فارقنا صباح يوم الثلاثاء الماضي بشكل مفاجئ الناقد و الكاتب و الأستاذ الجامعي مصطفى المسناوي تاركا وراءه، رحمه الله ، فراغا كبيرا في الساحة الفنية و الثقافية عموما و السينمائية خصوصا، كان إنسانا مرحا و هادئ الطبع حتى في حالة الغضب ، ذكي و سريع البديهة ، بارعا في الوصف و الحكي ، لبقا و غير جارح في مقالاته الساخرة و انتقاداته، صائبا في تحليلاته و أحكامه و آرائه، أبدع و ألف عدة سلسلات تلفزيونية ناجحة ، و كان له الفضل بكتاباته في تألق بعض الفنانين المشهورين في مجال الفكاهة. أصدر بعض الكتب من بينها "طارق الذي لم يفتح الأندلس" و "يا أمة ضحكت" و أبحاث في السينما المغربية" و ترجم كتابي "المنهجية في علم اجتماع الأدب" للوسيان غولدمان "و "سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نمودجا" للطاهر لبيب. كتب مقالات نقدية عميقة في السينما، و كتب مقالات أخرى ممتعة بسخريتها العميقة و بسيطة بطريقة كتابتها و التي كان يطعم البعض منها أحيانا بألفاظ من الدراجة المغربية ، لأنها مقالات موجهة لعموم القراء و ليس فقط للنخبة المثقفة و تفهم معانيها بين السطور. لم تقتصر مقالاته على السينما و التلفزيون فقط ، بل شملت كل ما يدور في مجتمعنا ، كتب عن الأنترنيت ، و الخصاص في العملة الصعبة ، و التعليم و الباكالوريا و الصحافة و الموسيقى و الحكومة و اللغة العربية و الصحة و السياحة و المقاهي و الترامواي و غيرها من القضايا المعاشة ... هي مقالات مواكبة للتطورات و مدسوسة بطرافة و إيحاءات يمكنك أن تقرأها و أن تعيد قراءتها دون أن تشعر بالملل. كانت له رحمه الله دراية بكل ما يجري في الساحة الفنية و الثقافية و السياسية و الاجتماعية ببلادنا و خارجها، يفرق جيدا بين المبدع و المتطفل على الإبداع في مختلف المجالات الفنية، بل إنه يعرف كل المتطفلين على مختلف المجالات الأخرى أيضا، قد يسألك ، إن كنت صديقه، عن رأيك في فيلم أو في قضية أو شخص ما ، إن كان رأيك متطابقا مع رأيه فهو يضيف لك معلومات أخري تزكي هذا الرأي ليظهر لك أنك على صواب، و إذا أحس بأن رأيك يختلف عن رأيه فهو يتصرف معك كأنه لا رأي له في الموضوع و يطلب منك بصوته الخافت أن تشرح له رأيك ربما قد تكون على صواب و هو على خطأ، و إذا ما لاحظ أنك على خطأ فهو لا يتردد في مدك بما يجعلك تغير رأيك بهدوء و إقناع و لباقة. و استحضارا لروحه الطاهرة أود أن أعيد في هذا العمود السينمائي المقال الذي كتبه يوم 10 ماي في جريدة المساء يحمل عنوان "تحولات سينمائية "نوعية" ، و يلاحظ أن العنوان مكتوب بنوع من السخرية إذ وضع كلمة نوعية بين مزدوجتين، و هي مقالة حول التطور التكنولوجي الذي تشهده السينما في عصرنا الحالي إذ كتب أنه جرت العادة، في الآونة الأخيرة، على أن يشيد العاملون في السينما بالتطورات التكنولوجية المتسارعة التي يعرفها ميدان عملهم على الصعيد الرقمي ويقفوا أمامها منبهرين ومتسائلين عما يمكن أن يأتي به المستقبل القريب في هذا المجال. إلا أنه غالبا ما يتم التغاضي، في خضم هذا الانبهار، عن أن التوقف عند البعد الكمي لتلك التطورات لا يمَكّننا من فهم التحولات النوعية التي هي قيد الحصول الآن في المشهد السينمائي العالمي، والتي من شأن تواصلها أن يجعلنا أمام «نشأة مستحدثة» للفن السابع، ترتبط