واجهت فرنسا يوم الجمعة 13 نوفمبر 2015 وفي عاصمتها باريس ضربة إرهابية مؤلمة وقال المدعي العام الفرنسي فرانسوا مولين يوم السبت، إن 3 فرق من الإرهابيين نفذوا هجمات باريس مما أسفر عن مقتل 129 شخصا من ضمنهم 20 من غير الفرنسيين وإصابة 352 آخرين منهم 99 في حالة خطيرة. وأضاف في مؤتمر صحفي "يمكننا القول في هذه المرحلة من التحقيق إنه ربما كانت هناك 3 فرق منسقة من الإرهابيين وراء هذا العمل الهمجي"، وتابع أن 7 من المهاجمين لقوا مصرعهم بينهم 6 فجروا أنفسهم، مشيرا إلى أن حصيلة ضحايا الهجمات غير نهائية ومرشحة للارتفاع. وذكر المدعي العام أن "الإرهابيين" الذين نفذوا الهجوم في مسرح باتاكلان تحدثوا عن سوريا والعراق، وتم العثور في المسرح على مئات من الأعيرة النارية لبنادق "كلاشينكوف"، مشيرا إلى أن الهجمات حدثت في 6 مواقع. وذكر أن السلطات لديها ملف أمني عن أحد "الإرهابيين" في المسرح الذي اتضح أنه فرنسي الجنسية، ولديه سجل جنائي، وأصبح متشددا "إسلاميا" عام 2010، لكن لم يسبق اتهامه بأي أنشطة إرهابية. وتابع إن السلطات عثرت على جواز سفر لشاب سوري يبلغ من العمر 25 عاما في موقع التفجيرات خارج ملعب فرنسا. وتعتبر فرنسا موقعا لأكبر جالية إسلامية في أوروبا، بتعداد يتجاوز ال5 ملايين نسمة، يمثلون نحو خمسة في المئة من الفرنسيين، وهم المتضرر الأكبر من أي استهداف للمصالح الفرنسية، من جانب التنظيمات الإرهابية، إلا أن الأخيرة لا يبدو أنها تبالي. وذكر خبراء غربيون في شؤون الإرهاب أنه مع التدفق المستمر للمقاتلين الأجانب المتطرفين العائدين من دول مثل سوريا والعراق، بالإضافة إلى عدد كبير من المتعاطفين محليا مع "داعش" في العديد من البلدان الأوروبية، يجد التنظيم الإرهابي المتشدد أنه من الأسهل دعم وتشجيع هذا النوع من الهجمات. وقال محلل شؤون الإرهاب بشبكة "سي إن إن" الأمريكية، بول كروكشانك: "غمرت أعداد الناس التي يجب مراقباتها الفرنسيين. لقد فتحوا ملفات مراقبة لأكثر من خمسة آلاف متطرف في جميع أنحاء البلاد، وكان هناك أكثر من ألف مواطن فرنسي سافروا إلى سوريا والعراق، ويعلمون عن عودة 250 منهم إلى الدولة، وهذا هو مجرد عدد من هم على علم به". وأشار كروكشانك إلى المؤامرة الإرهابية التي تم إحباطها في بلجيكا في يناير 2015، عندما كشفت الأجهزة الأمنية مخبأ ضخما للأسلحة، واحتوى أيضا على ملابس الشرطة، مما لفت إلى احتمال شن هجوم على موقع حساس هناك. وأضاف: "أخبرني مسؤولون في المخابرات هناك وفي الولاياتالمتحدة أن قيادة داعش العليا في سوريا خططت للمؤامرة". وتابع: "هذا هو التنظيم الذي يزداد وجوده ثقلا في سوق الإرهاب العالمي، وأعتقد أن كل هذه الأحداث المختلفة في الأسابيع القليلة الماضية أظهرت ذلك بوضوح، إذ قتل أكثر من مائة شخص خلال هجوم في أنقرة، قام به انتحاريان من داعش، وهجوم بيروت الذي أسفر عن مقتل ما بين 40 و 50 قتيل، وادعى مسؤوليته إرهابيون من داعش زعموا أيضا إسقاط الطائرة الروسية "ميتروجيت" في سيناء، وتستمر القائمة، إذ يدير داعش وجهه نحو الإرهاب العالمي". من جانبه قال بيتر نيومان رئيس المركز الدولي لدراسة التطرف بكلية لندن، إن الهجمات التي شهدتها العاصمة الفرنسية، "صدمت الجميع" من