في خضم حالة الفزع التي تعيشها بلجيكا بعد هجمات المتشددين الثلاثاء المنصرم، والتي خلفت أكثر من ثلاثين قتيلا وعشرات الجرحى، يقفز سؤال مهم إلى الواجهة: كيف سترد أوروبا على تلك الهجمات التي استهدفت بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، وكانت موجهة في دلالتها الرمزية إلى جميع الأوروبيين؟ يقول خبراء إن على أوروبا، قبل الحديث عن مواجهة المجموعات التي قد تكون قد تسللت مع اللاجئين، أو مواجهة الخلايا النائمة التي نفذت على الأرجح هجمات الثلاثاء، أن تعيد استراتيجيتها في فتح الأبواب أمام المتشددين للقيام بأنشطة تربوية وتعليمية تمثل أرضية لاستقطاب الشباب الأوروبي ودفعه إلى تنفيذ عمليات إرهابية كهجمات بروكسل ومن قبلها باريس. وأشار الخبراء إلى أنه من الصعب أن تراقب تحركات مجموعات من الشباب سواء داخل أوروبا أو خارجها في ظل قوانين متساهلة، لكن من الممكن منع عمليات الاستقطاب منذ البداية بمراقبة أنشطة الجمعيات والمنظمات التي تروج لأفكار متشددة، وإجبارها على الالتزام بالقيم الأوروبية أو إغلاقها. وتحتاج أوروبا قبل ذلك إلى أن تعيد النظر في تصنيفها المتساهل للجماعات التي تنشط على أراضيها، فالإرهاب لا يبدأ من سفر شبان أوروبيين من ذوي أصول عربية وإسلامية إلى سوريا والعراق أو ليبيا للتدرب هناك على الأسلحة، بل يبدأ قبل ذلك من داخل منظومة أفكار تحث الشباب على تكفير المجتمع ومحاربته لإقامة "الدولة الإسلامية" أو "دولة الخلافة"، وهي أفكار تتردد بشكل دائم في أدبيات جماعات تنشط في العلن مثل جماعة الإخوان المسلمين بمختلف فروعها، وحزب التحرير. وتجمع آراء كثيرة على أن دولا أوروبية أخرى، غير بلجيكا وفرنسا، معرضة لمثل هذه الاعتداءات وأن المحاذير الجماعية يجب أن تكون على درجة عالية، لكنها تجمع على صعوبة منع تام للتفجيرات. وهجمات بروكسيل، ومن قبلها باريس، هي بمثابة تذكير كم هو سهل على الخلايا الإرهابية الهجوم على عصب المدن الأوروبية وشلها في ظل محدودية التنسيق الأمني والاستخباري، وتركيز مختلف الدول على قضية استقبال اللاجئين ومحاذيرها الأمنية والاجتماعية. ومن الصعب على أي دولة القول إنها بمنأى عن هجمات المتشددين، فأكبر العواصم الأوروبية سبق أن استهدفتها تفجيرات دامية منذ 2001 مثل مدريدولندن وباريس. وقال المحلل البريطاني إيوين ماكأسيل في مقال له نشرته صحيفة الغارديان إن "الأجهزة الأمنية في بريطانيا تتوقع أن تتعرض البلاد لهجمات مشابهة للتي وقعت في بروكسل، والمسألة مسألة وقت". وتقول الأجهزة الأمنية إنها "كشفت وأبطلت سبع هجمات، لكنها لن تتمتع بالحظ في كل مرة". وتنسب الصحيفة إلى الخبير الأمني رافائيلو بانتوتشي القول إن "هناك اختلافات جوهرية بين بريطانيا وبقية دول أوروبا". ويعدد بانتوتشي بعض أوجه الخلافات، ومنها صعوبة الحصول على السلاح والذخيرة في بريطانيا، وتحول جذري شهده مفهوم العنف الإسلامي، حيث انتقل من الاعتماد على الآسيويين إلى الاعتماد على العرب، وهم أكثر تركيزا في بقية أنحاء أوروبا، كذلك فإن الموانئ البريطانية تشكل عائقا. ويميل بعض البريطانيين إلى القول إن هذه مبررات كافية لتشجع بريطانيا على التمسك بالبقاء خارج الاتحاد الأوروبي لتنجو من الإرهاب. لكن محللين يقولون إن أجزاء العالم متصلة ببعضها البعض، حيث يتنقل الأشخاص والأفكار بنفس السهولة، سواء كان هناك اتحاد أو لم يكن، وبالتالي ليس هناك مبرر لاستخدام هذه الهجمات