لم تكن التعديلات الدستورية الأخيرة التي فرضها السيد عبد العزيز بوتفليقة رئيس دولة الجزائر مفاجئة للرأي العام الداخلي والدولي ؛حيث بات مطلوبا منه في الآونة الأخيرة التراجع عن بعض المكتسبات الديموقراطية التي سبق أن رسخها دستور 23 فبراير 1989 على إثر الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات الاجتماعية ونفوذ الحركات الإسلامية في الوسط الشعبي الجزائري ضدا على تجاوزات النظام العسكري الجزائري آنذاك. لقد صادق مجلسا البرلمان الجزائري:المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة يوم 13 نوفمبر 2008 على خمسة عشر تعديلا دستوريا بتصويت شبه إجماع من الائتلاف الحزبي الثلاثي الأغلبي ذي 389 صوتا في الغرفة الأولى و144 صوتا في الغرفة الثانية والذي يتمثل في كل من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي وحركة مجتمع السلم المدعمة كلها لرئيس الجمهورية . ومن بين أهم المواد الدستورية المثيرة للجدل التي لحقها التعديل ولفتت اهتمام المتتبعين السياسيين بشكل غريب هي أولا:المادة 74 التي كانت تحدد حكم رئيس الدولة في ولاية قابلة للتجديد مرة واحدة ،إذ تم تعديلها لتسمح بترشح رئيس الدولة على وجه الدوام والتأبيد ؛ثانيا: المادتان 79 و80 المتعلقتان برئيس الحكومة واختصاصاته وتسميته ب»الوزير الأول» عوض رئيس الحكومة وجعله منفذا لبرنامج رئيس الدولة عوض برنامجه الحكومي وكونه منسقا بشكل دائم مع الرئيس دون تمتعه بأي استقلالية في العمل الحكومي ؛علما أن هناك مواد أخرى تم إلحاقها بالتعديل فقط ذرا للرماد على الأعين كمسألة اعتبار العلم الوطني والنشيد الوطني من مكاسب ثورة أول نوفمبر 1954 في المادة الخامسة ؛وأنهما غير قابلين للتغيير وهما رمزان من رموز الثورة والجمهورية ومسألة أن القانون هو الذي يحدد خاتم الدولة ،كما أن التعديل لحق المادة 31 التي تنص على أن الدولة تعمل على ترقية الحقوق السياسية للمرأة بتوسيع حظوظ تمثيليتها في المجالس المنتخبة ،وهو تعديل الغرض منه تنميق المشاركة السياسية للمرأة فقط وجلب رضاها داخليا وترضية المؤسسات الدولية. إن التعديل الدستوري الذي مس كل من المادة المتعلقة بولايتي الرئيس وتقليص صلاحيات الوزير الأول في المواد74 ثم 79 و80 أعلاه يعد أكثر خطورة في القانون الدستوري الجزائري ؛لكونه يعد فعلا انقلابا سياسيا على توازن السلط التي ما فتئت تتغير منذ تعديلات ما بعد 1989 لصالح رئيس الدولة الذي بدأ يحتكر السلط بشكل متزايد وخطير على حساب كل من سلطة البرلمان وسلطة الحكومة وغيرهما من المؤسسات الدستورية. وبالنسبة لمسألة تأبيد الحكم في شخص الرئيس الحالي نطرح أكثر من سؤال أهمها ما الغاية من هذا التعديل والجزائريون يعلمون أكثر من غيرهم أن الرئيس الحالي يمر بظروف صحية صعبة وأن ظروفه هذه لم تعد تسمح له بمواكبة الأنشطة الحكومية الرسمية وغيرها على المستوى الوطني والدولي ؛إذ أن هذه الظروف جعلته أقل ظهورا عما كان عليه فيما مضى ؛كما أن هذا التأبيد لا شك يفهم منه أنه لأول مرة يحدث في تاريخ الجمهورية باستثناء العهد البومديني الذي عمر فيه الراحل هواري بومدين حوالي 13 سنة بعد انقلابه على الرئيس الشرعي أحمد بن بلة وكذا ولايات الرئيس الشاذلي بن جديد بنفس المدة أي أنه أضاف ولاية ثالثة إلى أن تم الضغط عليه لتقديم الاستقالة على إثر اقتناع الجيش باكتساح الإسلاميين للمجالس الانتخابية المحلية والتشريعية ؛بينما لم يعمر في الحكم السادة: «أحمد بن بلة»: سوى 3 