ناحية الحجم والتعقيد. وأكد أن وقوع هذا النوع من الهجمات كان أمرا متوقعا إلا أنهم لم يظنوا أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أو ما يعرف ب"داعش"، له القدرة على تنفيذ أمر بالحجم الذي كانت عليه هجمات باريس، الجمعة. الخبراء اختلفوا بشأن المدة التي استغرقها إعداد الهجمات في العاصمة الفرنسية، فمنهم من قدر أن الأمر استغرق شهورا، وآخرون رأوا أن المدة كانت أقصر بكثير وأن التنظيم الإرهابي وربما من يدعمه يملك عددا كبيرا من الخلايا النائمة في فرنسا ودول أخرى وأنه تم وضع وإعداد مخططات متعددة بما في ذلك المنفذون والسلاح وأماكن التنفيذ، وإن الأمر يبقى بعد ذلك هو صدور الأوامر بالتنفيذ وهذا لا يحتاج سوى لأيام قليلة. الإعداد المسبق للخلايا النائمة ما يرجح حاليا نظرية الخلايا النائمة التي لديها مخططات جاهزة خاصة التأكيدات الرسمية بأن "الشبكات البلجيكية" شكلت الجناح الأهم في تنفيذ هجمات الجمعة 13 نوفمبر، وقد جاء في تقرير لوكالة فرانس برس يوم 15 نوفمبر 2015: توفر بلجيكا ملاذاً للمتطرفين، على رغم الجهود التي تبذلها السلطات لاستئصال هذه الظاهرة التي وصفها رئيس الوزراء شارل ميشال بأنها "هائلة"، إذ أعتقل سبعة أشخاص على ارتباط مع اعتداءات باريس. وأعلنت النيابة العامة البلجيكية يوم الأحد 15 نوفمبر، أن "فرنسيين أقاما في بروكسل، وأحدهما ببلدة مولنبيك، التي تعتبر ملاذا للمتطرفين في هذا البلد، هم من بين منفذي الاعتداءات الدامية في باريس"، مؤكدة أنهما "قتلا في الموقع". ويعتبر هذا البلد الصغير، الدولة الأوروبية التي انطلق منها عدد كبير من المتطوعين للانضمام إلى صفوف المتطرفين في سوريا أو العراق، نسبة إلى عدد سكانها البالغ 11 مليون نسمة. وتم التعرف إلى حوالي 494 متطرفا بلجيكيا، من بينهم 272 موجودون في سوريا والعراق، و75 يعتقد بأنهم قتلوا، و134 عادوا إلى بلجيكيا و13 منهم في طريقهم إلى العودة، بحسب أرقام أجهزة الأمن البلجيكية. وتظل بلجيكا ملاذا أمنا نسبيا للمتطرفين، على رغم تعزيز قوانينها لمكافحة الإرهاب وتفكيك شبكات تجنيد، وخلايا إرهابية منذ تسعينات القرن الماضي، والإدانات والأحكام التي صدرت على الأثر. وقال رئيس بلدية بروكسل إيفان مايور، إن "أوروبا باتت بلا حدود، ومن الطبيعي أن يستفيد منفذو الاعتداءات أيضاً من هذا الأمر، لكن يجب أن نتحرك بحيث لا نصبح قاعدة في أوروبا للذين يذهبون إلى خوض الاعتداءات". وقال رئيس الوزراء شارل ميشال متحدثاً إلى التلفزيون الفلمنكي "ألاحظ أن هناك على الدوام تقريبا رابط مع مولنبيك، هناك مشكلة كبرى، ففي الأشهر الماضية أتخذت مبادرات كثيرة في مكافحة التطرف، لكننا بحاجة أيضا إلى المزيد من القمع"، مضيفا: "سنعمل بشكل مكثف مع السلطات المحلية، والحكومة الفيدرالية مستعدة إلى تقديم المزيد من الوسائل، من أجل تحسين الوضع على الأرض في البلاد كافة، وفي المناطق التي تواجه مشكلات". وأعتقل سبعة أشخاص منذ السبت في بلجيكا، من بينهم خمسة على الأقل بمولنبيك في أطار الشق البلجيكي من التحقيقات حول الاعتداءات، ونفذت الشرطة البلجيكية مداهمات في البلدة، فيما قالت النيابة العامة إن "قطعا ضبطت وصودرت، ويتم الكشف عليها وتحليها حاليا". وأفادت