مع شهر رمضان المبارك، يطفو على السطح ككل سنة، موضوع الأئمة وحاجة الجالية الإسلامية لمن يمدها بشحنات إيمانية إضافية تقوي لديها فرص التحصيل الديني السليم، بما يمكنها من تأسيس مرجعية دينية مشتركة قادرة على الصمود في وجه التيارات المتطرفة ومظاهر الإسلاموفوبيا التي تمنعها من التأطر والاندماج والمشاركة. وتشهد المنظمات الممثلة للجالية الإسلامية بفرنسا صراعا حادا بين مختلف مكوناتها لأخذ موقع متميز في المشهد الإسلامي الفرنسي من خلال الأئمة الموفدين من دول الانتماء، حيث كل منظمة تحاول استقطاب هؤلاء بما يعني أن الكلام عن «الإسلام الفرنسي» بما يقتضيه من قرار مستقل وتمويل ذاتي لم يحن بعد. والحرب أصبحت اليوم مكشوفة بين القنصليات يستعمل فيها «المال والنفوذ» من أجل بسط الهيمنة على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي هو أعلى هيئة تمثيلية للإسلام بفرنسا، وحمله على اختيار أئمة دون غيرهم لتأطير الدروس الدينية التي تلقى بمساجد فرنسا في شهر رمضان المبارك من كل سنة. وينفي أنوار كبيبش، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهو مغربي من أصول مكناسية، بشدة ما يروج من كلام عن هيمنة دول الانتماء على المجلس بقوله ل»العلم» : نحن في حاجة ملحة في كل رمضان إلى نحو مئة إمام وليس أمامنا سوى خياران : إما أن نستقدم أئمة مكونين، أو نقوم بتكوينهم في عين المكان كما اقترحت علينا ذلك وزارة الأوقاف المغربية. غير أن الحاجة الاستعجالية لهؤلاء الأئمة جعلتنا ندعو الوزارة إلى إيفاد دفعة أولى من ستين إماما قبل شهر رمضان في إطار شراكة واضحة الأهداف لا تخضع لأية تبعية أو وصاية». و المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لا يقلل بهذا المعنى من أهمية العلاقات مع موطن الانتماء، على أن تكون علاقات تشاركية تسهم في تلبية تطلعات وحاجيات الجالية الإسلامية في مجال التأهيل والتكوين المستمرين للأئمة بما يساعد على إشاعة ثقافة التعايش والتسامح والقضاء على أسباب الفرقة والإقصاء، وأيضا في مجال تدبير الشأن الديني بما يخدم مصالح الجالية الإسلامية برمتها دون تمييز في الهوية والانتماء. فعندما يأتي إمام من المغرب، فإنه يؤم الناس جميعا مغاربة كانوا أم جزائريين أم تونسيين أو حتى من أصول فرنسية. وثمار الشراكة في هذا المجال تنعكس على الجميع. وإذا كان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي يجمع كل التيارات المكوّنة للجالية المسلمة، يسعى إلى توحيد هذه الجالية ضمن مرجعية مشتركة وبشكل يسمح بتعريف واضح ومقبول لأهدافها، فإن تدبير الشأن الديني يبقى في الحقيقة من صلاحيات السلطات الفرنسية حيث سبق للرئيس فرانسوا هولاند أن عبر عن رفضه للأئمة الأجانب غير المرغوب فيهم، بل طرح فكرة «تجريد الأئمة المتهمين بالإرهاب من الجنسية الفرنسية». وقال في نفس السياق إنه سيفرغ وزارة الداخلية من 200 موظف لإلحاقهم بالاستخبارات المتعلقة بالإرهاب. وتركيز هولاند على موضوع الأئمة بلهجة التحذير يتناقض مع دراسة أعدها معهد الدراسات العليا للأمن الداخلي التابع لوزارة الداخلية، وركزت نتائجها على الطابع الأخلاقي للخطب الملقاة في المساجد الفرنسية وابتعادها عموما عن التحريض والإثارة. وكشفت وزارة الداخلية أن 40% من الأئمة في فرنسا هم من أصل مغربي و9% منهم حاصلون على الجنسية الفرنسية بينما كانوا لا يتجاوزون 4% سنة 1994. أما الأئمة المولودون في فرنسا (أبناء الجيل الأول من المهاجرين) فهم يشكلون أقلية صغيرة جدا. وأمام الأوضاع الدينية الصعبة التي تعيشها الجالية الإسلامية بفرنسا، لم تتمكن هذه الجالية للأسف من تشكيل «لوبي» أو جماعات هوية ضاغطة ومؤثرة في صناعة القرار، وفي الدفاع عن حقوقها ضد الهجمات المختلفة التي تستهدفها. وهي مع تعدد مشاربها الفكرية وانتماءاتها السياسية وغنى تكوينها الاجتماعي، ما زالت منقسمة بين من يتبنى مرجعية دينية وآخر وطنية إلى ثالث يحاول حصر انتمائه بالحدود الجغرافية لبلده الأصل فقط. وتكمن المشكلة أيضا في ارتباط المهاجرين بأكثر من عشرين بلدا إسلاميا، مع كل ما يحمل هذا الانتماء من تعارض وتقاطع بين اهتمامات هذه الدول وطبيعة السلطة فيها وعلاقتها بالمهاجرين وبسلطات البلد المضيف، فضلا عن الطابع غير الديمقراطي لمعظم البلدان المصدرة للهجرة، والتصدع السياسي والثقافي الذي تعيشه مع انعكاساته المختلفة على أبناء الهجرة الذين لم يجدوا بعد القدرة على الاندماج وإثبات الذات بالرغم من مرور عقدين على وضع الأسس الأولى للمجالس الإسلامية. وقد بدأت عمليات تنظيم الشأن الديني بفرنسا عام 1989 بمبادرة من بيير جوكس وزير الداخلية في الحكومة الاشتراكية آنذاك، وظهر حينئذ «مجلس التفكير حول الإسلام في فرنسا». ثم أراد وزير الداخلية اليميني، شارل باسكوا، تأسيس «المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا» سنة 1993 برئاسة الجزائري دليل أبو بكر، عميد مسجد باريس، غير أن المشروع لم ينجز بسبب نزاعات داخلية بين المسلمين اختلطت بالأحداث السياسية والأمنية في سياق ميزته تفجيرات في باريس نسبت ل»الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية. ولدى تولي جون بيير شفينمان، وزارة الداخلية في حكومة ليونيل جوسبان الاشتراكية، قرر سنة 1999 إجراء استشارة واسعة وفرت لخلفه ساركوزي أرضية عمل حقيقية سمحت له في ماي من سنة 2003 بإجراء انتخابات لتأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، أعقبها تعيين دليل أبو بكر رئيسا، بينما تم انتخاب المغربيين فؤاد العلوي من «اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا» ومحمد بشاري من «الفدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا» نائبين له.