لدعم فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي أو العكس. وستزيد هجمات بروكسيل من الضغوط التي تسلط على المسلمين في أوروبا بسبب تساهل السلطات مع أنشطة المتشددين، ليبدو أفراد الجالية وكأنهم يتبنون تلك الأفكار، مع أن تقارير مختلفة تقول إن تعاطف الجاليات مع الأفكار المتطرفة محدود. وارتفعت أصوات سياسيين غربيين بارزين تحمل المسلمين مسؤولية مباشرة عما يجري، وتتهمهم بالتواطؤ وعدم التبليغ عن تحركات المشتبه بهم. وقال دونالد ترامب المرشح الجمهوري المحتمل في الرئاسة الأميركية إن المسلمين لا يبلغون عن الأنشطة المريبة. وأضاف في مقابلة بثتها قناة آي.تي.في البريطانية "عندما يستشعرون مشكلة ما عليهم أن يبلغوا عنها. لكنهم لا يبلغون. لا يبلغون عنها إطلاقا وهذه مشكلة كبيرة". لكن وزيرة الداخلية البريطانية تيريزا ماي ردت على ترامب وقالت إنه أخطأ "خطأ بينا" بقوله إن مسلمي بريطانيا لا يبلغون عن أنشطة المتطرفين المشتبه بها. وأضافت ماي للبرلمان البريطاني "فهمت أنه قال إن المسلمين في المملكة المتحدة لا يبلغون عن الأشياء المثيرة للقلق. هذا ليس الوضع بالقطع، لقد أخطأ خطأ بينا". وكان الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند قد قال إن التخطيط لهجمات باريس تم في الخارج "مع تواطؤ داخلي"، في إشارة إلى وجود حاضنة للمتشددين في محيطهم الأسري والاجتماعي. ردود فعل.. من جهتها أعلنت بولندا أنها لم تعد مستعدة لاستقبال 7500 لاجئ وافقت على استقبالهم خلال مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وذلك على خلفية هجمات بروكسل، في خطوة قال خبراء إنها كانت متوقّعة وينتظر أن تمتدّ إلى دول غربية أخرى، وأيضا ستعيد ملف المهاجرين في الولاياتالمتحدة إلى الواجهة. وكان مرشّح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب أول من أدلى بتصريحات معادية للمسلمين والمهاجرين بعد ساعات قليلة من الإعلان عن الاعتداءات التي ضربت مطار زافينتيم ومحطة مترو أنفاق ميلبيك في بروكسل. وقال ترامب في تصريحاته "إذا كان المرشحون للهجرة مسلمين فيجب أن يخضعوا للمراقبة بدقة". وأكد في تصريحات لشبكة إن بي سي أن المسلمين "لا يندمجون في دول أخرى"، مؤكدا من جديد أنه سيفرض استخدام التعذيب و"أكثر من الإيهام بالغرق" المحظور في الولاياتالمتحدة منذ أن طبقته وكالة الاستخبارات المركزية على أشخاص يشتبه بتورطهم في اعتداءات 11 شتنبر 2001. وعلّق على تصريحات ترامب المحلل نيت سيلفر حيث قال "يجب أن نتوقع المزيد من هذه التصريحات من ترامب لأن هجمات باريس وسان برناردينو أدت إلى تعزيز موقعه في استطلاعات الرأي على المستوى الوطني". ويبدو أن هذه النقاط التي كسبها ترامب دفعت منافسه الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية تيد كروز إلى اقتراح تسيير دوريات في أحياء المسلمين. وقال السناتور المحافظ المتشدد عن تكساس تيد كروز في بيان بعد اعتداءات بروكسل "علينا أن نسمح لقوات الأمن بالقيام بدوريات والحفاظ على الأمن في الأحياء المسلمة قبل أن تصبح متطرفة". وهذه هي المرة الأولى التي يستهدف فيها كروز المسلمين، وليس المسلمين المتطرفين فقط. وكان قد توعد الجهاديين "بوابل من القنابل" بعد هجوم سان برناردينو في كاليفورنيا في ديسمبر الماضي، الذي ارتكبه زوجان مسلمان متطرفان. الجهاديون في أوروبا يمتلكون هامش تحرك يتيح لهم تحديد أهدافهم وتوقيت عملياتهم