النيابة بأن السيارتين المسجلتين في بلجيكا، واللتين عثر عليهما المحققون الفرنسيون في باريس وضاحيتها القريبة، "استؤجرتا مطلع الأسبوع في منطقة بروكسيل". وأقام في مولنبيك أيضا في العام 2001، منفذو عملية اغتيال القائد مسعود في أفغانستان، أضافة إلى حسن الحسكي الذي أدين بالمشاركة في تدبير اعتداءات مدريد العام 2004، وراح ضحيتها 191 قتيلاً وألف و 800 جريح، ومهدي نموش المشتبه به الرئيس في الاعتداء على متحف ببروكسل في مايو عام 2014. وسكن البلدة أيضا، أيوب الخزاني منفذ الهجوم على قطار تاليس بين أمسترداموباريس في أغسطس 2015، والذي نزل عند شقيقته المقيمة هناك قبل أن يستقل القطار، وتبين أخيرا أن خلية إرهابية فككت في يناير 2015 بفيرفييه، كانت على ارتباط أيضا مع مولنبيك. وذكرت رئيسة بلدية مولنبيك فرنسواز شيبمانس، من "الحزب الليبرالي" بزعامة رئيس الوزراء، إنهم "لا يتحدرون جميعهم من هنا، وفي غالبية الأحيان يقيمون بشكل عابر في البلدة"، موضحةً أن "بعض الأحياء مكتظة للغاية، ويضم سكانها 80 في المئة من المتحدرين من أصول مغاربية، ويكون التخفي أسهل على ذوي النوايا السيئة الذين يكتفون بالعبور في البلدة". عجز في باريس صرح "آلان شويه" المسؤول السابق في الاستخبارات الخارجية الفرنسية يوم السبت: "لا يمكن القيام بشيء لوقف العمليات الإرهابية" مؤكدا أنه "لا يمكن في أي من الأوقات وقف ثمانية أشخاص مصممين تم تدريبهم في الخارج وأرسلوا أو دخلوا إلى هنا ويجري تحريكهم من سوريا أو غيرها، من الانتقال إلى التنفيذ". وتابع أن "مسلحي مساء الجمعة كانوا بالتأكيد يعرفون بعضهم من قبل وتم تدريبهم على عدم لفت الانتباه والبقاء خارج شاشات المراقبة والتحرك بشكل معزول والضرب معا". وقال "بوسعكم إن أردتم إقامة غوانتانامو فرنسي في لارزاك وهي منطقة ريفية في جنوبفرنسا، واعتقال آلاف الشبان العائدين من سوريا فيه، لكنكم لن تنجحوا يوما في منع ثمانية شبان من حمل السلاح". وأشار إلى أن جميع المهاجمين انتحاريون وقد ارتدوا أحزمة أو سترات ناسفة شغلوها لتنفيذ اعتدائهم قبل أن تقتلهم الشرطة، وهي سابقة في فرنسا ومؤشر على أن هناك تنظيما جهاديا موجودا في فرنسا يملك خبير متفجرات قادرا على صنع الأحزمة والسترات الناسفة، الأمر الذي يتطلب مهارات خاصة. وأضاف "آلان شويه" هذا ما هو جديد، وهذا ما سيشكل بالتأكيد أحد محاور التحقيق. أن خبير المتفجرات ثمين للغاية ولا يشارك أبدا في الهجمات. وبالتالي، فهو هنا، في مكان ما...". وترى أوساط غربية أن مشاركة باريس وبجدية أكبر من الولاياتالمتحدة في مكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا تثير وستواصل إثارة تعبئة آلاف المتطوعين الدوليين الذين ينضمون إلى صفوف التنظيم الموصوف بالجهادي، وعدد أكبر من رواد الإنترنت الذين يعتنقون أفكار "الجهاديين" والذين نشروا منذ مساء الجمعة رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي تمجد الاعتداءات ومنفذيها وتتوعد بهجمات جديدة. وقال مصدر في الشرطة الفرنسية طالبا عدم كشف اسمه "يجب بالطبع تعبئة كل وسائلنا لكن علينا أن نكون على يقين بأن هجمات أخرى ستقع". وأضاف "من السهل للغاية لشاب ما أن يجد قطعة سلاح ويأخذ سيارة وينتقل