لابد من الإشارة إلى أن ما سمي (بإلغاء) (بيداغوجيا) الإدماج كان أمرا ملتبسا لأن المذكرة الصادرة في الأمر تنص على توقيفها في السلك الثانوي الإعدادي ، بينما تترك المجال مفتوحا أمام التأويل في السلك الابتدائي لاقتران الاشتغال بها بمجلس المؤسسة. لقد كان و ما يزال السؤال مفتوحا حول تبنيها أو إلغائها، وحول ماهيتها ما إذا كانت بيداغوجيا في ذاتها أم لا. صحيح أنها خلقت حولها بلبلة بين الرافض لها و القابل بها و المتبني لها و المريد لشيوخها و المستفيد من إمكاناتها ...إلخ؛ غير أن الأمر لم يبلغ إلى درجة الحوار الفكري بشأنها، و لربما أنها أصبحت الحل الوحيد والتصور الوحيد بالنسبة للكثيرين من أشياعها و غير مشايعيها فبدا النقد كأنه جرما أو كفرا. نشير إلى أننا حاورناها منذ 2006 و نشرنا بصددها مقالات كثيرة ، ثم واصلنا نقدنا لها في سنة 2008 و 2009 و 2011/2012 . و الخلاصات الكبرى التي استخلصناها كانت كثيرة. و لعلم القارئ أن التفكير التربوي في علوم التربية يتوقف عند تصور كبير يقول بأن التفكير في التربية يتقاسمه توجهان؛ واحد من بينهما يهتم بالتفكير في التربية مثل فلسفة التربية و سوسيولوجيا التربية و السيكولوجيا من خلال الحقول المعروفة كالتعلم و النمو مهما كانت المدرسة السيكولوجية. و التوجه الثاني يهتم بالتفكير حول التربية و هنا نجد التقويم والاقتصاد التربوي و السياسات التربوية ...إلخ. والباحث في (بيداغوجيا) الإدماج سيجدها من الصنف الثاني لا الصنف الأول للأسباب الفكرية التالية: أولا: لا تنطلق (بيداغوجيا) من أي أساس فلسفي أو سوسيولوجي أو سيكولوجي واضح رغم ادعائها بأنها تنتمي إلى السوسيوبنائية؛ ومعنى ذلك أن براديغمها الفكري سيظل اختباريا تجريبيا بالضرورة: عدة تقويمية تجرب في هذا البلد أو ذاك بنفس الطريقة. ثانيا: التنميط و الشمولية، وهي خاصية تلازمها أينما حلت و ارتحلت ، فهي لا تقيم الفوارق بين البلدان والأطفال و الثقافات ؛ بل تنتج و تعيد عدتها وتصورها الفوق دولتي حيثما كانت. إنها بيداغوجيا فوق دولتية، فوق الأوطان وعابرة للبلدان لا تميز بين هذا وذاك من حيث آلية التقويم و التصنيف التقويمي. وذلك ما جعل المدرسين والمدرسات و المديرين والمديرات منشغلين بملء الجداول و المبيانات، أي تحولوا إلى مصانع للتقويم كما يقول البيداغوجي الفرنسي دوفتشي، بدل الانشغال بالبناء وتنمية الذات و البعد الانساني والعلائقي و التواصلي و القيمي. ثالثا: إن هم (بيداغوجيا) الإدماج الوحيد و الأوحد هو التقويم، وهذا معناه انها لا تمتلك سؤال التربية و لا سؤال البيداغوجيا. فهي لا تعي نفسها كتصور للتربية أو في التربية ، و بالتالي لن تكون بيداغوجيا تعمل العلم في التربية ، أي تستحضر السيكولوجيا (التعلم والنمو و تنمية الذكاء...) أو السوسيولوجيا (التنشئة الاجتماعية والفوارق و تكافؤ الفرص و الأنظمة الثقافية ...إلخ) أو الفلسفة ( سؤال الإنسان و المصير و الغاية و القيم ...إلخ). فنزعتها التقويمية تغيب كل شيء شيء من أجل تصنيف مسبق وضع قبل أن يلج الطفل إلى المدرسة. رابعا: تقدم بيداغوجيا الإدماج نفسها كاستراتيجية في محاربة الأمية الوظيفية ، ومرة تقول بأنها استراتيجية في تعلم الكتابة والقراءة والحساب، وهي بذلك تصنف نفسها بنفسها في خانة المشتغلين على التسرب الدراسي و محاربة الأمية . و يتضح ذلك بكونها تضع نفسها كأداة في يد منظمات دولية تشتغل على محاربة الامية الوظيفية. و قد عينت نفسها كبيداغوجيا للفقراء، كبيداغوجيا لدول لم تعمم التمدرس و لا تتوفر على نظام تربوي قائم. خامسا: يجلنا هذا التصور الأخير الذي عينت به نفسها إلى أنها تتلاءم و اقتصاد الهشاشة، هذا الاقتصاد