المتجول في الأحياء والضواحي الباريسية ذات الكثافة الإسلامية يدرك بسرعة مدى تمكن الجالية الإسلامية من ترسيخ مظاهر حياتها اجتماعيا وثقافيا ودينيا بداخل البلد المضيف، حيث يحمل رمضان في كل سنة إلى فرنسا عادات وتقاليد إسلامية أخذت مع تعاقب السنين حيزا هاما في مكونات النسيج الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي.. ومع أن هذه العادات تفرز أحيانا نزاعات ذات تداعيات عنصرية يغذيها اختلاف أنماط العيش من ملبس ومأكل وسلوك، فإن الفرنسيين أخذوا يتقبلون في معظمهم واقع التعددية الاجتماعية، وهم اليوم يتعايشون مع موضوع الصيام وطعام الإفطار في شهر رمضان بتفهم وتقبّل، وليس باشمئزاز أو تقزز كما كان الحال قبل أربعة عقود.. ومن مظاهر التحول في السلوك والعقلية والتعامل، الرواج التجاري الذي يشهده شهر الصيام بفرنسا وحرص المجموعات التجارية والمكتبات الكبرى وشركات الاتصال على تلبية الحاجيات المتزايدة لمسلمي فرنسا في شهر رمضان على اعتبار أنهم أصبحوا يشكلون قوة تجارية فاعلة ومؤثرة في الرواج الاقتصادي الفرنسي بشكل عام. ومنذ العقد الأخير، تحولت الأسواق الرمضانية مع تزايد الحاجيات الاستهلاكية للجيلين الثاني والثالث من المسلمين الذين ولدوا في فرنسا ويفخرون بجذورهم وهويتهم اإسلامية، إلى تجارة جد مربحة يقدر حجمها بحوالي أربعة مليارات أورو، وهي تنمو بنسبة 15 بالمئة سنويا. ولأن الرواج التجاري المرتبط بالمنتجات الرمضانية يذر على القطاع الاقتصادي أرباحا بمليارات الأوروات، فقد انتبهت المؤسسات المختصة في الأغذية والمشروبات الغازية واللحوم الحلال وحتى المكتبات الكبرى وشركات الاتصال والهواتف النقالة، إلى الحاجة المتزايدة لمسلمي فرنسا إلى هذه المنتجات في شهر رمضان، وأهمية توفيرها بكثرة على اعتبار أنهم أصبحوا يشكلون قوة تجارية فاعلة ومؤثرة في الرواج الاقتصادي الفرنسي. وعمدت شركات الاتصال والهواتف النقالة إلى إغراق السوق بسيل من الهواتف النقالة المزودة بأنظمة إلكترونية تقدم أوقات الصلاة وجهة القبلة وإمكانية الاستماع إلى القرآن الكريم والأناشيد الدينية وما إلى ذلك من الخدمات التي تقوي الجرعات الإيمانية لدى مسلمي فرنسا، حيث تشير الأرقام إلى أكثر من مليون تعبئة من طرف الشباب المسلم مع مطلع الشهر لمختلف متطلبات رمضان المبارك وفق ما توفره خدمات "الأي إيفون" أو "البلاك بري". وإلى جانب الهواتف النقالة، شهدت الكتب الإسلامية مع مطلع شهر شعبان رواجا قفز بها إلى المراتب الأولى في المبيعات التي شملت أبناء المسلمين من الجيلين الثاني والثالث، وأيضا الشباب الفرنسيين الذين يستهويهم مناخ رمضان ويدفعهم الفضول إلى سبر أغوار هذه العقيدة التي يؤمن بها خمس البشرية، وفهم مقاصدها ودلالاتها. وتشهد المشروبات الغازية الإسلامية هي الأخرى، مثل "مكة كولا"، و"عرب كولا"، و"زمزم كولا" وغيرها، إقبالا متزايدا من جانب المسلمين منذ الأيام الأولى من شهر شعبان الذي يشهد إقبالا كبيرا على الصوم. وسبب اقتناء المشروبات الغازية الإسلامية، كما تشرح ذلك بعض الجمعيات والمنظمات الإسلامية، يعود من جهة إلى الإصرار الحثيث للزبائن المسلمين على مقاطعة البضائع الأمريكية، وخاصة "كوكاكولا" أمام ما يشاهدونه يوميا من إبادة للشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى إلى ما تضفيه هذه المشروبات على إفطار الصائم من صبغة تعبدية في شهر رمضان، خاصة حينما يعلم أن 20% من عائدات بعضها، مثل مشروب "مكة كولا"، تذهب إلى الأسر الفلسطينية المنكوبة. ويتحول شهر رمضان المبارك في كل سنة إلى فرصة اقتصادية هامة للمجموعات التجارية الكبرى مثل "كارفور" و"كازينو" و"أوشان" وغيرها لكي تقفز على الأزمة الاقتصادية باستقطابها القوة الشرائية المسلمة التي تصرف ببذخ في شهر رمضان، وذلك من خلال توفير مطالبها التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية ليس فقط فيما يتعلق باللحوم المذبوحة، بل أيضا مختلف المنتجات التي تضمن عدم احتوائها على دهون حيوانية أو مواد لا تقبل بها الشريعة الإسلامية. ويستند اتساع المساحة التي تعطيها المؤسسات الكبرى لهذه المنتجات إلى نمو موضوعي لا يهدد بحال المتاجر الصغيرة التي ما زالت تؤمن قرابة ال 80% من السوق الحلال. أما الجديد الذي طرأ على هذه السوق هو تبلور شريحة اجتماعية جديدة من مسلمي فرنسا الذين يتواجدون اليوم في كل مكان من مساحات فرنسا الكبيرة، والذين يحتاجون لأن توفر لهم السوق الفرنسية العامة بمؤسساتها التجارية المعروفة ما يحتاجونه من منتجات تتوافق مع شريعتهم في أي مكان حلّوا به.. وضمن هذه الرؤية دخلت مجموعة "بيير مارتينيت" الرائدة عالميا في مجال الأغذية، مضمار السوق الحلال في فرنسا. وطلبت المجموعة التي حققت عام 2014 مبيعات عالمية بمبلغ 103 مليار دولار، من "مسجد باريس" الحصول على شهادة اعتماد اللحوم الحلال وبيان الطريقة التي يجب اتباعها في تذكية اللحوم. والمنتجات التي يحتاجها الفرنسي المسلم أو أعضاء الجالية العربية والإسلامية لا تأتي كما قد يتصور البعض من الخارج ويتم استيرادها بمناسبة رمضان، ذلك أن أكثر من 90% من منتجات الحلال التي تستوعبها السوق الفرنسية هي منتجات وطنية فرنسية، وهو ما يعكس الدور الذي يلعبه مسلمو فرنسا كقوة اقتصادية مؤثرة في بنية الاقتصاد الفرنسي إنتاجا واستهلاكا.