بالرغم من الحملة التي أطلقها الفاتيكان بعد سقوط الأندلس للسيطرة على الساحل المتوسطي الذي انتهى باحتلال إسبانيا لمليلية منذ ما يزيد على خمسة قرون، وما عاشته قبل ذلك في ظل الفنيقيين والقرطاجيين والرومان، فقد تمكن مسلمو المدينة التي تصل مساحتها إلى 12 كيلومتراً من الحفاظ على هويتهم الإسلامية في فضاء تختلط فيه الثقافة العربية والأمازيغية بالأندلسية والأوروبية، خصوصية لاتمنع سكانها من ممارسة شعائرهم ضدا على كافة العراقيل والتضييقات التي تمارسها السلطات المحلية بالثغر المحتل ضد بناء المساجد والكتاتيب القرآنية عبر سياسة جندت لها كافة الأساليب من إغراءات وامتيازات للتأثير في فكر الأجيال الصاعدة وضغوطات نفسية طالت أعداداً كبيرة من المسلمين بالمدينة. إكراهات تعددت مع ظروف صعبة فرضها واقع الحياة بين ساكنة تتوزّع بين مسيحيين وأقليات يهودية وهندوسية، يمثل المسلمون فيها عصب المجتمع بعدد يصل إلى 35 ألفا بنسبة تقارب 50% ، وهو رقم فرض نفسه على أكثر من واجهة وتحوّل إلى ملف كثيراً ما يزعج ويؤرق بال الحكومة المحلية التي تجد نفسها مرغمة على استنفار أجهزتها الأمنية مع كل صلاة جمعة أو أيام أعياد الفطر والأضحى، مناسبات لايحتاج فيها أيّ فرد لمجهود بغية لقاء بني ملته وإخوانه من المسلمين أو التعرف على أحوالهم، فقط عليه أداء إحدى الصلوات في واحد من مساجدها التي يبلغ عددها 13 مسجدا منتشرة عبر كل الأحياء والتجمعات السكنية سواء في «لابينيدا» أو في اتجاه المعابر مع «فرخانة» أو «بني أنصار» أو «باريتشنو» وكذلك بالقرب من الواجهة البحرية أو «المونتي» فيما يظل أبرز فضاء ديني بمليلية هو المسجد المركزي أو كما يسمى بلسان ساكنتها مسجد «أراشترو» الذي بني على عهد الجنرال الراحل فرانكو سنة 1945 إذ ترجع مختلف المصادر التاريخية فكرة بناء المصلى إلى قرار من الجنرال الذي حكم إسبانيا بقبضة من حديد كرد فعل لاستمالة تعاطف المغاربة والمسلمين من أهل مليلية ومناطق الريف كافة ومكافأتهم على خدمة أهدافه العسكرية إبان الحرب الأهلية التي شهدتها إسبانيا ما بين 1936 و 1939. مسجد يتحول فضاؤه الداخلي وجنباته عند كل جمعة إلى تجمع للمئات من المسلمين فتصبح معه الأزقة والشوارع المجاورة شبه مغلقة نتيجة ضغط بشري ناتج عن إقبال المصلين لأداء الصلاة، وضع يمس الحركة التجارية التي تتأثر محلاتها بتقلص حركة السير والتبضع في شوارع وساحات المدينة. أما باقي المساجد التي تأسست على فترات متباعدة فقد ارتبطت في الأصل بمدى تحوّل فكر المسلمين ورغبتهم في رفع التهميش والإقصاء الممنهج في حق هويتهم الإسلامية الشيء الذي ولد وعياً جماعياً خلص إلى ضرورة صيانة وحدة مكونات المجتمع الإسلامي وصيانة دينه كحق مشروع يمكن أفراده من الاعتقاد وممارسة الشعائر بكل حرية دون ضغوط أو عنصرية تبدو معالمها على أصعدة مختلفة تبدأ من داخل المؤسسات التعليمية الابتدائية التي يتم فيها تخصيص حصص ومقررات تعرّف بالمسيحية بهدف التأثير في العقول الصغيرة والفتية من أبناء المسلمين الذين يفوق عددهم 500 تلميذ مسلم. ومع التزايد الملحوظ لتنامي عدد المسلمين بإسبانيا عامة ومليلية خاصة أخذت العديد من الأصوات والهيئات المدنية والجمعوية لاسيما تلك المعروفة بأنشطتها في مجالات خيرية وتضامنية تدعو المسؤولين بالمدينة السليبة إلى إعادة مراجعة القوانين المنظمة لمسألة التدين والطوائف الدينية مع منح المسلمين نفس الامتيازات التي يحصل عليها المسيحيون واليهود، وضعية يراها أكثر من طرف لاتعطي الانطباع الإيجابي عن مدى احترام حقوق الإنسان من طرف الإدارة الإسبانية في مجتمع يمثل فيه المسلمون النصف،وهي الحقيقة التي توصلت إليها الحكومة المحلية بالمدينة بعد موجات ضغوط ومطالب كان آخرها طرح مسألة الاعتراف بعيد الأضحى كيوم عطلة في جدول أعمال البرلمان الإسباني، خلاصة انتبه إليها المسؤولون فكان أن صدر قرار مفاده اعتبار عيد الأضحى يوم عطلة رسمية ابتداء من 2010 فجاء هذا القرار ليؤكد فعالية ومكانة المسلمين كمكون أساسي للمجتمع الإسباني في مليلية التي لايمكن لها أن تنسلخ عن خصوصيتها الحالية المستمدة من ثقافة ضاربة في التاريخ، يمثل فيها الإسلام جانبا مهما يحرك العلاقات الاجتماعية بين المسلمين ودستور روحي يتم الرجوع إليه عند الضرورة. دين يبقى دوماً منفتحاً على بقية الطوائف الدينية بمليلية أو «مريتش» كما يحلو لأمازيغ المنطقة تسميتها. فكما أن على المسلمين واجبات فلهم حقوق يجب صيانتها وخصوصية يجب احترامها، أولها وآخرها حرية الساكنة المسلمة في الاعتقاد والافتخار بهوية لم تدع أبداً إلى العنف أو العنصرية والتطرف بل ظلت على مدى قرون وقرون رمزاً للتسامح وحسن الجوار.