لا أعرف كلما مسَّني تفكير في اسم مليكة العاصمي، أجدني أحاكي القصيدة في جمالية الإنزياح عن الواقع؛ ليس هروبا من سطوته الكاتمة للأنفاس، ولكن تحقيقا لمسافة توتر تبدي هذا الواقع عاريا من كل لَبوس زائف وصفيق؛ وهكذا تماديت في إدمان النظر لمليكة من خَلَل القصيدة وليس خشبية الواقع الذي لو أفردنا بعض الصفحات في سيرته الموصولة، لوجدنا شاعرتنا أبلغ من دبجه بماء الذهب؛ أليست هي المناضلة السياسية والبرلمانية والباحثة في شؤون المرأة وشجونها، المشهود لصوتها العالي بالنفاذ إلى العقول كما القلب..؟. حقا، لا أعرف لماذا يغيب عن عيني هذا النصف الناتئ من القمر، وأحيله إلى هامش من رماد، لتنجلي فصيحا، مليكة الشاعرة، ربما لأني أومن أن صوت الإبداع أقوى، وثيق الأوردة بالتاريخ والحضارة والإنسان والاستشرافية الرؤياوية للمستقبل، وأنه لا يتبقى حين نطوي كل الجرائد في المساء، وقد تحولت ألوانها وأطيافها السياسية إلى حبر أسود في أصابعنا، سوى حديث مع أنفسنا لو أخضعناه لتحليل سيكولوجي، لاتضح أنه شطح واختلاج وخواطر تنتمي لمنطقة الخيال؛ خيال الشعر الذي كثيرا ما وجدت فيه ملاذي عبر قصائد الشاعرة القديرة مليكة العاصمي، حين أنتهي من صخب النهار..! لذلك قال هولدرلين وهو يتاخم الغابة السوداء: ما تبقى يؤسسه الشعراء..! لن نتخذ في هذه الشهادة من القول مغزلا للَّف والدوران حدَّ اشتباك الخيوط، فقط أجزم أن الأستاذة الشاعرة مليكة العاصمي، منذ انعتقت خارج الأسوار في ديوانها الأول عام 1987، أسرتنا بالشمس الطافرة من أحواز شعرها؛ جسورة تفجر لُغم المعنى حتى لو كان ممنوعا، ملء عراء اللغة التي لا تعرف مشياً دون إيقاع جامح، سواء تعلق المعنى بالوطن أو الجسد؛ وأعترف أنّي وسوست بيني وبيني وأنا أقرأ قصيدتها الفاتكة «نوَّار الشمس» في ديوان «دماء الشمس»، أن المرأة إذا كانت شاعرة، تستطيع أن تكتب أجمل وأبلغ غزًلٍ حول نفسها، حدّ الاستيهام الذي لا يحُدّه أفق أو شبق في تضاريس الجسد، مما قد يشكّل خطراً على كل الرجال الذين لا يملكون لساناً شعرياً؛ وذلكم ما حذا بالأستاذ عبد الكريم غلاب للقول عن شعر مليكة العاصمي، أو بالأحرى عن الصّور الشذرية التي يَكْتَنِفُ لُؤلؤَها صدفُ هذا الشعر؛ «تحسبها غزلا، تخرج من نطاق الغزل إلى عالم الصور الحياتية الإنسانية»؛ لنقل إن قصيدة «نوّار الشمس» للعاصمي، تنبسط كجغرافيا إيحائية لا تتمرأى جبلّتها الطبيعية إلا من خلال حجاب شفّاف، وهي ليست من الصنف الذي يتبدى من القراءة للكلمات في معناها الأحادي، إنما هي نص شعري إحالي يحتاج لثقافة تتوتَّر بجدلها بين التراثي والحداثي، فتضرب لنا العاصمي موعدا رمزيا تحت خباء القصيدة، مع المتنبي وديك الجن، وحتى الموسيقار محمد عبد الوهاب؛ نقرأ من هذه القصيدة التي يسبق خدر عطرها كل نوّار: منذُ تفتح فلقُ الإصباحِ تفتّحتُ وفجّرني خيطٌ ذهبيُّ غازلني وتبرْعم في نوّارتيَ الصفراء فتَّحْت بذوري نَوَيَاتِيَ ونُذُوري فتَّحْتُ دَواخِلَ رُوحي في وَهَجِ الإشْعاعْ نَزَعْتُ خُدورِي خَلْخَلْتُ جُذُوري وَاسْتَكْمَلْتُ لمَصِّ النَّارْ جَسَداً حلَّ مَسَارِبَهُ لِتَلَقِّي نَضْحِ الشَّمْسِ اللاَّهِبَةِ اللَّّهْفَى. أعود لأعترف دونما حاجة لكرسي، أن قصيدة «نوّار الشمس» من أجمل وأبلغ ما طرّزته يد شاعرة في العالم العربي، عرفت كيف تقرأُ قبل غيرها حواس الجسد؛ وهي لعمري ليست مجرّد شعر، إنما أرض ناضحة بكل الينابيع حيثما تصب تُنبِتُ نوّاراً بَرِّياً، ولا تحتاج هذه الأرض الشعرية إلى أن تسقط تفاحة نيوتن، كيف نكتشف جاذبيتها الآسرة من جديد..! قرأت هذه الشهادة على خشبة المسرح في حفل تكريم الشاعرة مليكة العاصمي الذي نظمته رابطة كاتبات المغرب، مساء السبت 23 فبراير 2013.