصريحات أردوغان والرد المصري، أن الأزمة بين الجانبين متجذرة، ولا يمكن تجاوزها بسهولة، كما تعكس ارتباك النظام التركي واهتزازه، على وقع الهزات التي يتعرض لها. وكانت القاهرة قد تعاملت مع الرسائل الإيجابية التي وصلت إليها من أنقرة (قبل الانقلاب) بحذر شديد واتسم خطابها بالتريّث وربطه بالمتغيرات الحاصلة على الأرض. وأظهر تصريح أردوغان بخصوص حاجة "الشعب المصري إلى الديمقراطية" عدم استعداده لتلبية أحد شروط القاهرة لتحسين العلاقات، والتي تتعلق باعتراف أنقرة بالأوضاع السياسية الراهنة في مصر، وفي مقدمتها النظام الحاكم حاليا، وأنه لا يزال مصرّا على استخدام وصف "الانقلاب"، وهو ما يجعل المؤشرات الإيجابية التي ظهرت قبل نحو أسبوعين تتوارى. وحرص أردوغان على التلويح بعلامة "رابعة"، التي يرفعها دائما أنصار الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي، في أول ظهور له بعد فشل الانقلاب في دلالة على مواصلة دعمه للإخوان. وهذه إشارات اعتبرتها جهات دبلوماسية غاية في السلبية، وتكشف عن حقيقة تقدير القاهرة لتصلّب الموقف التركي حيالها. وبدت بعض وسائل الإعلام المصرية، محتفية بمحاولة الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا مساء يوم 22 يوليو، واعتبرت أن تحرك الجيش هو خطوة على طريق تصحيح الأوضاع في تركيا. كما اعترض ممثل مصر (العضو غير الدائم) في مجلس الأمن، على فقرة في بيان جرى إعداده تشير إلى دعوة المجلس إلى "ضرورة احترام الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في تركيا". وقال عمرو أبوالعطا، ممثل مصر في الأممالمتحدة، "إن مجلس الأمن ليس من صلاحياته تصنيف أن هذه الحكومة ديمقراطية أم لا"، ودعا إلى إلغاء مسودة البيان. واعتبر نشأت الديهي، المتخصص في الشؤون التركية، أن كل محاولات الوساطة التي تقوم بها بعض الأطراف لتقريب وجهات النظر بين القاهرةوأنقرة أجهضت منذ اليوم الأول للانقلاب، خاصة أن أردوغان ينظر إلى بعض الدول الإقليمية على أنها كانت مسرورة من حركة الجيش وتنتظر سقوطه. وقال إن الخلاف بين البلدين وجودي، باعتباره قائما على الأيديولوجية، مشددا على أن أردوغان يجمع حوله الكثير من تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، ويستمد جزءا كبيرا من شعبيته وسلطته من تواجد هذه التيارات حوله، وإذا حاول التقارب مع القاهرة، فإنه قد يفقد جزءا من قوته السياسية. وفسّر الديهي ما نشر قبل محاولة الانقلاب عن بدء مرحلة جديدة من العلاقات مع دول الجوار، بأنه كلام غير دقيق، معللا ذلك بأنه لم يصدر عن أردوغان شخصيا، لافتا إلى أن قواعد اللعبة في تركيا كلها بيده وأن الباقين ليسوا سوى مجرد أدوات يحركها من حين لآخر، وحتى يكون للسياسات التركية صدى حقيقيا على أرض الواقع، يجب أن يكون أردوغان هو قائدها ومحركها. وكانت تركيا قد قررت تعديل بعض توجهاتها الخارجية، بعد سلسلة من الإخفاقات في عدد من القضايا الإقليمية، أفضت بها إلى تقديم اعتذار إلى روسيا بسبب إسقاط طائرتها فوق الأراضي السورية العام الماضي، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، عقب فترة من الممانعة السياسية، وألمحت على لسان رئيس وزرائها بن علي يلدريم إلى استعدادها لبدء صفحة جديدة مع كل من سوريا ومصر. وقال تورغوت أوغو، المدير الإقليمي لصحيفة الزمان التركية المعارضة، إن أردوغان يصعب عليه التفكير في إصلاح علاقته مع القاهرة، لكنه يستخدم رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم وغيره من المسؤولين في النظام لإبداء بعض المرونة السياسية. ولم يستبعد تورغوت المقيم في القاهرة في تصريحات ل"العرب"، حدوث تواصل بين القاهرة وفتح الله غولن المعارض التركي الموجود في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، متوقعا أن تستضيفه مصر على أرضها قريبا، بحكم أن حركة "خدمة" التي يرأسها لديها استثمارات تعليمية كبيرة في مصر، ومن الطبيعي أن يتواجد في القاهرة. موقع تركيا في سوريا تقول مصادر مطلعة إن الحكومة التركية، ورغم الأزمة الداخلية الحالية، ستبقي على ثوابتها في السياسة الخارجية في