كَبُر الشعر شوقاً أو كَبُرَ الشوق شعراً لمراكش، حتى وجدتني بنداء من الشاعرة المغربية الكبيرة مليكة العاصمي، التي مازالت القصيدة العربية ترفُلُ في عِصمتِها، في قلب الوردة الحمراء بمهرجان مراكش الدولي للشعر الذي أتى دورته الثانية، شاعرات وشعراء من أحد عشر بلداً؛ (المغرب وفلسطينوالأردن ومصر وسورياوإيطالياوألمانياوالبرتغال والدانمارك وإسبانيا وشيلي)؛ أليس هذا ما يمكن توصيفه بعالمية الشعر؟؛ ومع ذلك اتضح بما يزيد مراكش حُمرة لا تَطلعُ إلا في خدود العذارى، أن العالمية الحقيقية، هي أن تحُلَّ في الجغرافية اللانهائية والإنسانية لقلوب الشعراء حيثما وُجدوا في العالم؛ لذلك حدثني دفين أغمات بأحواز مراكش وأميرها الشاعر الأندلسي » المعتمد بن عباد« وأنا أجلس بجوار رأسه، فقال: شكراً للشعر الذي أتى بشعراء العالم إلى بلاطي في الآخرة، ولو عُدت للحياة ملكاً، لجعلت للشعر سفارة لما له من دور في الوجود قد أسميه إذا وافقت القصيدة؛ دبلوماسية الإنسان..! أجل، فقد وجدتني أَدِبُّ مع القطار إلى مراكش، ترافقني على امتداد السفر إلى الشعر، شقيقة النعمان أو شقائقه التي لا تنبت إلا بعيداً في العراء، كأنما تُهرِّب عُذريتها المشتهاة، خَوْفَ أن يَمس حمرتها افتضاض قد يؤول إلى ذبول؛ قلتُ عَجباً لِقَدريَّة الصُّدفة التي كلَّلَتْني وأنا في الطريق إلى المدينة الحمراء بزهور ليست فقط حمراء بل قانية؛ وذلكم لَعَمْري أجمل احتفال تقدمه الطبيعة للشاعر الذي يحتاج بين قصيدة وأخرى، أن يصير ربيعاً رغم أنف كل الفصول..! لم أكد أستكمل الإجراءات الرتيبة للفندق الذي لا تفصله عن محطة القطار إلا مسافة عشر دقائق مشياً على الأقدام أو الأقلام، حتى انتعلتُ الهبوب عساني أسترد في افتتاح المهرجان، بعض أنفاسي من إحدى قصائد مليكة العاصمي، التي أعلم أنها حين تَشْرعُ في جذبتها الاستيهامية، لا تنتظر أحداً، لكنني وجدت عُمُراً قد فاتني بانتهاء الشطر الأول من احتفالية الافتتاح، التي تميزت بقراءات شعرية موسومة ب» حالات«، أنشدتها العاصمي التي حملت هذه الدورة الثانية من المهرجان اسمها، فكانت بقصيدتها حقاً مليكة..! رغم أنني ضَيَّعتُ بسبب بُطْءٍ في القطار، حالات شاعرتنا، لكنني سرعان ما عُدت إلى حالتي التي لا تَعْدَم أسارير طلقة لا تضع الإنسان فوق حاجب العين فقط، بل تَدُسه في القلب أيضاً، وسرعان ما انسَبْتُ سلسبيلا في مجرى التَّعَرُّف على ضيوف المهرجان، فعانقت كنهر أوتي كل الحواس، شاعرات وشعراء أحد عشر بلداً عربياً وأوروبياً، وهم؛ مليكة العاصمي، محمد علي الرباوي(الشاعر المغربي الكبير الذي جعل دمعنا يَنْفَرِطُ على شفا الجفن بقصيدة »البريد يصل غداً «، وهي في رثاء صديقه الشاعر الراحل الطاهر دحاني)، محمد بشكار، دليلة حياوي، اسماعيل زويريق، وسعيد التكراوي (المغرب)؛ وليد الكيلاني، مايا أبو الحيات وأنس فايز أبو رحمة (فلسطين)؛ شريف الشافعي وسارة علام (مصر)؛ عائشة الحطاب (الأردن)؛ حسين حبش (سوريا)؛ غوزيب نابو ليتانون، كلوديو بوزاني وإيرين فالوني (إيطاليا)؛ ماريا شواو (البرتغال)؛ يولندا دوك بيدال (الشيلي)؛ ميكائيل أوغستين (ألمانيا)؛ يولندا سولر أونيس (إسبانيا)؛ نيلس هاف (الدنمارك)؛ ناهيك عن الناقد الدكتور علي القاسمي الذي أعاد لفلسطين دربها عبر أوردتنا، رغم أن مستقرها دائماً في الفؤاد، وبذلك يعود الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسمي في اليوم الثاني من المهرجان، إلى الحياة في شعره الذي سيَخُلد أبداً في ذاكرة الإبداع الإنساني، ومثلما حضر سميح القاسم بقوة الكلمة في المهرجان، فأفعم بصائرنا بثراء مساره الشِّعري وثيق الجذور بسيرة النضال في الحياة، حضر أيضاً في أبصارنا بقوة الصورة وجماليتها، من خلال فيديو طرَّزت لحظاته البليغة التي توثّقُ لجزء من ذاكرة الشاعر، الأستاذة أمينة حسين بمعية الأستاذتين أبرار حسين ومنار حسين، وهن جميعا من فلسطين؛ أما الروائي والناقد العراقي المعروف عبد الرحمن مجيد الربيعي المقيم بتونس، فقد رَصَّع شهادته القيمة في افتتاح المهرجان يوم 7 أبريل 2015، جَوْهرةً في جيد الشاعرة مليكة العاصمي، فتحدث عن مدى رسوخ تجربتها الشعرية في الثقافة العربية، ودورها الجمالي في تحديث القصيدة، دون أن ينسى مليكة العاصمي الإنسانة في الحياة الاجتماعية ودورها الفعّال في المنافحة عن حقوق المرأة المغربية؛ تُراني نسيتُ اسماً في أيام مهرجان مراكش الدولي للشعر..؟! قد أنسى كل شيء حتى نفسي، إلا الشعر الذي يُذكرنا في كل ما يُنشِئُ أيامنا، أنّا موجودون، خصوصا إذا كان هذا الشعر أقرب للإنسان من حبل النشيد؛ وأجمل ما تحقَّق في هذا المهرجان الفتي، هي تِلْكُمُ الجغرافيا الإنسانية التي تنتفي بجماليتها الروحية كل الحدود، فقد استطعتُ بجرعات شعرية قوية أدمنتني خلال أيام المهرجان، أن أنتقل دون جواز ولكن بمجاز نصوص الشاعرات والشعراء، عبر بلدان أوروبية وعربية شتى دون أن أبرح مكاني، سوى أن مراكش لا تفتأ تُنازعني شططي الذي أمارسه في التخييل، فتذكرني وأنا أسافر بالشعر كل العالم، أنني مازلت في قلبها الذي تضاهي حمرته كل الشقائق في حقول المغرب ولو نبت جُرحُها على قبر النعمان بالعراق.. ! شكرا مراكش، سآتيك كلما ساورني الشعر بالحنين؛ أجل سآتيك ما دامت القصيدة بكل جمالها وجذبتها في عِصْمَةِ شاعرة اسمها العاصمي وهي مليكة.. !