تعزز الأدب السياسي الفرنسي بكتاب جديد يحمل عنوان "الفرنسيون والهوية الزائفة" لصاحبه بودوا غرافيي، المحلل السياسي بجريدة "فرانس أويست" الجهوية، وهي أول يومية نشرا وتوزيعا بفرنسا (550 ألف نسخة). ويرصد الكاتب بكثير من التفاصيل واقع السياسة التمييزية المتفشية في بعض شرائح المجتمع الفرنسي تحت أكذوبة التطرف الديني. ويلجأ إلى بعض التفاصيل الشخصية والملاحظات الخاصة لتسليط شعاع كثيف من الضوء على تأصل الفكر العنصري في الأوساط اليمينية المتطرفة بشكل خاص، بناء على قاعدة الدين والأصول والانتماء. ويقف الكتاب طويلا على "حوار الهوية الوطنية" الذي أطلقه الرئيس نيكولا ساركوزي في السنة الأخيرة من ولايته (2012)، لتمكينه من الظفر بأصوات اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الاشتراكي فرانسوا هولاند. وتطلب حوار الهوية "الزائفة" أزيد من 450 اجتماعا بكامل التراب الفرنسي وما لا يقل عن 55 ألف مداخلة لم تخل من "زلات لسان" أو فلتات عنصرية مقصودة من وزراء ونواب وحتى من بعض المثقفين والجمعويين المحسوبين على الحزب الحاكم آنذاك، "الاتحاد من أجل حركة شعبية". وقد تحول النقاش من الإجابة على سؤال مركزي "ماذا يعني أن تكون فرنسيا؟" إلى سؤال فرعي "من هو الفرنسي؟". وكشف هذا المنعرج الجديد في النقاش عن الوجه الحقيقي للحوار الزائف الذي لا ينم فقط عن عنصرية حقيقية تتعارض مع ثقافة التنوع التي يجب أن تسود المجتمعات البشرية، بل يتماهى في عمقه مع التيارات المتطرفة التي تنكر على الآخرين حق التميز والاختلاف وتصر على أن تجعل من الشعار الذي قامت عليه الثورة الفرنسية منذ أكثر من قرنين، مجرد ترف فكري تنظيري لا يتحقق أو لا يراد له أن يتحقق بتعبير أدق. أما إجابات الفرنسيين على سؤال انتخابي من قبيل "من هو الفرنسي أو ماذا يعني أن تكون فرنسيا؟"، فقد جاءت معقدة ومتشابكة وأحيانا غاضبة من وضع الهوية تحت مثل هذا العنوان. والكتاب هو أيضا فاضح لسياسة الهجرة الفرنسية التي تعد الأكثر تشددا في العالم من حيث طبيعة القوانين والشروط التعجيزية للإقامة، حيث تفاجئك دولة موليير كل سنة بقانون جديد يزيد في تأصّل أنماط التمييز العنصري وتجدّرها في بعض العقليات الفرنسية. فالراغب في الإقامة بفرنسا حتى وإن كان موفدا من مؤسسات وطنه عمومية كانت أم خاصة، تلاقيه جبال من المساطر والإجراءات، بعضها مقبول بحكم الهاجس الأمني، وبعضها تعجيزي ينم عن عنصرية صارخة. وبفعل هذا التمييز، يتيه الوافد الجديد بين مصلحة وأخرى لفترة قد تتجاوز السنة حتى إذا تسرب إليه الملل يعود إلى وطنه ناقما على سياسة عنصرية موجهة فقط للهجرة الإفريقية والمغاربية، لأن النظام التراتبي العنصري المتفشي داخل بعض شرائح المجتمع الفرنسي وبالخصوص اليمين المتطرف، لم يتخلص حتى اليوم من النظرة الاستعلائية القائلة بوجوب وضع حد فاصل بين نمطين من البشر: واحد منحط ووضيع لا قيمة لوجوده، وآخر متفوّق وذكي، يعود إليه الفضل في ولادة التاريخ وقيام الحضارة. وما يحتاج أن يدركه بعض الفرنسيين هو أن الهجرة قيمة اجتماعية وثقافية مضافة، وأن المرء قد يتأثر بأفكار "روسو" و"مونتسكيو"، دون أن يتخلى عن ابن خلدون وعابد الجابري، وقد يعجب بقيم الجمهورية "حرية مساواة أخوة" دون أن يتنكر لانتمائه العربي الإسلامي أو يتخلى عن جزء من هويته. فقد أصبح المهاجر الأمي مواطنا وإنسانا متعلما، رضع حليب الثقافة الفرنسية بالتأكيد، لكنه أدرك نسبيتها، وعرف ما يأخذ منها وما يترك. ويتزامن الكتاب مع تقرير شمولي نشره معهد "هاريس" الفرنسي أول أمس يفيد بأن أغلبية الفرنسيين يساندون فكرة فرض عقوبات صارمة وقوية على الأشخاص الذين يتصرفون بشكل عنصري ضد الفرنسيين من أصول عربية وإفريقية وحتى آسيوية. ويشير التقرير إلى أن حملات التوعية التي نظمت لغاية اليوم ضد ظاهرة العنصرية مثل إرسال سيرة ذاتية مجهولة الهوية للبحث عن العمل أو ملف مجهول الهوية من أجل استئجار مسكن، لم تعط النتائج المرجوة منها، حيث التمييز على أساس اللون واللغة والدين لا يزال متأصلا في قلب المجتمع الفرنسي. ويرى 61 بالمئة من الفرنسيين أن هناك ضرورة ملحة لتشديد العقوبات المفروضة على الأشخاص والمؤسسات التي تتصرف بشكل عنصري، وضرورة مقاضاة المتورطين بشكل عاجل وسريع. فيما يرى 56 بالمئة من الفرنسيين أنه من الضروري رفع شكاوى جماعية، باسم الضحايا والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، ضد العنصريين بهدف التوصل إلى نتيجة ملموسة، لأن التجربة أظهرت أن الدعوى القضائية المرفوعة بشكل فردي غير مثمرة حسب الاستطلاع. ويكشف التقرير أن 53 بالمئة من الفرنسيين يعتقدون بأنه لا جدوى من القيام بحملات توعية وطنية لتوعية الناس بخطر العنصرية كون أن هذه الحملات أثبتت فشلها ولم تأت بنتائج مرضية على الأرض. بالمقابل، يرى 56 بالمئة أن على الحكومة والجمعيات "اختبار" الشركات الفرنسية ومؤجري الشقق والمساكن لمعرفة ما إذا كانوا يتعاملون مع الطلبات التي تصلهم بشكل عادل وبدون عنصرية. ويأتي هذا التقرير والعدالة الفرنسية تنظر اليوم في شكوى رفعها مواطن فرنسي من أصول إفريقية ضد شركة تأجير مساكن بباريس تدعى "لوجيريب" رفضت في 2013 تأجيره شقة له بحجة أنه أسود البشرة. كما تواجه نفس الشركة تهمة أخرى تتعلق بنشر لائحة أسماء من أصول أجنبية قد تكون منعت من الاستفادة من مسكن كونها أجنبية أو من أصول أجنبية.