إلى التنفيذ. وذكر مصدر قريب من التحقيقات صباح يوم السبت 14 نوفمبر "كل شيء ممكن في الوضع الراهن. قد يكون هؤلاء عناصر قادمين من الخارج لكنهم حذقون ومدربون بشكل سمح لهم بتفادي راداراتنا. لكنهم قد يكونوا أيضا عناصر نائمين، لا يظهرون أي خطورة منذ سنوات". وتابع "أنها المشكلة الأبدية المتعلقة بالأولويات. نعد قوائم بناء على درجة الخطورة المفترضة، لكن كيف يمكننا التأكد من أننا لم نخطئ؟". وبالرغم من تعزيز الوسائل في متناول المحققين وأجهزة مكافحة الإرهاب هذه السنة، إلا أن العمل ما زال جاريا على تجنيد العناصر وتدريبهم وتنفيذ العديد من مواد قانون الاستخبارات، وهو ما لم يتحقق بعد. وعلى صعيد آخر فإن الجهاديين تعلموا على مر السنين وبفضل آلاف الصفحات من التعليمات على الإنترنت، كيفية استخدام الوسائل الفنية التي تسمح بعدم رصدهم. وفي طليعة هذه الوسائل، مواقع مثل "واتساب" للرسائل الفورية والهواتف الذكية من أحدث جيل التي لا يزال من المستحيل على المحققين فك أنظمة تشفيرها. مجلة "نوفيل اوبزرفاتور" لاحظت ان الجماعات الإرهابية تسعى إلى تحويل فرنسا إلى ميدان حرب لكونها تضم اكبر جالية مسلمة في أوروبا. فالإرهابيون يسعون في هذه الحالة إلى تحريك الجماعات أحداها ضد الأخرى وتعميق المشاعر العنصرية بهدف زعزعة الاستقرار أولا وكسب مؤيدين ثانيا. والمعروف أن عدد الفرنسيين الذين يقاتلون في صفوف "داعش" هو الاضخم مقارنة ببقية الدول الأوروبية. وحسب مسؤول بارز في جهاز الدفاع الفرنسي فإن هناك 1700 فرنسي في صفوف التنظيم أي أكثر بمرتين من البريطانيين والألمان والبلجيكيين. وبعد تدريبهم وتلقينهم هناك فنون القتال وحمل السلاح، يعود هؤلاء المتطوعون إلى بلدهم الأصلي لتنفيذ عمليات وهجمات عندما تصدر لهم الأوامر. يشار إلى الرئيس الفرنسي أمر في شهر سبتمبر 2015 بتوسيع الضربات الجوية ضد داعش لتشمل سوريا إلى جانب العراق الذي تدخل فيه سنة 2014، وجاء القرار الفرنسي موازيا لبدء القصف الجوي الروسي الكثيف ضد التنظيمات الإرهابية المسلحة في سوريا. ضبط أسلحة في ألمانيا يقول الخبير الألماني في الجماعات الإرهابية "غونتر ماير" أن خيوط الهجمات التي استهدفت العاصمة الفرنسية تبين أن هناك رابطا واضحا مع الدور الفرنسي في سوريا. الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند أعلن في الثلث الأول من شهر نوفمبر أنه أعطى تعليماته بقصف مخيم لتدريب الإرهابيين في سوريا، وهو مخيم يعسكر فيه إرهابيون فرنسيون. الرئيس أولاند أراد بهذا القصف تفادي تكرار هجمات جديدة في فرنسا على غرار هجمات "شارلي إيبدو". هذا ما يفسر العلاقة الوثيقة بين هجمات باريس وسوريا. يشار أن متحدثا بإسم مكتب مكافحة الجريمة في ولاية بافاريا جنوبي ألمانيا كشف أن شرطة الولاية عثرت يوم 5 نوفمبر على ترسانة أسلحة، بينها عدة بنادق آلية وذخيرة وقنابل يدوية وعدة كيلوغرامات من مادة "تي أن تي" الشديدة الانفجار داخل سيارة رجل في بافاريا العليا. وأضاف المتحدث أنه تم القبض على قائد السيارة وعمره 51 عاما وهو منحدر من مونتيغرو بالجبل الأسود. وأفادت تقارير إعلامية بأن الرجل كان متجها إلى العاصمة الفرنسية باريس. ورفض المتحدث القول ما إذا كانت هناك