ومرجعيتهم في سوريا والعراق وبدا كروز "متفهما" عندما اقترح ترامب المرشح الأوفر حظا للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية، منع المسلمين من دخول الولاياتالمتحدة خوفا من أن يتسلل معهم متطرفون. وكرر كروز، المقتنع بأن الإسلام المتطرف يخوض "حربا" ضد الولاياتالمتحدة، أنه "يجب أن يوضع حد فورا لبرنامج الرئيس الأميركي المتمثل في جلب عشرات الآلاف من المسلمين السوريين". لكن، رد مدير الاتصال في شرطة نيويورك جي بيتر دونالد، على كروز في تغريدة كتب فيها "تيد كروز، هل يشكل حوالي ألف شرطي مسلم ‘تهديدا' أيضا؟ من الصعب تصور تصريح أكثر تحريضا وسخفا". ويذهب الناشط اليميني الأمريكي هيربرت لندن، إلى أبعد من ذلك واصفا ما يجري بقوله "لقد بدأت الحرب الأهلية. وهذه ليست حربا يعترف بها الزعماء الأوروبيون، بل هم في الواقع ينكرون وجودها". ويضيف هيربرت لندن، في مقال سبق اعتداءات بروكسل وجاء ردّا على مجموعة من الحوادث الأمنية في السويدوألمانيا، "لا داعي للقول إن المتعاطفين تأسرهم الشفقة التي يشعرون بها تجاه اللاجئين الهاربين من أزمات الشرق الأوسط، ما لا يفهمونه هو أن هؤلاء اللاجئين تربوا في إطار عقيدة في تصادم نشط مع الثقافة الغربية. هناك سياسيون مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعتقد أنه يمكن إدماج اللاجئين، لكن الكثير في بلدها يشككون في هذا الزعم، فهم يعيشون ويتنفسون ألمانيا جديدة، الاعتداءات فيها حدث يومي". "المعارضة تمضي قدما، وهنا لا نتحدث فقط عن معارضة البرلمانيين، بل نتحدث كذلك عن معارضة الرجال في الشارع الذين يتحمسون لحماية نسائهم. وأعتقد أن الظروف ستسوء إلى تلك اللحظة التي يقبل فيها القضاة والسياسيون حقيقة أن الاندماج لم ينجح، وعلى اللاجئين إما أن يقبلوا قوانين وتقاليد البلدان التي استضافتهم ورحبت بهم وإما سيجبروا على المغادرة. وقد يكون ذلك هو الحل الأمثل للحرب الأهلية التي تدور رحاها في القارة الأوروبية". وانضم وزير إسرائيلي إلى موجة الاتهامات للدول الأوروبية بالتساهل في مواجهة الإرهاب، حيث قال إسرائيل كاتز، وزير الاستخبارات والمواصلات، ساخرا من حب البلجيكيين للشوكولاتة، "لو واصلوا في بلجيكا أكل الشوكولاتة والاستمتاع بالحياة وتقديم أنفسهم بوصفهم ديمقراطيين وليبراليين، ولم يأخذوا في الاعتبار أن قسما من المسلمين هناك يقوم بتنظيم أعمال إرهابية، فإنهم لن يكونوا قادرين على محاربتهم". وانتقد الوزير من حزب الليكود اليميني، الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أيضا الرئيس الأمريكي والمسؤولين الأوروبيين لأنهم غير مستعدين "للقول إن المعركة هي ضد الإرهاب الإسلامي". وأضاف كاتز "عندما لا نقوم بتعريف العدو، فلا يمكننا خوض حرب عالمية" ضده. سياسة الهجرة انتقد المرشحان الجمهوريان الأميركيان وغيرهما من المسؤولين الأوروبيين المعارضين لسياسة الهجرة، تعامل الحكومات الأوروبية، وخصوصوا بلجيكا، الذي اعتبروه سياسة متساهلة جدا وسمحت، بحسب ترامب "بتدفق إرهابيين متطرفين إسلاميين إلى أوروبا". وطالما كانت سياسة بلجيكا محطّ انتقادات تقول إن سياستها وانفتاحها على المهاجرين واستقبالهم ساهمت في دخول عدد كبير من المسلمين إلى البلاد التي عجزت في ما بعد عن استيعابهم. وتواجه السلطات البلجيكية اتهامات بإهمال المسلمين وعدم إيجاد وظائف لحمايتهم من الساعين لجذبهم إلى صفوف المتطرفين. ومن الممكن