في الوقت الذي يلف العالم العربي الضباب، وتهبّ الرياح الهوج عاصفةًُ جائحةً تكاد تقتلع الأوتاد، ويسود الغموض الأوضاع السياسية في غالبية الدول العربية، يقف المغرب صامداً ثابتاً لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه الحوادث، يحمي وحدته الترابية، ويصون سيادته، ويحافظ على استقلاله، رافضاً للتدخل الأجنبي، ومواجهاً للمؤامرات التي تحاك ضده في الخفاء وفي العلن، في يقظة تجعله على استعداد دائم للتحرك في الاتجاه الصحيح، ولا يتردد في القيام بما يلزم للدفاع عن حقوقه ومكتسباته في وجه أي معتدٍ أياًّ كانت صفته، اقتناعاً منه بأن القضية الوطنية المركزية هي فوق كل اعتبار وغير قابلة للمساومة. وفي خضم الصراعات التي تحتدم والنزاعات التي تتفاقم في مناطق شتى من العالم العربي، وفي الوقت الذي يغرق العرب في بحر من الأزمات والحروب والتوترات والتمزقات، فإن المغرب يعرف كيف يتغلب على المشاكل، ويذلل الصعاب، ويتجاوز الأزمات، ويتخطى المثبطات، ويقف شامخاً في وحدة متراصة، وفي جبهة وطنية متماسكة، وبقيادة ملكية حكيمة، يأبى أن يرضخ للمساومات، أو يذعن للمناورات، أو يضعف أمام المناوشات، أو يتخاذل في معركة الوجود وحماية الحدود، أو يفرط في حق من حقوقه، أو يتوانى في العمل السياسي والحراك الدبلوماسي من أجل قضيته العادلة غير القابلة للتصرف فيها بغير الإرادة الوطنية الحازمة المصممة على التحدّي، مهما تكن التكاليف، وبلغت ما بلغت المضاعفات. ولئن كان المغرب جزءاً لا يتجزأ من المجموعة العربية، له موقعًه المتميّز في جامعة الدول العربية، فإن الحكمة البالغة التي تتميّز بها قيادته الملكية، تجعله لا يعتمد كلياً على الدعم العربي في معركته الوطنية من أجل تعزيز وحدته الترابية التي يخوضها أمام المتآمرين على سيادته والطامعين في صحرائه المسترجعة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن العرب غارقون حتى الأذقان في التمزقات والنزاعات، ولأن النظام العربي بات هشاً فاقداً للمناعة مفتقداً للقوة والصلابة. ولئن كان المغرب من مؤسسي منظمة التعاون الإسلامي، وجزءاً لا يتجزأ من الكتلة الإسلامية، فإنه على يقين بأنه لا يمكن أن يعول على هذه المجموعة، لأنها فاقدة للفعالية والتأثير في حل الأزمات وتسوية المشاكل والخروج من المآزق، وهي إلى ذلك غير متجانسة، ولا هي متماسكة، وليست بقادرة على التحرك السليم وفي الوقت المناسب. وليس معنى ذلك أن المغرب ينأى بنفسه عن الشؤون العربية، ويبتعد عن قضايا العالم الإسلامي، فهذا ضد طبائع الأشياء، وليس في الإمكان أن يكون، ولكن المعنى الذي أقصد إليه، هو أن المغرب يعتمد على نفسه في دفاعه عن وحدته الترابية، وفي صموده في وجه مناوئيه وخصومه والمتآمرين عليه، فهو بوحدته الوطنية المتماسكة، وبرؤيته الشمولية إلى آفاق الحاضر وأبعاد المستقبل، وبقدراته الذاتية، وبقيادته الملكية الحكيمة، قادر على أن يحبط كل المؤامرات، وعلى أن يحقق الانتصارات، وعلى أن يكسب الرهان وينتصر في المعركة. لأن العالم العربي والعالم الإسلامي في وضع لا يعتمد عليهما فيه، ولن يقف المغرب مكتوف الأيدي في انتظار أن يفيق الأشقاء من السبات، وحتى يمتلكوا القدرة على العمل المؤثر الذي يحمي