علاقة محتملة للرجل بمجموعة الجناة الذين نفذوا هجمات باريس، واكتفى بالقول إن "تهريب الأسلحة نشاط منتشر". وكان قد تم تفتيش سيارة الرجل في الطريق السريع ايه 8 بالقرب من مدينة باد فايلناخ في بافاريا العليا وقال المتحدث إن رجال المباحث اكتشفوا وجود ماسورة بندقية في صندوق المحرك وعلى إثر ذلك قاموا بتفكيك السيارة فظهرت بقية الأسلحة. وأبلغت أجهزة الأمن الألمانية نظيرتها الفرنسية بالحادث. موسكو ومسؤولية الولاياتالمتحدة في تلميح شبه مباشر إلى مسؤولية الولاياتالمتحدة بخصوص العمليات الإرهابية ذكر موقع "ارتي" الروسي في تقرير له يوم 15 نوفمبر: "إن حجم المعلومات الذي تحصل عليه الأجهزة الإستخباراتية الأمريكية، سواء عن طريق التعاون أو عن طريق التجسس، يؤهلها لإدارة الصراعات بشكل قد يضر بالكثير من حلفائها قبل أعدائها وخصومها ومنافسيها. ولا يمكن أن نتجاهل القدرات الأمريكية الجبارة في جمع المعلومات وتحليلها والاستفادة منها. ولكن عادة ما يتردد السؤال المنطقي: لماذا لا تعلن عنها واشنطن لأصدقائها وحلفائها قبل وقوع الكوارث؟. ولماذا تقوم بتسريب معلومات بعد كل كارثة، بأنها تملك هذا الحجم أو ذاك من المعلومات المتعلقة بهذه الكارثة أو تلك؟. لقد وقعت أحداث باريس الأولى منذ عدة أشهر، وتوارت الكارثة على خلفية الكوارث الإقليمية والدولية المتلاحقة، ولم تعلن السلطات الفرنسية عن إجابات على تساؤلات ما زالت تتردد بشأن الحادثة الأولى. مع العلم بأن واشنطن تحكم قبضتها جيدا على أوروبا في عدد من المجالات، وعلى رأسها المجال الأمني. فهي دائما التي تؤكد للدول الأوروبية أن أمنها معرض للمخاطر والتهديدات، تارة من جانب روسيا، وأخرى من جانب إيران، وثالثة من جانب كوريا الشمالية. دائما ما تخترع واشنطن المخاطر والتهديدات والوحوش للإبقاء على أوروبا تحت قبضتها الأمنية. بعض التقارير ترى أن ما حدث في فرنسا في الفترة الأخيرة، وما قد يحدث في دول أوروبية أخرى، هو أحد نتائج تجسس الاستخبارات الأمريكية على المؤسسات الأمنية والرئاسية في دول أوروبا، واستئثار واشنطن بكم هائل من المعلومات يؤهلها للهيمنة على تلك القارة التي لا تعرف بالضبط كيف يمكنها التصرف مع تلك القبضة الأمريكية الشديدة التي لا تتحكم فيها فقط، بل تطالبها دوما بزيادة ميزانيات الدفاع والأمن، سواء في إطار حلف الناتو أو خارجه، وذلك بطبيعة الحال من أجل مواجهة الأخطار المحدقة بها. لا شك أن فرنسا لها مساحة نفوذها وتأثيرها. وظهر ذلك بقوة من خلال دورها في الإطاحة بمعمر القذافي. ولا يزال هذا الدور موجودا في ليبيا وحولها. وليس مصادفة أن تقدم باريس كل الخدمات الممكنة للحليف الأمريكي في كل من سوريا والعراق، مقابل أن ينتبه الحليف الأكبر لمصالحها في ليبيا، ورغبتها في الفوز بالقطعة الأكبر. ولكن يبدو أن "الأخ الأكبر" لا يبالي كثيرا برغبات وطموحات باريس. ما يعكس بشكل أو بآخر أن هناك صراعا، أو في أحسن الأحوال منافسة، بين واشنطن وباريس على الكعكة الليبية. وبالتالي، هل يمكن أن يتضاءل الآن أمل فرنسا في الفوز بليبيا بعد أن طالتها ضربات الإرهاب بقوة مثيرة للتساؤلات، وكشفت عن مواطن ضعفها الاستخباراتي والعسكري، وأطاحت بحججها حول أن الأخطار تأتيها من