سنوات و»محمد بوضياف»: 6 أشهر فقط و»علي كافي» :سنة ونصف و»اليامين زروال»: خمس سنوات ونصف؛وهكذا يبدو أن الرئيس الحالي يعد من بين الرؤساء الأكثر تنسيقا وخضوعا للنظام العسكري والأكثر ترضية لمصالح المؤسسة العسكرية وهو ما سييسر له ولاية ثالثة بأيسر السبل . وإن التعديل الدستوري الذي هم أيضا صلاحيات الوزير الأول بتقليص مركزه القانوني وجعله أداة خاضعة للرئيس يعد تراجعا خطيرا عن آليات المنهجية الدستورية الديموقراطية التي يكون فيها الوزير الأول ممثلا لأحزاب أخرى ذات أغلبية في البرلمان وغير موالية للرئيس وحاملا لبرنامج مخالف لبرنامج الرئيس ؛مما يعقد عملية بروز قوى سياسية أخرى في الحكم حتى وإن أفرزتها صناديق الاقتراع ؛مما يفيد أن الرئيس بإمكانه تعيين وزير أول حتى من خارج الأغلبية ذات الريادة في المشهد السياسي الجزائري أي حتى وإن كان ممثلا لحزب ضعيف ما دام الرئيس سيضمن له ائتلافا حكوميا مسنودا بالبرلمان . إن التعديلات الدستورية الأخيرة التي تمت عن طريق البرلمان وليس عن طريق الاستفتاء الشعبي تبرز بوضوح جنوح النظام العسكري إلى جمع السلط كافة في يد رئيس الدولة وبالتالي تقريبها من المؤسسات العسكرية؛مما يستنتج معه أن النظام الجزائري أصبح غارقا في النظام الرئاسي أكثر من اللازم أي أكثر من الأنظمة الرئاسية المعروفة عالميا كما هو شأن النظام الأمريكي على سبيل المثال والنظام الفرنسي شبه الرئاسي ؛وهو ما يتناقض مع الميثاق الوطني الجزائري ومع النهج الاشتراكي الذي تعمل بهما الجزائر منذ عقود ؛إنه التوجه البومديني الذي يؤمن بالانقلاب على المنهجية الدستورية الديموقراطية من جهة ويؤمن بهيمنة المؤسسة العسكرية على الشأن العام من جهة ثانية وتدبيرها وتحكمها في الشأن السياسي من جهة ثالثة ثم بتقوية صلاحيات الرؤساء المطواعين للجيش على حساب صلاحيات المؤسسات المنتخبة الشعبية من جهة رابعة . إن تلك القيم أعلاه متوفرة منذ القديم في السيد عبد العزيز بوتفليقة وهذا ما جعله يحظى بدعم المؤسسة العسكرية في الانتخابات الرئاسية التي تمت مباشرة بعد تنحي الرئيس «اليامين زروال» في شتنبر 1999 رغم ترشحه مع ست مرشحين أقوياء منهم من سبق أن شغل منصب رئيس الحكومة «كمولود حمروش» و»مقداد سيفي» أي في مركز أسمى من منصب بوتفليقة الذي كان وزيرا عاديا فقط ومنهم «طالب الإبراهيمي» كوزير أقوى وحسين آيت أحمد ذي الماضي الوطني التاريخي ؛إلا أن هذا كله لم يكن ذا قيمة حيث فضل الجيش نبل وإخلاص عبد العزيز بوتفليقة عن غيره ؛وهو ما بدا وضحا في تدخل الجيش في العملية الانتخابية مما أسفر عن انسحاب المرشحين الستة بشكل منسق وجماعي بيوم واحد قبل إجراء الاقتراع؛وفاز فيها بوتفليقة بنسبة ثلثي أصوات الناخبين تقريبا حسب التقديرات الرسمية ؛وهي مسرحية تكررت من جديد في الانتخابات الرئاسية في أبريل 2004 حينما عمل المجلس الدستوري على إقصاء ثلاثة مرشحين من أقوى المنافسين لبوتفليقة وهم أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية الأسبق وسيد أحمد غزالي الذي شغل منصب رئيس حكومة أسبق وموسى تواتي رئيس الجبهة الوطنية وذلك حتى تسهل عملية إسناد ولاية ثانية للرئيس الحالي . إن الشعب الجزائري يتأسف فعلا على هذه التعديلات الدستورية المقترحة من طرف الرئيس والتي لا علاقة لها بالأجندة الشعبية الأزومة ؛فهي لا تسمن ولا تغني من تردي الأزمات المتفشية في الوسط المجتمعي من فقر وأمية وفساد ورشوة وضعف القدرة الشرائية للمواطنين وضعف البنيات التحتية