في مصانع الموت تبدو الحياة زخما في تحفة المخرج المجري لازلو نمس في أولى أفلامه الطويلة " ابن شاوول " ، سيّجنا بعمله هذا بين الموت والموت ، و أدخلنا معه في جحيم الرعب لمدة ساعتين تقريبا . كنا نعتقد أن المخرج بفيلمه هذا سيعيد مأساة اليهود و أسطوانة المحرقة المشروخة التي تناولها أكثر من فيلم بغية تضخيم أرقام الأرواح وتهويل الفظائع ، لكنه كان عكس ذلك ، فقد نزع عن المحرقة قدسيتها و دعائيتها الفجة وتناولها في قالبها الإنساني المحض احتفاء بالضحايا الذين قضوا فيها . يأخذنا الفيلم رفقة البطل " شاوول أوسلاندر " الصامت دائما ، ذي الملامح الجامدة كأنه صخرة بدون عواطف أو أحاسيس ، وهو يهودي اختير مع مجموعة من داخل المعسكر للقيام بالمهام القذرة التي يتحاشى النازيون العمل بها ، يعملون مضطرين للتّخلص من اليهود الذين يستقدمونهم في عربات القطار ، والإشراف على نزع ملابسهم وتفتيشها وتجريدهم من كل شيء، ثمَّ دفعهم لغرف الغاز و سحب الجثث لحرقها وتنظيف الأرضيات، ثم در الرماد في البحر و كأن شيئا لم يكن ،مقابل بعض الطَّعام الزائد وإبقائهم على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة حتَّى يحين دورهم.. هي مصانع الموت النازية بمعنى الكلمة . يحدث أن " شاوول " وهو ينظف أرضية حجرة الغاز من الدماء والجثث يلحظ طفلا مازال يتنفس .. تقوده غريزته للبقاء جنب الطفل ومعرفة ما يحدث له ، يقترب ممرض عسكري نازي ،بعد فحصه يخنقه بيديه ويطلب تشريح جثته .. لماذا بقي شاوول مرتبطا بالطفل طول مجريات أحداث الفيلم ؟ لأنه ببساطة الوحيد الذي استطاع أن يهزم الموت ، و أن ينتصر على الآلة الجهنمية ، فكل تنفس للطفل كان يربك أعتى الأنظمة العسكرية و يجعلها تعيد حساباتها في قوة الإنسان رغم آليات الموت المتعددة .. إنها قوة روح المستقبل التي لا تنتهي بكبسة زر ، أو برصاصة من بندقية . بعد أن وصل أجل هؤلاء العمال ومنهم " شاوول " لإدخالهم إلى غرف الغاز تحدث انتفاضة ، يستطيعون من خلالها الهرب من المعسكر ، لكن " شاوول " كان همه الوحيد هو البحث عن حاخام ليصلي على جثة الطفل الذي كان يقول بأنه ابنه ( لا نعرف إن كان ابنه حقا ، يسأله صديقه بأنه لم يتزوج بعد ، يكون الصمت هو الجواب كالعادة ) ودفنه بطريقة لائقة . في المشهد الأخير ،وبعد أن استعصى عليه دفن الصبي وهو في حالة فرار من الجنود النازيين الذين يطاردونه ، يتراءى له الصبي واقفا ينظر نحوه ، ولأول مرة نشاهد نصف ابتسامة على وجهه الصخري ، وكأنه يقدم له مشعل الحياة للإستمرار في العيش رغم مرارة الموت . فيلم " ابن شاوول " توّج بالجائزة الكبرى في مهرجان "كان" السينمائي في الدورة الماضية ، وحصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقَّاد السينما كأحسن أفلام المسابقة، وجائزة اللجنة العليا الفرنسية للتقنية السينمائية عن شريط الصوت الذي أعده "تاماش لازني"، كما فاز بالأوسكار كأحسن فيلم أجنبي.