أن يصل معدل البطالة بين الشباب إلى 40 في المائة في بعض المناطق في بلجيكا رغم ثرائها. وتفيد إحصاءات الأممالمتحدة بأن أكثر من مليون مهاجر قد وصلوا إلى أوروبا في 2015، هربا من النزاعات المسلحة في كل من أفغانستان والعراق وسوريا. وفي بلجيكا وحدها ذكرت دراسة أمريكية، أنجزها مركز "بيو" حول الدين والحياة العامة، أن عدد المسلمين سينتقل من 6 في المائة إلى 11.8 في المائة في عام 2050. وتضيف ذات الدراسة أن بلجيكا، التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، ستكون الدولة الأوروبية الثانية بعد السويد، التي لديها أكثر من 10 في المائة من المسلمين من عدد سكانها، ومعظمهم سيكونون نتيجة موجات جديدة من الهجرة. وخرج من بلجيكا مقاتلون جهاديون تعتبر نسبتهم مقارنة بعدد سكان هذا البلد، الأعلى من أي بلد أوروبي آخر، ويعتقد أن حوالي 500 جهادي غادروها للقتال في الشرق الأوسط وانضم الكثيرون منهم إلى تنظيم داعش المتشدد. وأثبت هجمات بروكسل، وقبلها هجمات باريس، أن تنظيم الدولة الإسلامية نجح خلال سنوات قليلة في إنشاء شبكة متمكنة في القارة الأوروبية وذلك نتيجة قدرته على تجنيد متطرفين يحملون الجنسية الأوروبية. ويقول روبرت تايلوت، الأستاذ في جامعة دالاس والخبير في سياسات مكافحة الإرهاب، "إنها اعتداءات منسقة ومخطط لها جيدا". ويضيف "أشك أن القرار اتخذ من أبي بكر البغدادي نفسه، بل أعتقد أننا نتحدث عن خلايا تتحرك باستقلالية". وبدوره يؤكد ج.م برغر، الباحث في شؤون التطرف في جامعة جورج واشنطن أن "هؤلاء الذي يتحركون على الأرض يمتلكون هامش تحرك في ما يتعلق بتحديد أهدافهم وتوقيت عملياتهم". التخطيط في سوريا والعراق رغم أنه ليس واضحا حتى الآن ما إذا كانت تلك الخلايا تحصل على الضوء الأخضر مباشرة من زعيم تنظيم داعش أبي بكر البغدادي أم لا، فإن هامش الاستقلالية الذي تملكه لا يعني أيضا أنها تتحرك بحرية كاملة. ويقول الباحث أيمن التميمي، الخبير في شؤون الجهاديين في مركز الدراسات الأميركي منتدى الشرق الأوسط "إن هجمات بروكسل كما تلك التي وقعت في باريس معقدة جدا لا يمكن أن تكون من تخطيط ذئاب منفردة (أي عمل فردي)". ويضيف "يعكس ذلك القدرة العملية التي بدأ تنظيم الدولة الإسلامية في تطويرها منذ نهاية العام 2014 وبداية العام 2015 لشن هجمات في أوروبا"، موضّحا أن "قضية مدى اطلاع البغدادي وقياديين آخرين في تنظيم الدولة الإسلامية على تفاصيل العمليات قبل تنفيذها تبقى موضع جدل". ويؤكد برغر بدوره أن "القيادة المركزية لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق وفرت على الأغلب جزءا إن لم يكن كافة الموارد الإنسانية والتقنية والمالية المستخدمة في هذا الاعتداء". وبالنتيجة يبدو أن منفذي الهجمات عبارة عن جهاديين قاتلوا في سوريا والعراق ولديهم مهمة لشن تلك الهجمات ردا على الرسالة العامة لتنظيم الدولة الإسلامية بضرب أي مكان في العالم. ومنذ العام 2014 وتحديدا مع بدء الحملة الجوية للتحالف الدولي بقيادة واشنطن ضده، يدعو تنظيم الدولة الإسلامية إلى قتل المدنيين الأوروبيين والأميركيين. وفي عدة أشرطة فيديو ترويجية، هدّدت عناصر من التنظيم أوروبا باستهدافها بهجمات، وهذا فعليا ما حصل إن كان في بروكسل الثلاثاء الماضي، أو في باريس في يناير ونونبر 2015. ولا تقتصر هجمات التنظيم على أوروبا، بل استهدفت أيضا تونس مرات عدة كما بيروت واليمن ودول خليجية وأفريقية.