شمال أفريقيا ومن سوريا وليبيا بالذات؟. في هذا الصدد تحديدا، أعلن المتحدث باسم الإدارة الأمريكية عن احتمال مقتل قائد فرع تنظيم "داعش" الإرهابي في ليبيا أبو نبيل. ووفقا لأقواله فقد تم توجيه الضربات على مواقع المسلحين بالقرب من بلدة درنة. ويتم تقييم نتائجها، لكن احتمال مقتل أبو نبيل كبير جدا. إن مسألة مقتل أبو نبيل أو أبو سفيان أو هذا أو ذاك، يمكن التعامل معها بالشكل الطبيعي الذي يدخل في إطار الاحتمالات، أو حتى الحقائق. ولكن المتحدث باسم الإدارة الأمريكية أشار إلى أن الغارات الجوية الأمريكية وقعت في نفس الوقت الذي هزت فيه الهجمات الإرهابية باريس. واستدرك قائلا: "إلا أن ذلك لا يرتبط بها.. فالطائرات كانت في الجو عندما شهدت العاصمة الفرنسية مأساتها". معنى ذلك أن الولاياتالمتحدة، ورغم كل التعتيم المضروب على ما يجري من كوارث ومآسي في سوريا وليبيا وغيرهما، تعمل بنشاط، بصرف النظر عن الرغبات والطموحات الفرنسية. بل وتعمل أيضا في نفس الوقت الذي تتعرض فيه دولة حليفة وصديقة وعضو حلف الناتو لعدد من الضربات الإرهابية التي لا تشكل خطرا على فرنسا بالذات، بل تجعلها مصدرا للخطر على بقية الدول الأوروبية الأخرى. هل هناك رابط ؟ يوم السبت 31 أكتوبر 2015 تحطمت طائرة ركاب روسية في شبه جزيرة سيناء وهي في طريقها من المنتجع المصري في شرم الشيخ إلى مدينة سان بطرسبورغ "لينينغراد" بروسيا الإتحادية مما أسفر عن مقتل كل ركاب الطائرة وطاقمها المكونين من 217 راكبا و7 من أفراد الطاقم. إذا كانت الطائرة الروسية قد تعرضت لعمل إرهابي كما أعلنت حركة داعش وأكدته كذلك بإلحاح كل من واشنطن ولندن كإنتقام من تدخل موسكو العسكري في سوريا لمساندة حكومة دمشق ضد الجماعات الإرهابية، فماذا هي المؤاخذة التي بررت بها حركة داعش عمليتها الإرهابية في فرنسا. بدأت فرنسا في شهر سبتمبر 2015 هجمات جوية ضد تنظيم داعش في سوريا ثم حركت حاملة طائراتها شارل ديغول نحو ساحة العمليات لتكثيف الضربات، رسميا ذكر في باريس أن القيادة العسكرية الفرنسية وفي تحركها حرصت على إستقلاليتها تجاه الولاياتالمتحدة. وهنا يجب أن نتذكر شكوى بعض الأطراف الحليفة لواشنطن بشأن منع القيادة الأمريكية للمتحالفين معها من ضرب أهداف مفترضة لداعش في سوريا والعراق وهو ما ساهم في تمكين التنظيم من التوسع أكثر. قبل ذلك قام ثلاثة نواب فرنسيين بزيارة لدمشق وإجتمعوا مع الرئيس السوري بشار الأسد رغم معارضة قصر الإليزي، في نفس الوقت تناقلت مصادر رصد وخاصة في برلين أن حكومة باريس أجرت وتجري إتصالات مع موسكو لبحث مخارج لتسوية الأزمة السورية وأنها تليين موقفها فيما يخص مطالب الولاياتالمتحدة وبعض حلفائها بضرورة رحيل الرئيس السوري والمطالب الملحقة غير المعلنة وهي حل حزب البعث السوري والأجهزة الأمنية السورية وقوات النخبة التابعة سواء للجيش أو لحزب البعث وكذلك اللواء المدرع السوري الرابع. مصادر الرصد السابق ذكرها أفادت أن إجتماعات بين مسؤولين فرنسيين وسوريين ولبنانيين تركزت حول الحرب في بلاد الشام نظمت في بيروت بمبادرة من الأجهزة الإستخبارية الألمانية التي لها علاقات وثيقة منذ سنوات مع حزب الله خاصة خلال عمليات تبادل الأسرى مع إسرائيل. مصادر