المصالح الحيوية للدول الأعضاء. إن العلاقات المغربية مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، جيّدة ومتميزة. وكذلك هي العلاقات المغربية مع دول الاتحاد الأوروبي. ولقد كان للموقف الذي اتخذته الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وإسبانيا في مجلس الأمن خلال الأسبوع الماضي، الأثر النافذ في إحباط المحاولة التي قام بها الأمين العام للأمم المتحدة لاستصدار بيان من مجلس الأمن يدين المغرب. ولنا أن نطرح هذا السؤال، ونبني حساباتنا على أساس الإجابة المفترضة عنه : إلى متى ستبقى بعثة الأممالمتحدة فوق صحرائنا المغربية المسترجعة؟. ومتى سينتهي هذا المشكل المفتعل الذي طال أربعة عقود؟. هو في الحقيقة سؤال مركزي واحد بصيغتين اثنتين نخلص منهما إلى السؤال التالي : هل يمكن للمغرب أن يطلب من مجلس الأمن الدولي إنهاء مهمة بعثة الأممالمتحدة في صحرائنا المغربية؟. هل سيكون هذا الطلب إذا تقدم به المغرب، منسجماً مع التزاماتنا الدولية، وليس فيه انتهاك للقانون الدولي؟. وماذا ستكون مضاعفاته وتداعياته وتكاليفه التي علينا أن نتحملها؟. إن الاسم الكامل للمينورسو هو : (بعثة الأممالمتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية)، فأي استفتاء هو؟. وهل مازال في الإمكان إجراء الاستفتاء؟. ألم يتجاوزه الزمن؟. ولكن ما يربط الدول ويجمع بينها هي المصالح، وليس العلاقات الثنائية القائمة على التقدير والاحترام المتبادل. ومصالح الدول لا تثبت على حال، فهي تتحرك من مرحلة إلى أخرى، ومن ظرف إلى آخر. وللدول العظمى حساباتها الخاضعة للمنطق السياسي المحض، وليس للقيم الأخلاقية وللمبادئ الإنسانية. بل حتى القوانين الدولية يخضع تفسيرها للحسابات السياسية ولمصالح القوى العظمى. فلا ثقة بتاتاً في الأقوياء القادرين على اللعب على المسرح الدولي بمهارة، منتهكين لميثاق الأممالمتحدة وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتلك حقيقة من حقائق هذا العصر، قد نجد مرارتها لا تطاق. ولذلك فإن المصالح الوطنية تبنى على الحسابات الواقعية، وليس على التوقعات والاحتمالات والافتراضات. ولا ينفع في هذه الحالة إلا الاعتماد على القدرات الذاتية في الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للوطن. فهل قدر علينا أن نعيش مع هذه الأزمة جيلاً بعد جيل؟. وهل هي أزمة مزمنة إذن؟. وهل أعدَّ المغرب العدة للتكيف مع هذا الوضع غير الطبيعي، وترتيب سياساته على أساس استدامة الوضع المتأزم؟ أم أن المغرب محكوم عليه بمواجهة الأزمة التي تكلفه غالياً، لأن القوى العظمى شاءت ذلك ولا راد لمشيئتها؟ فهل هذه الأزمة التي طالت أكثر من اللازم، هي وجه من وجوه (لعبة الأمم) الجديدة التي تجرى على مسرح السياسة الدولية ويشارك فيها الكبار؟. الأمر المؤكد الذي لا يمكن أن يكون موضع شك، هو أن مجلس الأمن الدولي قد عجز حتى الآن عن إيجاد تسوية للمشكل المفتعل الذي بات من المشاكل الدولية المعقدة. ولا أحد يستطيع أن يفيد بأن مجلس الأمن قد اقترب من إنهاء المشكل وتسوية الأزمة، والقبول بالمقترح المغربي الذي وصفته الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بأنه جدي وواقعي وذو مصداقية.