الإبداع السينمائي عملية معقدة ولا يمكن حصره في لغة محددة، السينما لغة مستقلة ،لأنها تستعمل أنظمة متعددة من العلامات وقواعدها جد محدودة ولا تستطيع أن تكتفي بذاتها، وبالتالي تضم كل الأشكال التعبيرية الفنية وكل أنماط التواصل. السينما فن التفاصيل بامتياز، لا التفاصيل التي تخص اللغة السينمائية فقط، ولكن تفاصيل مرتبطة بأنشطة الحياة، قد يتعلق الأمر بإحدى المهن، أو لحظة تاريخية، أو عادات و تقاليد لمناطق جغرافية معينة... السينمائي مطالب في أي عمل جديد أن يسافر في سياقات اجتماعية، نفسية وسياسية جديدة ليفهمها إلى درجة التماهي، ليتمكن من سردها بشكل مقنع. سينمائيا لا شيء من ما يرى أو يسمع في أي فيلم فهو بديهي، يكفي مثلا، أثناء عملية المونتاج أن تحذف ثانية أو أقل من ثانية ليتغير معنى المشهد أو اللقطة، ويكفي أن تغير موقع مشهد أي أن تؤخره أو تقدمه فيتغير معنى الفيلم أو يصبح أكثر وضوحا. أثناء التصوير يمكن أن ننتظر ساعات لنحصل على الإضاءة المناسبة أو التدقيق في تفاصيل لا تظهر من الوهلة الأولى لكي تخدم المعنى بشكل مباشر، ولا ينتبه إليها المشاهد. رغم ذلك نعرف أنها مهمة وتساهم في بناء المعنى وأجواء الفيلم، وأن عقل المتفرج ينتبه إليها ويلتقطها. إعادة النظر في العملية الإبداعية (أي المقاربة النقدية) هي إعادة تركيب العمل بشكل يسمح بالوصول إلى مستويات أعمق في القراءة، لا كنص مفسر أو مرافق لنفس العمل، لكن كتنويع موسيقي وكامتداد للنص الأصلي /الفيلم، لتجعل المتعة تستمر حتى بعد العرض الطريق إلى ذالك يتطلب السفر مشيا على الأقدام للتمتع بالطريق، والتسرع يقود إلى تكوين أحكام قطعية من خلال قراءات بانورامية تتعالى على التفاصيل. كما التأني يحمل العمل معاني، مواقف سياسية، نظريات جمالية وتأويلات تتجاوز طاقة العمل وإمكانيات صانعه، ويكون سابقة الوجود على العمل نفسه. السينما لا تصنع من أجل ذاتها و لا للفرجة فقط، ولكنها قد تتجاوز دورها عندما تحشر في معارك سياسية لا علاقة لها بها، وتستعمل في خطاب ليست هي مكونا فيه، ومفروضة من خارج النص ولا توجد إلا كتوضيح أو تبيين لخطاب سابق الوجود . عندما تصنع السينما بهذا المنطق قد تكون مربحة من الناحية التجارية لمنتج العمل في المدى القصير أو ربما المتوسط ، ولكنها في نفس الآن تؤسس لخطاب سينمائي يحاول أن يكون معلقا على الأحداث دون أية مسافة زمنية و نقدية ، و تنتج أعمالا لا تتجاوز حياتها اللحظة التي أنتج فيها. أي أننا مع الوقت نصبح في وضع لا يمكن فيه أن نتخيل إبداعا خارج الإثارة والضجة، ولا يمكن أن تكون هناك سينما تأخذ وقتها في التفكير في ذاتها و في الواقع. على سبيل المثال لا الحصر و بمناسبة الربيع العربي أنجزت مجموعة من الأعمال السينمائي الوثائقية بحماس وانفعال مبرر في لحظته وبدافع رومانسي ثوري، وبفهم متسرع لما يجري، أعمال تتبنى شعارات رنانة من قبيل إرادة الشعب و كل تفريعات الشعار من اسقط الاستبداد والفساد...لكن مباشرة بعد ذلك، نكتشف أن الأمور تطورت سياسيا في اتجاه لا يشبه البتة المنطلقات، الشيء الذي يعيد النظر فيما حصل و نسبة مساهمة إرادة الشعب فيه . في مدة زمنية لا تتجاوز بضع سنوات ، فقدت من هذه الأعمال طراوتها ،شاخت سريعا و لا يمكن مشاهدتها الآن و في المستقبل إلا كوثائق. إن موقع السينمائي في التاريخ يبدأ من الهامش. إما أن يكون سابقا على زمانه أو يأتي بعده ليأخذ وقته في فهم الأمور. حينما يختار السينمائي أن يكون في الآن يفقد استقلاليته و يصبح تابعا، أي يشتغل تحت الطلب بشكل واع أو بعفوية مغلوطة .إن المسافة الزمنية تعيد للتفاصيل قيمتها ، وتصبح الكتابة أعمق من الشعارات و أعمق من الاضطلاع بمهام الآخرين. الفيلم السينمائي لحظة مقتطعة من الحياة تقدم لنا في شكل فرجة تخلق المعنى و لا يجب أن نحولها إلى خطبة أو درس ممل في القسم.