احتدم الجدل في الأيام الأخيرة بفرنسا بعد الحركة التضامنية التي ميزت الساحة الفرنسية إثر الاعتداء الشنيع على مجلة شارلي إيبدو، حول النشيد الوطني بين من يرى فيه رمزا مقدسا، ومن يعتبره مؤشرا على أن فرنسا بلد يشك في ذاته وتنقصه الثقة في نفسه، علما أن وزيرة العدل، كريستيان توبيرا، على سبيل المثال، ترفض أداء النشيد الوطني حتى في المناسبات الهامة التي تخلدها فرنسا سنويا مثل إحياء ذكرى إنهاء العبودية.. ويقرا الكثيرون في امتناع الوزيرة المعنية وهي من أصول زنجية عن أداء النشيد الوطني نوعا من الإهانة للفرنسيين ولتاريخ وحضارة فرنسا. والجدل حول موضوع النشيد الوطني يقسم الفرنسيين إلى فريقين : فريق يعتبر النشيد الوطني رمزا يعبر عن هوية الدولة يجب احترامه وليس بالضرورة التغني به، كما يفعل بعض لاعبي المنتخب الفرنسي الذين لا يؤدونه لأن ذلك غير إجباري، وفريق يرى أن النشيد الوطني رمز له خصوصيته البارزة في نفوس مواطنيه من حيث التقدير والاحترام وربما التقديس لدى الكثير من الشعوب الذي ترى فيه رمزا كاملا يلخص تاريخها وأمجادها، حيث هو الصوت الجماعي المعبّر عن وحدة الأمة واستقلالها، إضافة إلى المعاني الكثيرة التي يحملها وهي معان حضارية واجتماعية وسياسية وتاريخية ونضالية تحمل في ثناياها الاعتزاز والفخر بتواريخ البلدان والأمم. ويتزامن الجدل المحتدم حول النشيد الوطني بفرنسا مع الدعوة التي أطلقها الحزب المعارض، الاتحاد من أجل حركة شعبية، بشأن "حوار الهوية الوطنية" في نسخته الثانية بعد "الحوار الوطني" الذي أطلقه الرئيس نيكولا ساركوزي في السنة الأخيرة من ولايته (2012)، لتمكينه من الظفر بأصوات اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الاشتراكي فرانسوا هولاند. وتطلب "حوار الهوية" آنذاك أزيد من 450 اجتماعا بكامل التراب الفرنسي وما لا يقل عن 55 ألف مداخلة لم تخلُ من "زلات لسان" أو فلتات عنصرية مقصودة من وزراء ونواب وحتى من بعض المثقفين والجمعويين المحسوبين على الحزب الحاكم آنذاك. وقد تحول النقاش من الإجابة على سؤال مركزي "ماذا يعني أن تكون فرنسيا؟" إلى سؤال فرعي "من هو الفرنسي؟". وكشف هذا المنعرج الجديد في النقاش عن الوجه الحقيقي لهذا الحوار الزائف الذي لا ينم فقط عن عنصرية حقيقية تتعارض مع ثقافة التنوع التي يجب أن تسود المجتمعات البشرية، بل يتماهى في عمقه مع التيارات المتطرفة التي تنكر على الآخرين حق التميز والاختلاف وتصر على أن تجعل من الشعار الذي قامت عليه الثورة الفرنسية منذ أكثر من قرنين، مجرد ترف فكري تنظيري لا يتحقق أو لا يراد له أن يتحقق بتعبير أدق. أما إجابات الفرنسيين على سؤال انتخابي من قبيل "من هو الفرنسي أو ماذا يعني أن تكون فرنسيا؟"، فقد جاءت معقدة ومتشابكة وأحيانا غاضبة من وضع الهوية تحت مثل هذا العنوان. وإذا كانت الأحزاب السياسية على اختلاف قناعاتها، قد حاولت بشكل أو بآخر ربط الهوية الفرنسية ب"اللغة" و"النشيد الوطني" و"الثورة الفرنسية"، فإن شريحة واسعة من المثقفين والحقوقيين رأت في الهوية أوسع من حصرها في رمز معين من شأنه أن يقصى رموزا أخرى، واعتبرت أن السؤال يحمل نية مبيتة "للحصر والإقصاء". وقد ذهبت النخب المثقفة حينذاك إلى حد المطالبة ليس فقط بوقف النقاش عن "الهوية الزائفة" الذي تحول عن مجراه ليشكل استفزازا مجانيا لمشاعر المسلمين، ولكن أيضا بإلغاء وزارة الهجرة والهوية على اعتبار أن وجودها مخالف للمبادئ التي قامت عليها فرنسا. وترى بعض النخب الفرنسية ومعها فعاليات مختلفة من أصول أجنبية، أن طرح النشيد الوطني على خلفية عنصرية يعني أن بعض الأحزاب وفي مقدمتها اليمين المتطرف، لم تتخلص حتى اليوم من النظرة الاستعلائية القائلة بوجوب وضع حد فاصل بين نمطين من البشر: واحد منحط ووضيع لا قيمة لوجوده، وآخر متفوّق وذكي، يعود إليه الفضل في ولادة التاريخ وقيام الحضارة. وما يحتاج أن يدركه بعض الفرنسيين هو أن الهجرة قيمة اجتماعية وثقافية مضافة، وأن المرء قد يتأثر بأفكار "روسو" و"مونتسكيو"، دون أن يتخلى عن ابن خلدون وعابد الجابري، وقد يعجب بقيم الجمهورية "حرية مساواة أخوة" دون أن يتنكر لانتمائه العربي الإسلامي أو يتخلى عن جزء من هويته. فقد أصبح المهاجر الأمّي مواطنا وإنسانا متعلما ومتحضرا، رضع حليب الثقافة الفرنسية بالتأكيد، لكنه أدرك نسبيتها، وعرف ما يأخذ منها وما يترك.