الذي يقوم على l'insertion وليس l'intégration . و لعل هذين المفهومين هما لحمة بيداغوجيا الإدماج. سادسا: إن الانشغال بالهشاشة والكتابة والقراءة و الحساب ، و الانشغال بالعدة التقويمية و التخطيط الشامل و الأحادية و النمطية جعلها تغفل القيم و السؤال حول الإنسان؛ وذلك ما جعلها تتعرى أمام وضعيات قيمية و ثقافية و ذهنية و مخيالية لأنها ببساطة تنزع نحو المهارة اليديوية و الإنجازية القابلة للملاحظة ، وبالتالي القابلة للتقويم ، وهو ما جعلنا نصنفها ضمن السلوكية الواطسنية الجديدة. فالكائن الذي يتعلم هو هو في المغرب أو غيره من البلدان مطلوب منه أن يبلغ سلما إنجازيا معينا لتحكم عليه هي بالتعلم. سابعا: ما يلاحظ أن (بيداغوجيا) الإدماج لا تعير اهتماما بالنمو و لا بالذكاءات المتعددة و لا باستراتيجيات التعلم لدى الأطفال و لا بالموقع الاجتماعي و الثقافي الذي ينحدرون منه. كما لا تفكر في المعاقين و لا المتأخرين ذهنيا و لا الذين لا يملكون أي رأسمال ثقافي ...إلخ. لقد كان و ما يزال همها هو بناء وضعية تقويمية، وضعية مستهدفة، وضعية إدماجية واحدة موحدة بالنسبة للجميع حيثما كانوا ، وكان العلاج واحدا موحدا. ثامنا: إن لغة بيداغوجيا الإدماج و جهازها المفاهيمي بعيد عن لغة التربية لأنه يمتح من التدبير والاقتصاد و الهندسة أكثر مما يمتح من النظريات السيكولوجية و السوسيولوجية و الفلسفية. فأنت تجد لغتها تتحدث بحيادية عن المعرفة و اللغة و القيم ، كما تجعل المعرفة و الأشخاص موارد كباقي الموارد العينية ...إلخ. و لعل هذا الجانب وحده يجعلها موضوع تأمل فكري يعري عن وجهها اللاتربوي و اللابيداغوجي بشكل عام. تلكم أهم انتقاداتنا لها منذ 2006 إلى اليوم.فكم كلفتنا هذه الآلة التقويمية؟ وماذا كلفتنا بالتحديد؟ إن التكلفة في التربية على وجه التحديد ،كما يقول كانط، تكون زمنية ، أي أن زمن التكلفة هو زمن مستقبلي. هل كان المغرب حقل تجربة؟ هل كان أبناء المغرب فئران واطسن؟ من نحن المغاربة ونحن نتبنى (بيداغوجيا) الإدماج؟ عن أي مستقبل تربوي نتحدث و نحن نشتغل بها؟ عن أي إنسان مغربي نتحدث ونحن نجعلها جزء من تصوراتنا للمغربي؟...إلخ إن التكلفة لن يجيب عنها الافتحاص لأن هناك زمن ضائع لا يدخل في خانات الافتحاصات إلا إذا كان للمسؤول وعيا بالزمن و بالمستقبل معا. وبناء عليه فإن الافتحاص لن يرد الزمن الضائع و لن يجعل المغاربة يعون المستقبل بوعيهم للقضية التربوية والبيداغوجية. يبدو لي أنه من ملامح الوعي بمصير المغرب، بمستقبل المغرب هو الاستدراك، استدراك الزمن الضائع لنلج الحاضر في حاضريته و المستقبل كزمن آت يمحو الحاضر و يعطيه معنى، وهو ما يغيب غيابا كليا منذ أن (ألغيت) هذه (البيداغوجيا). و بلغة أخرى إن زمن ما بعد (بيداغوجيا) الإدماج لم يكن ملحا و كأن المغاربة ينتظرون الإله المخلص ليوحي لهم بحل بيداغوجي جديد. إنهم ينتظرون، يقفون، يتوقفون دونما طرح السؤال: أي حالة بيداغوجية نحن عليها الآن في مؤسساتنا التعليمية و التكوينية و التفتيشية؟ ودون البحث عن المسؤول عن حالة الانتظار الكبرى هاته فإن السؤال حول المستقبل البيداغوجي لم يطرح بعد . فمنا من ينتظر كعادته ومنا من لا يبالي بخطورة الأمر ومنا يحارب الديناصورات بسيوف خشبية ومنا من يغترب في الحدائق، وحده الوطن ينتظر المحاربين من أجله. وخلاصة القول فإن غياب المستقبل التربوي والبيداغوجي يعني غياب الإنسان الذي نريده، بل غياب الإنسان المغربي. وانبعاث المستقبل التربوي والبيداغوجي لا يكون إلا بحوار بين مفكري ومفكرات و باحثي وباحثات المغرب ، فهؤلاء وحدهم هم من يعرف لماذا ينبغي أن نكون مغاربة و أن يكون للمغرب مستقبلا.