الوقت الراهن، وأنها تحتاج لمزيد من الوقت لإحداث أي تغييرات مفصلية كبرى. وترى هذه المصادر أن المواقف التي اتخذها الرئيس رجب طيب أردوغان في سوريا لجهة المطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد ودعم المعارضة هي ثوابت تمّت تعبئة جمهور حزب العدالة والتنمية بها، وأنه لا يمكن التراجع عنها بسبب الأزمة الداخلية، لما سيبثه ذلك من إشارات ضعف وتصدّع. لكن مصادر دبلوماسية غربية في تركيا رأت أن نظام أردوغان أعطى عشية محاولة الانقلاب إشارات تنمّ عن استعداد لمرونة كبرى في التعاطي مع الملفات الخارجية، من خلال تصريحات رئيس الوزراء بن علي يلدريم، والتي تحدث فيها عن ضرورة تطبيع العلاقات مع سوريا ومصر والعراق بعد أن جرى تطبيعها مع روسيا وإسرائيل. ورأت هذه الأوساط أن تصويب يلدريم لتصريحاته لجهة تطبيع العلاقات مع سوريا بعد رحيل الأسد، لا ينفي استعداد أنقرة للقيام بمراجعات كبرى في سياستها السورية. وتعتقد أوساط مقربة من أروقة القرار في أنقرة أن موقف موسكو وطهران السريع في إدانة محاولة الانقلاب ومنذ اللحظات الأولى قد يعزز علاقات تركيابروسيا وإيران، فيما تذهب توقعات أخرى إلى احتمال اقتراب تركيا من هذا المحور على حساب المحور الأوروبي الأمريكي. وترى أوساط معارضة سورية أن المصالحة التركية الروسية قد تسمح لموسكو بالمضيّ قدماً مع واشنطن في خططها السورية، لكنها في نفس الوقت ستجبر روسيا والولايات المتحدة على أخذ المصالح التركية في سوريا بعين الاعتبار، لا سيما ما يتعلق منها بالتخوّف من قيام كيان كردي على حدودها. وفيما تقرع طبول معركة حلب، وتروّج أنباء عن حشود لميليشيات تابعة لإيران تتوجه إلى المنطقة، ينقل عن بعض الفصائل العسكرية المعارضة أنها لم تلمس تغيراً في الموقف التركي إزاءها. ويرى بعض الخبراء العسكريين أن وصاية تركيا على هذه الفصائل تضمن حركتها داخل الهامش المسموح به دولياً والتي كانت أنقرة تسهر على احترامه، وأن أيّ انسحاب تركي من ممارسة هذا الدور سيجعل تلك الفصائل في حلّ من أي التزامات قد تتوصل لها التفاهمات الروسية الأمريكية. قلق أوروبي اعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، والمفوض الأوروبي لشؤون التوسيع يوهانس هاهن، أنهما يتابعان "عن كثب وبقلق" فرض حال الطوارئ في تركيا، مكرران دعوة الأوروبيين لأنقرة باحترام دولة القانون. وقال المسؤولان الأوروبيان في بيان مشترك "نحن نتابع التطورات المتعلقة بحال الطوائ التي أعلنتها تركيا بعد محاولة الانقلاب، التي أدانها الاتحاد الأوروبي، عن كثب وبقلق". وأضافا أن "هذا الإعلان يأتي في أعقاب القرارات الأخيرة غير المقبولة المتعلقة بالتعليم والقضاء والإعلام". وتابعت موغيريني وهاهن في البيان المشترك "ندعو السلطات التركية إلى احترام، في كل الظروف، دولة القانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حق كل فرد في الحصول على محاكمة عادلة". أشارت وزير الخارجية الأوروبية والمفوض الأوروبي في الوقت نفسه إلى أن أردوغان أكد أن فرض حال الطوارئ، للمرة الأولى منذ العام 2002، لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على الديموقراطية في بلاده، حيث لا تزال حملة تطهير واسعة قائمة بعد أسبوع من محاولة انقلاب فاشلة. وأضافا "ننتظر في الواقع بأن (تلك الحقوق) ستحترم بشكل كامل، وأن السلطات التركية ستتحرك بتدبير"، علما أنه تم توقيف أو تعليق مهام أو عزل نحو 60 ألف شخص خصوصا من العسكريين والقضاة والمعلمين، خلال أيام عدة، بحسب تعداد لوكالة الصحافة الفرنسية. وفي ظل حال الطوارئ، ستعلق تركيا العمل بالاتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان، بحسب ما قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة نعمان كورتلموش، ضاربا المثل بفرنسا التي اتخذت خطوة مماثلة بعد اعتداءات باريس في نوفمبر الماضي. وبالفعل يجيز البند 15 من الاتفاقية للحكومات تعليق بعض الحقوق والحريات التي تكفلها "في ظروف استثنائية" وذلك "مؤقتا وبشكل محدود ومنضبط"، ما يتيح لتركيا تجنب ادانات محتملة جديدة لاتهامها بانتهاك حقوق الانسان.