بالتاريخ الخاص لهذا الفن بقدْر ما تنفصل عنه وتؤسس لشيء جديد. أول هذه التحولات النوعية الهامة، والمترتب عن الانخفاض المتزايد في أسعار كاميرات التصوير السينمائي الرقمية المتطورة، أن إمكانية التحوّل إلى مصور سينمائي خرجت من نطاق النخبة محدودة العدد وصارت في متناول عموم الناس، خاصة مع تطوير قدرات تلك الكاميرات وتبسيط تقنيات التقاط الصوت والصورة وتعزيز كل ذلك بظهور برمجيات رخيصة الثمن يمكنها إنجاز عمليات «المونتاج» و«الميكساج» انطلاقا من حاسوب البيت أو من الحاسوب المحمول.. لكنْ، مع ضرورة توضيح أن ولوج أعداد متزايدة من الناس إلى مهن (مثل الإخراج والمونتاج والميكساج) كانت حكرا على عدد محدود من الناس (بحكم ارتفاع كلفة تعلمها وتطلبها لاستعدادات ومهارات خاصة) لا يعني انتفاء الحاجة إلى تعلم هذه المهن وفق القواعد المسطرة لها ولا إلى تعميق الدراسة في تاريخ الفن وتاريخ السينما بالخصوص، وإنما هو يشير فحسب إلى أن طريقة التعلم تلك بدأت تأخذ أشكالا جديدة تعتمد على التجربة والخطأ وعلى الأنترنيت والتلقين عن بعد، أكثر مما تعتمد على بنيات التعليم المدرسية «التقليدية»، مع كل ما يتيحه ذلك من إمكانيات «التحرر» وما ينجم عنه من مخاطر «العشوائية» وكسر القواعد السردية و القيم الجمالية و الأسس التقنية المعتمدة منذ زمن. ويتمثل ثاني التحولات في العرض السينمائي نفسه؛ حيث نلاحظ هذا الميل المتزايد (وفي بلدان الجنوب بشكل خاص) إلى الابتعاد التدريجي عن الفرجة السينمائية «التقليدية» في القاعات المخصصة لهذا الغرض وتعويضها بفرجة «مدجنة»، إن صح التعبير، عمادها شاشات التلفزيون المنزلية أو شاشات الحاسوب، حيث يتحول قرص ال«دي في دي» إلى حامل رئيسي للفيلم السينمائي. وهذا ما يمكن تتبعه حتى في العديد من «التظاهرات» أو «المهرجانات» السينمائية المحلية التي لا تقيم فرقا بين شريط «السيليلويد» (من فئة 16 أو 35 ملم.) وبين قرص ال«دي في دي»، مفضلة هذا الأخير، بحكم سهولة اقتنائه وعرضه (بدون علم صاحبه في معظم الأحيان. في الحالة الأولى، لا يجري الانتباه إلى أن مشاهدة فيلم على شاشة صغيرة وفي مكان مضاء لا يمكنه أن يماثل، وبأي حال من الأحوال، مشاهدته وسط حشد من الناس في مكان مظلم وعلى شاشة ضخمة.. كما لا يتم الانتباه، في الحالة الثانية، إلى أن قرص ال«دي في دي» (وحتى في صيغة «البلو راي») لا يمكنه -إلى حد الآن- أن يعطينا صورة بجودة شريط «السيليلويد» (التقليدي) على مستوى تباين الظلال والألوان. فهل نكون أمام «ذوق» جديد و" جماليات" جديدة قيد التشكل تقطع تماما مع كل "الجماليات" المعروفة إلى حد الآن؟ أما ثالث التحولات النوعية، وربما كان أخطرها على الإطلاق، فهو هذا الخضوع المطلق لسطوة الصورة، التي خرجت من «معبدها» القديم (قاعة السينما) بعد أن أغلقناه وصارت تحاصرنا من كل مكان: عبر التلفزيون الأرضي والفضائي، وعبر شاشات الحواسيب والأنترنت وأقراص ال"دي في دي" وألعاب الفيديو... بشكل لم تعد تترك لنا معه الفرصة لممارسة حريتنا في التفكير والتأمل وإبداء الرأي... لكنْ، هل ما زلنا نملك القدرة، مع غزو الصورة هذا، على التفكير و تكوين الرأي أصلا؟ ذلكم هو السؤال. تعازينا الحارة إلى كل أفراد عائلته الصغيرة و الكبيرة، رحمه الله و أسكنه فسيح جناته و إن لله و إليه راجعون.