وبروز مظاهر الفساد الاقتصادي والإثراء الفاحش السريع في وسط الطغمة العسكرية وتزايد ظاهرة الهجرة السرية ؛وكذا ضعف الحريات العامة والغياب عن المشاركة السياسية بتفشي ظاهرة العزوف السياسي في الوسط الشعبي وخاصة في أوساط الشباب والمرأة وقمع حرية الصحافة وتزوير الإرادة الشعبية في الاستحقاقات الانتخابية ؛كما أن مما يؤخذ على الرئيس منذ سنة ونصف عجزه عن إيقاف مسلسل العنف وخاصة ضد جماعة القاعدة بالمغرب الإسلامي . إن الدولة الحالية صحيح أنها تقوم بأوراش تنموية مهمة كالطرق السيارة والميناء المتوسطي أسوة بما أنجزه المغرب إلا أن الشعب الجزائري يتساءل باستمرار عن مصير ملايير البترودولار التي دخلت ميزانية الدولة في الآونة الأخيرة جراء ارتفاع ثمن النفط والغاز ولم تعرف بعد طريقها إلى تنمية البلاد ؛وهذا ما دفع الشعب الجزائري إلى تخليد الذكرى العشرينية لانتفاضة 1988 في جو احتجاجي ضد عبث النظام الحاكم ؛حيث أن البيئة والظرفية الاقتصادية التي آلت إلى إضرابات القفة سنة 1988 لا تزال ماثلة وحاضرة في الوسط الجزائري دون تحسن أو تطور. إن التعديلات الدستورية الأخيرة كانت تعديلات خادمة للنظام العسكري القائم أكثر من أي جهة أخرى ؛وبالتالي سوف لن تؤول سوى إلى تعميق الجمود والانغلاق في المشهد السياسي الوطني مما سيزيد في تأزيم الأوضاع بالبلاد وبالتالي فقدان الثقة فيما بين النظام والشعب الجزائريين ؛وهذا ما سجلناه بشكل واضح أكثر من مرة سواء بالنسبة لمسألة الوئام الوطني أو بالنسبة للانتخابات التشريعية الأخيرة التي حطم العزوف السياسي فيها كل الأرقام القياسية؛ والتي كما يقول السيد موسى تواتي زعيم سياسي لحزب معارض :»لم يصوت فيه الشعب سوى بنسبة عشرين بالمائة فقط على أعضاء البرلمان الحالي» ؛وهو أيضا ما يجعله كما تقول السيدة لويزة حنون زعيمة حزب سياسي معارض أيضا أن :» البرلمان ناقص شرعية بل خطر على الأمة»؛وإن حرمان الشعب الجزائري من مبدإ تقرير مصيره بشأن التعديلات الدستورية المطروحة يجعل المغاربة يتساءلون لماذا يفرضه الرئيس الحالي على ساكنة الصحراء الجنوبية مادام لا يؤمن به البتة. إن المرء يجد نفسه فعلا أمام تراجع خطير للديموقراطية بالجزائر وخاصة بعد التعديلات الدستورية المفبركة الأخيرة والتي أنجزت في وقت قياسي قصير أي في ثلاثة عشر يوما فقط ابتداء من 29 أكتوبر إلى 12 نونبر الماضية؛يتساءل معه المتتبعون عن سكوت الرأي العام الدولي وخاصة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدةالأمريكية عن هذا الانقلاب الأبيض المتناقض مع قيم الديموقراطية وروح المواثيق الدولية التي تؤمن بمبدإ تقرير مصير الأمة-الذي طالما نادى به الرئيس الحالي في حق سكان الصحراء المغربية- ومبدإ فصل السلط و توزيعها بين المؤسسات الدستورية عوض حكرها في يد سلطة واحدة ومبدإ توسيع فضاء الحريات العامة عوض تراجعها بل بروز ظاهرة تقاعس النظام عن التغلب على ظاهرة الإرهاب والعنف ؛إنه نفس الانقلاب الذي وقع بموريطانيا إذ بينما هو عسكري ظاهر في هذه الأخيرة هو انقلاب عسكري خفي بالجزائر وانقلاب بارز على الديموقراطية ؛وهو ما يتطلب تحرك المجتمع الدولي الذي طالما سكت عن انحرافات النظام الجزائري الذي وصل به الأمر إلى حد السماح لمنظمة البوليزاريو التي يرعاها بالتنسيق مع الجماعات الإرهابية بالصحراء الجنوبية من أجل القيام بعمليات العنف بموريطانيا وفي الصحراء المغربية ترويعا للساكنة الصحراوية ولزعزعة أنظمة كل من المغرب وموريطانيا .