رصد في برلين أفادت أن المخابرات الأمريكية رفعت تقريرا بشأن الإتصالات الفرنسية في بيروت محذرة من تحول في مواقف باريس مما يهدد بإضعاف السياسات الأمريكية. أوساط فرنسية تحدثت عن إتصالات أعرب فيها المحدثون الأمريكيون لنظائرهم الفرنسيين عن قلقهم من إحتمالات حدوث ما سموه تحول سلبي في موقف باريس من الصراع في بلاد الشام وإضعاف الإجماع الغربي بشأن الصراع. أوساط أمريكية وإسرائيلية حذرت من أن الحكومة الفرنسية تحضر لتعديل كبير في موقفها من الصراع على أرض الشام، وأشارت أنه يوم 26 سبتمبر 2015 وصل إلى دمشق ثلاثة نواب فرنسيين من الغالبية الاشتراكية الحاكمة، للقاء مسؤولين سياسيين وشخصيات دينية. ويتعلق الأمر بالنائب جيرار بابت رئيس جمعية الصداقة الفرنسية السورية البرلمانية والنائبين جيروم لامبير وكريستيان هوتان. ورغم أن النواب الثلاثة نفوا أي طابع رسمي أو تفويض سري لهذه الزيارة، مؤكدين أنها "مبادرة خاصة" تهدف بالأساس إلى "إبراز تضامن البرلمانيين الفرنسيين مع الأقليات المسيحية في سوريا"، فإنهم أيضا أكدوا في بيان أن هذه الزيارة هي أيضا "للتعبير عن مساندة السيادة السورية، ودعم مؤسسات الدولة السورية ووحدة التراب السوري وصيانة حدوده"، وهو الهدف الذي يتعارض مع التوجه الدبلوماسي الفرنسي الرسمي الذي يرفض أي تعامل مع نظام بشار الأسد، ويعتبره المسؤول الأول عن الأزمة السورية. وبخلاف الزيارة السابقة التي نظمها نفس النائب جيرار بابت في فبراير 2015، وأثارت حينها جدلا كبيرا وغضبا رسميا، عبر عنه حينها رئيس الوزراء مانويل فالس، وأيضا وزير الخارجية لوران فابيوس الذي ندد بالزيارة، لم تثر هذه الزيارة الثانية أي ردود أفعال سلبية في أوساط الحكومة الاشتراكية أو نواب الغالبية اليسارية، وهو ما يعكس التحولات الأخيرة في المقاربة الفرنسية للملف السوري، والتراجع عن فكرة استبعاد الأسد ونظامه من المعادلة السياسية، والمرحلة الانتقالية التي قد ترسم معالمها تسوية سياسية مقبلة للأزمة السورية. بعد ذلك وبتاريخ 12 نوفمبر 2015 أعرب نواب فرنسيون يقومون بزيارة إلى دمشق عن ترحيبهم بالعملية الجوية الروسية في سوريا معتبرين أنها فعالة، وذلك في خطوة تعارض الموقف الفرنسي الرسمي. وقال نيكولا دويك من حزب الجمهوريين بزعامة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عقب لقاء مع محمد جهاد اللحام رئيس البرلمان السوري يوم الخميس 12 نوفمبر، إن "روسيا تقود سياسة خارجية واقعية وهي تعمل لما فيه مصلحة السلام"، معربا عن أمله في تشكيل "ائتلاف كبير يعيد السلام" إلى هذا البلد. من جانبه أكد رئيس الوفد تييري مارياني فاعلية الغارات الروسية، قائلا "نرحب بكل ما يمكن أن يساهم في مكافحة الإرهاب". موقف باريس من مصر منذ التحولات التي شهدتها مصر في 3 يوليو 2013 وإسقاط نظام الإخوان، سجل أن الولاياتالمتحدة إتخذت موقفا سلبيا من سلطات القاهرةالجديدة، فحظرت تسليم الأسلحة والمعونات الإقتصادية لأشهر طويلة. باريس لم تواكب تلك السياسة بل قدمت دعما كبيرا لمصر، وتوجت ذلك يوم السبت 10 أكتوبر 2015 بتوقيع عقد مع القاهرة لبيعها حاملتي طائرات مروحية من طراز "ميسترال". وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد أعلن، شهر سبتمبر، موافقة مصر على شراء حاملتي المروحيات مقابل 950 مليون يورو. واشنطن شنت عبر أطراف ثالثة حملة انتقادات شديدة ضد الصفقة الفرنسية المصرية وهكذا مثلا قال موقع "إنفوديفينسا" الإسبانى المعروف بعلاقاته الوثيقة مع دوائر عديدة في العاصمة الأمريكية، إن فرنسا خسرت 400 مليون يورو فى في صفقة حاملتي المروحيات "ميسترال" إلى مصر، والتي صنعتها خصيصا بموجب طلب من روسيا، مشيرا إلى أن مجلس الشيوخ الفرنسي أكد أن فرنسا خسرت ما بين 200 و250 مليون يورو، ولكن في الحقيقة أنها خسرت 400 مليون يورو. وأشار الموقع الإسباني إلى أنه لولا صفقة البيع مع مصر لخسرت فرنسا نحو 1.1 مليار يورو، موضحة أن روسياوفرنسا كانتا أبرمتا عقدا في 2011 تقوم باريس بموجبه بتزويد موسكو بحاملتي مروحيات من طراز ميسترال. كما وقعت القاهرة عقدا مع باريس في فبراير 2015 للحصول على 24 طائرة رافال متعددة المهام بالإضافة إلى فرقاطة بحرية من طراز فريم، مقابل 5.2 مليار يورو. واشنطن ولندن بشكل خاص راقبتا بإمتعاض شديد هذا الموقف الفرنسي بعد أن فشلتا في تبديله. مصادر في الكونغرس أفادت أن أعضاء في الجهاز التشريعي الأمريكي نددوا بالموقف الفرنسي تجاه مصر وقالوا أن باريس تساند خصوم الديمقراطية وتدعم سياسة الجيش المصري وتتخلى عن مساندة السياسة الأمريكية الداعمة للتوجهات الديمقراطية والمعارضة للأنظمة الدكتاتورية في منطقة الشرق الأوسط. نمط جديد من الإرهاب كتب المحلل البريطاني هيو سكوفيلدبي لشبكة "بي بي سي" يوم 14 نوفمبر: "في العواصم الغربية رغم ترددنا في الاعتراف بذلك كان الإرهاب في السابق محدد الأهداف إلى حد ما. فنحن الغربيون كنا ننظر إلى الإرهابيين بوصفهم أناسا لهم مطالب سياسية محددة وضمائر تسيرها بوصلات أخلاقية من نوع ما. لذا فالذين كانوا يقتلون في الهجمات في الماضي كانوا على العموم ينتمون لفئات معينة ومعروفة، مع بعض عابري السبيل من عاثري الحظ. ولكن نمط الإرهاب الجديد الذي شهدته باريس يبدو ضخما وعدميا ومحبا للموت. فقتل الآخرين لم يعد بعد اليوم نتيجة عارضة للسعي نحو تحقيق هدف سياسي ما، بل، وحسب تفكير منفذيه، غدا جزءا من خطة كبيرة أمر بتنفيذها الرب ستجلب لهم المجد الأزلي. وليس هناك من طريقة للرد على هذا المفهوم، ولا طريقة يسيرة للتصدي لهذا النمط من التفكير. ولا تستطيع مجتمعاتنا فعل الكثير لوقف هذه الهجمات لأن كل ما تحتاجه هو عدد من الشباب المؤمنين بهذه الأفكار وبضع قطع من السلاح. ولهذا يشعر سكان مدننا اليوم وللمرة الأولى برعب حقيقي. بملايين الطرق الصغيرة والتافهة، يتغير سلوكنا. فثمة دعوات لأن يحمل رجال الشرطة الأسلحة حتى خارج أوقات واجباتهم. هل هذه هي سمات المرحلة المقبلة ؟ مجتمع مرعوب يحمل السلاح في كل وقت ؟ هذا بالضبط هو الذي يريده الذين نفذوا هجمات الأمس. فهدف هؤلاء الأسمى هو زيادة طغيان الدولة. وبعد ذلك، سيحاولون تنفيذ هجوم آخر يثبتون من خلاله ضعف الدولة. وفي غضون ذلك، يواصل اليمين المتطرف صعوده. وهذا هو هدف آخر للإرهابيين، إذ لن يسعد "داعش" أكثر من تولي مارين لو بان زعيمة الجبهة الوطنية السلطة وانهيار المجتمع الفرنسي وتحوله إلى فئات تحارب بعضها البعض. عمر نجيب [email protected]